ومن الأزهار ما يقتل الأنهار.. زهرة النيل غزت أنهارا عربية فأنهكتها

ومن الأزهار ما يقتل الأنهار.. زهرة النيل غزت أنهارا عربية فأنهكتها

لم يترك الشعراء والمغنون نوعا من أنواع الزهور إلا جعلوه مثار التعبير عن عواطفهم، ولا يجد العشاق في عيد الحب إلا الورد يتهادونه، وإن شئنا التوسع فالورد صار يحتل مساحة واسعة من حياتنا، نحمله كبادرة تهنئة إلى الأفراح، ونرسله كمشاركة في الأحزان إلى المآتم وخيم التعزية، ونضعه على طاولات المؤتمرات، وثمة دول تخصصت في زراعة الورود وتصديرها, ويجني أبناؤها ثروات منها، وبالورود نزين بيوتنا ومآدبنا، بل تفنن العرب في تحويل الورود إلى مربيات كما يفعل أهل حلب في سورية، وما أوسع الحديث عن مكانة الورود في كل جوانب حياتنا لو شئنا التوسع.

الورود التي هي رمز الحب والجمال وكل ما ذكرنا وما لم نذكر، تتحول فجأة إلى كابوس في العديد من الدول العربية، بل إن شئنا الإنصاف، ولنبرئ عشيرة الورود، هو نوع من أنواع الورود أقضّ مضاجع وزارات الزراعة والمعنيين بالثروة المائية والبيئة في هذه الدول، وهذا النوع أطلق عليه قاتل الأنهار، ولكن اسمه المتداول هو زهرة النيل أو وردة النيل أو زنبق الماء، أو عشبة الأنكورينا، أو أوركيد الماء، فما هي الزهرة قاتلة الأنهار هذه؟

هي من النباتات المائية الطافية على سطح الماء، ولهذا النبات شكل مميز وجذاب بسبب أزهاره الأرجوانية الكبيرة، وهو يتكون من مجموعة جذرية تحت سطح الماء، ومجموعة خضرية تطفو فوق سطح الماء، وهو بالأساس نبات عشبي ذو سيقان قصيرة طافية وجذور طويلة نسبيا ذات لون داكن يمتلك أوراقا دائرية أو بيضاوية الشكل ذات لون أخضر لماع، بعضها منتفخ يعمل كطوافات تساعد النبات في الطفو، وأوراقه مجمعة على شكل وريدة صغيرة ذات أعناق أسفنجية منتفخة تصل إلى (30) سم, وفيه سنبلة زهرية يتراوح طولها مابين ( 5- 15) سم تتكون من عدة أزهار تصل إلى عشر أزهار ذات ألوان أرجوانية مزرقة، والجزء العلوي فيها ذو بقعة أسفنجية ووسطها أصفر, أما الثمرة فهي غشائية ذات حجرات منتفخة ومنها تنتشر البذور , ويتراوح قطر النبات ما بين (20 30) سم، أما ارتفاعه فقد يصل إلى (100) سم، ويمتلك هذا النبات كتلة كثيفة من الجذور التي يستخدمها لامتصاص الماء والمواد الأولية الأخرى، ويقوم بصنع غذائه كبقية النباتات الأخرى بعملية التركيب الضوئي.

التكاثر والنمو

فترة التكاثر والنمو الرئيسية لهذا النبات هي الفترة الممتدة بين شهري أبريل ونوفمبر وتكون ذروة نموه وتكاثره في الأشهر ذات الحرارة العالية وهي يونيو ويوليو وأغسطس وسبتمبر، وحيث لا توجد دراسة دقيقة ناتجة عن تحليل تجريبي وإحصائي لسرعة نموه وانتشاره بشكل دقيق إلا إن المعلومات التقديرية العامة تؤكد بأنه ينتشر ويتكاثر بسرعة فائقة، فهو من أكثر النباتات إنتاجية على وجه الأرض، إذ يضاعف أعداده الموجودة خلال فترة من (5- 18) يوما، ويكون مسطحات كثيفة على سطح الماء، فينافس النباتات الأخرى المغمورة والطافية في الماء، ويكفي أن نعلم أن النبتة الواحدة تشغل مساحة تقدر بـ (2500) م2 في الموسم الواحد وينتشر هذا النبات عادة مع اتجاه جريان الماء، ويساعد انتشاره وجود الخلجان والتعرجات في المجرى، كما يحتمي ويساعد على تكاثره وجود القصب والبردي على الضفاف.

