الخفافيش مخلوقات الليل إبراهيم عبدالله العلو

الخفافيش مخلوقات الليل

تشكل الخفافيش ربع أنواع الثدييات الموجودة في العالم ومع ذلك استحوذت على انتباه عدد ضئيل من المتخصصين، ويجهل معظمنا كثيرا من الأمور حول حياة وعادات هذه المخلوقات الذكية المتعددة الأشكال، فهي تعيش بمنأى عن النظر في الظلمة والغسق في عالمها القديم والخاص إلى حد كبير.

يسود في الريف الفنلندي اعتقاد مفاده أن الروح تستطيع مغادرة الجسد خلال النوم وتطير في هيئة خفاش، وفي روابي غـواتيمالا هناك قبيلة من الهنود الحمر تسمى زونتيل "نسبة إلى الخفاش" ، وعاصمتهم هي زيمبانتلان أي موطن الخفافيش. وفي القرن الثامن عشر كانت الثياب الصينية تزركش وتزين برموز تضم خمسة خفافيش ذوات أجنحة مرسلة تطوق شجرة الحياة تدمج مفاهيم الصحة والنجاح والعمر المديد والسعادة والاطمئنان. ترى من تكون هذه المخلوقات الغريبة التي تتواثب عبر السماء؟.

لقد مرت الخفافيش عبر عملية مفردة من التطور قبل أكثر من 50 مليون عام وبقيت بلا تغيير منذ ذلك الحين، واليوم تم التعرف على ما يزيد على 1000 نوع تتراوح أحجامها من خفاش بحجم النحلة الطنانة إلى أشباه ثعالب عملاقة طائرة تنشر أجنحتها بعرض مترين.

يتباين كل مظهر من مظاهر الوجه الذي يطغى عليه ملامح الأذنين والخطم بشكل لافت للنظر تبعا للعائلة والجنس، وفي كثير من الأنواع تحيط حلية لحمية تسمى رقاقة الأنف بالمنخرين مضفية أثرا شاذا وكأن المخلوق قد قدم من عالم آخر.

تعتبر الخفافيش الثدييات الوحيدة التي أتقنت فن الطيران الفعلي مما مكنها من فتح بيئات جديدة واستيطان كل قارة وكثير من الجزر، والطيران هو الأسلوب الأولي للتنقل لدى جميع الخفافيش، تأقلمت بعض المجموعات على الطيران في الأماكن المفتوحة والارتفاعات الشاهقة حيث امتلكت أجنحة طويلة ضيقة، تقلع بعض الخفافيش بسهولة من الأرض، إذ ترفرف وتحلق، وبعضها الآخر يثب في الهواء وينشر أجنحته ويطير، ولأنها تمتلك القدرة على الطيران تتمكن الخفافيش من مباشرة أنواع الهجرات الشائعة لدى الطيور المهاجرة، وفي الخريف تترك أنواع عديدة مساكنها الصيفية وتعاود التمركز في مناطق ذات شتاء دافئ حيث تقضي الفصل البارد من خلال الحفاظ على معدل استقلاب "أيض" منخفض. وتقطن الخفافيش جميع الأصقاع باستثناء المناطق القطبية المتطرفة والصحاري الحدية، وتكثر بشكل خاص في المناطق الاستوائية، وفي غابات إفريقيا تفوق أعداد الخفافيش أعداد أي حيوان ثديي آخر. تسكن الخفافيش عادة في مستعمرات، وبالفعل فإنها تشكل المستعمرات الأكثر حجما والأكثر تعرضا للهجوم والأذى بين الحيوانات ذوات الحرارة الثابتة، وعموما تشكل الخفافيش التي تسكن في مجموعات كثيفة مستعمرات كبيرة ويلتصق أحدها بالآخر بينما يقطن بعضها في مجاثم أقل تلاصقا.