قاتل الأنهار العربية

الموطن الأصلي لهذا النبات هو حوض نهر الأمازون في قارة أمريكا الجنوبية، ومنها انتشر إلى العديد من دول العالم وخاصة في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية خاصة مصر وكينيا وأوغندا وتنزانيا وبنين والسودان، وينتشر أيضا في الولايات المتحدة الأمريكية وجزيرة جاوة وأستراليا.

أما بالنسبة إلى الوطن العربي فإن جميع الدول العربية التي ابتليت أنهارها ومسطحاتها المائية بنبات وردة النيل تتفق على أن الوردة تم إدخالها في البداية بحسن نية دون إدراك لمخاطرها الكبيرة، ففي العراق مثلا ظهر النبات في أواسط الثمانينيات بعد أن تم إدخاله كنبات زينة، ولكنه سرعان ما تكاثر في نهري الفرات ودجلة وروافدهما، وبعدها انتقل إلى جميع الروافد والأقنية والمسطحات المائية في العراق، والأمر نفسه حدث في مصر، أما في سورية فقد تم إدخال زهرة النيل عن طريق أستاذين جامعيين من أجل دراسة إمكان الاستفادة منها كطريقة طبيعية وصديقة للبيئة، وضمن المراقبة من أجل التخلص من المعادن الثقيلة الموجودة في مياه الصرف الصناعي، وكان الأمل من هذا الوصول إلى إدارة متكاملة في حال وصولها إلى البيئات المائية الطبيعية والمخربة، ولكن سرعان ما تبين أن هدف الباحثين أعطى عكس ما أراداه ، فتكاثر حيث أجريا تجاربهما بشكل مذهل، وبداية من عام 2006بدأ يغزو المسطحات المائية والأنهار، وأدى إلى انسداد مجاري بعض الأنهار وأعاق حركة الملاحة فيها، وعندها تداعت الجهات الوزارية والبيئية والمائية في سورية بعد أن اكتشفت أن مرور سنة واحدة على ظهور هذا النبات في أي نهر كاف لتغطية مجرى النهر بكامله، وأن تضاعف هذا النبات مخيف جدا حيث يتضاعف عددا ومساحة كل أسبوع تقريبا ضمن متوالية هندسية.

مخاطر كثيرة ومشكلات بيئية

مخاطر نبات زهرة النيل على الأنهار والمسطحات المائية كثيرة جدا، ومنها أنه يؤثر في نوعية المياه ويقلل محتواها من الأكسجين، وينتج عنها بيئة غير صالحة للأنواع الإحيائية الأخرى النافعة، ويشجع نمو أحياء أخرى ضارة، كما يستهلك هذا النبات كميات كبيرة من المياه، إذ يقدر استهلاك النبات الواحد حوالي لتر من الماء يومياً، أضف دوره في إعاقة الملاحة، كما أنه يسبب ضغطاً كبيراً على الجسور العائمة المنصوبة على الأنهار، مما يؤدي إلى إزاحتها وتحطيمها، ومن مخاطر هذا النبات أنه يحجب وصول ضوء الشمس إلى الأحياء الأخرى التي تعيش في الماء، وخاصة الهائمات النباتية التي تشكل القاعدة الأساسية للنظام البيئي والغذائي الأساسي للهائمات الحيوانية والأسماك، مما يسبب خللا في التوازن الدقيق للشبكة الغذائية، ومن أسوأ مخاطره تسببه بتبخر كبير للمياه خاصة في المياه الراكدة أو قليلة الجريان كمجمعات السدود والبحيرات.

ومن مخاطره أيضاً إنه يعيق عمليات الري من خلال غلق ومنع جريان مياه الري في الجداول الضيقة، وكذلك يقوم بغلق مضخات الري والبزل، ويزيح النباتات الأصلية المستوطنة عن طريق التنافس معها، والتغلب عليها وإحداث زيادة كبيرة في كميات المواد المتحللة الناتجة عن موت أجزاء من النبات وسقوطه إلى قعر الماء لينتج عنه بعد ذلك تغير وإخلال في النظام البيئي.

صعوبة المكافحة

لعل الخطورة الأكبر في قاتل الأنهار هذا هي صعوبة مكافحته، فهو يتكاثر بسرعة كبيرة تجعله يمتد إلى مساحات واسعة في الأنهار والمسطحات المائية، والوسيلة الأنجع والممكنة حتى الآن في مكافحته هي الطريقة الميكانيكية، أي باقتلاعه بواسطة الآلات، وهذا ممكن على ضفاف الأنهار وأطراف المسطحات المائية، حيث يمكن أن تصل الآلات، بيد أن الأمر يصير صعبا في التعرجات والمنحدرات المائية وحيث لا يمكن أن تصل الآليات الخاصة باقتلاعه، وحتى بعد اقتلاع النبات من مساحة ما لا يخلو الأمر من أن تفلت عن الاقتلاع زهرة أو بضع زهرات، وهي كافية لتعيد متوالية التكاثر من جديد، وليصحّ المثل العربي عندها: «كأنك يا أبا زيد ما غزيت».

ويحتاج الأمر بعد اقتلاع النبات تجميعه وتكديسه ضمن مراقبة شديدة بعيدا عن أيّ مكان مائي ثم تجفيفه، ثم طحنه فتعبئته في أكياس بلاستيكية ثم دفنه في مطامر، وهي برمتها عملية شاقة تضاف لعمليات القلع الشاقة أيضاً، ويتبع ذلك مراقبة مستمرة للمكان الذي تم تطهيره من هذه النبتة وما حولها خشية أن يكون قد جدد دورته عبر نبتة أفلتت من القلع.

وهناك الطريقة الكيميائية، فقد استنبطوا مواد كيميائية تقتل أزهار النيل، ولكنها تقتل أيضا الأحياء المائية الأخرى، لذا عزفت كثير من الدول التي ابتليت أنهارها بهذه الزهرة عن المكافحة الكيميائية مفضلة الطريقة الميكانيكية على ما فيها من جهد وكلفة عالية، ودون أن يتوقف البحث عن أعداء طبيعيين لهذا النبات الهالك، ومبدئيا اكتشفوا أن الجواميس يمكن أن تعتبر عدوا طبيعيا حيث لها شراهة كبيرة تجاه هذا النبات، كما اكتشفوا نوعاً من السلاحف يتغذى على هذه النبتة.. وبانتظار إيجاد مكافحة ناجعة، يبقى هذا النبات الجميل الهالك متفوقا على المكافحة مستحوذا باستحقاق على لقب قاتل الأنهار.. ومَن يدري!.

 

 

عبدالرحمن حمادي 




زهرة النيل.. ومن الجمال ما قتل!





على ضفاف نهر الأمازون تعود أصول نبتة النيل





النباتات وتكاثفها على ضفاف الأنهار يعوق مسيرتها





نباتات الأنهار تحتاج إلى وسائل ميكانيكية حديثة لاقتلاعها





المناطق الصخرية من أصعب الأماكن التي يمكن مكافحة نباتات النيل فيها





الصخور وأزهار النيل تحتاج إلى جهود كبيرة لإزالتها عن طريق الأنهار