تؤلف بعض الأنواع مجموعات صغيرة تتراوح بين عدة عشرات إلى عدة مئات من الأفراد، وهناك نمط أقل شيوعا يتمثل بالأنثى البالغة الوحيدة والتي تسكن مع ذريتها الأصغر عمرا، وفي بعض الأحيان يسكن أحد الجنسين في مستعمرات بينما يعيش الجنس الآخر بمعزل عنه، يفضل كل نوع من الخفافيش نوعا محددا من المساكن، البعض منها يفضل منازل منعزلة آمنة مثل الكهوف أو الصدوع في المنحدرات الصخرية وتجاويف الأشجار وجحور الحيوانات والمباني المهجورة. تعيش بعض الأنواع في العراء على جذوع الأشجار وفي ثنايا الأغصان وتحت أوراق النخيل وعلى سطوح الصخور والأبنية. وبالنسبة لبعضها فإن الظلمة واستقرار درجة الحرارة والرطوبة والعزلة عن الضواري أمر أسا سي وحيوي لوجودها.

تختار أنواع عديدة مساكن حضانة خاصة حيث يجتمع فيها أعداد كبيرة من الإناث الحوامل بمعزل عن الذكور والإناث غير الحوامل وأنواع خفاش أخرى، تمتلك الخفافيش معدل تناسل منخفضا بشكل غير اعتيادي- وعادة مولود واحد كل عام- تأتي المواليد كبيرة تزن بين 15 و 30 في المائة من وزن الأم بعد الولادة وبينما تذهب إناث الخفاش بحثا عن الطعام تترك الصغار معلقة جنبا إلى جنب أو في مجموعات صغيرة حيث تلعب بخشونـة وتهوي إلى الأرض، ولدى عودتها إلى المسكن تبحث الأنثى عن صغيرها من خلال الرائحة والموقع، تولد صغار الخفاش غالبا عمياء صماء ويظهر هناك معدل وفيات مرتفع بين الصغار، وبينما تأخذ الأخطاء الوراثية والتطورية والمرض نصيبها تسبب الحوادث خسائر أكثر جدية إذ قد يسقط الصغير من السقف أو يتعرض لاصطدامات مميتة في محاولات الطيران المبكرة، يفشل عدد لا بأس به من الخفافيش في اجتياز المرحلة الانتقالية من صغار معتمدة بالكامل على الكبار إلى كائنات رعي تعتمد على الذات.

وتتغذى الصغار على الحليب لفترة تتراوح بين خمسة إلى ستة أسابيع. وعندما تبلغ الشهرين من العمر تكون قد وصلت إلى الحجم البالغ وتبدأ بالطيران.

الخفافيش مخلوقات الليل، إذ تبقى معظم الأنواع تقريبا في مساكنها خلال النهار وترعى خلال الليل، تستيقظ الخفافيش عند الغسق وتخرج غالبا من الكهف قبل حلول الليل بحثا عن الغذاء، لقد طورت الخفافيش نظاما مثاليا للعثور على الموقع بالصدى وعن طريق إرسال إصدارات فوق صوتية منتشرة في ثلاثة أبعاد تدرك العقبات والفرائس في عتمة الدجى، يتطلب استخدام هذه الخاصية تكامل المراكز الصوتية والسمعية في الدماغ إضافة إلى الآذان الحساسة.

يقوم الجهاز العصبي في الخفاش بتحليل صدى نبضه الذاتي في عدة آلاف جزء من الثانية، ويتوجب عليه فصل هذا الصدى عن أصداء الخفافيش الأخرى. ويجب أن يتم كل ذلك بينما يكون الحيوان وغالبا الفريسة في الفضاء. ومن المعلوم أن الخفافيش تعرف وتتعقب وتطارد وتأسر الضحايا حتى الصغيرة منها "حتى حجم 3 ملليمتر"، وتحدد وتتفادى أسلاكا دقيقة دقة شعرة من شعر الإنسان.

غذاء الخفافيش

تتغذى معظم الخفافيش على الحشرات الطائرة، وقد يستهلك خفاش واحد حتى 3000 حشرة أو أكثر كل ليلة، وتلتهم مستعمرات الخفاش الكبيرة مليارات لا حصر لها من الحشرات، وقد تلتهم مستعمرة كهف براكين في تكساس من الخفافيش ذات الذنب الحر- والتي قد يزيد عددها على 20 مليون خفاش- ربع مليون رطل من الحشرات في ليلة واحدة ولتفاعل الخفافيش مع غذائها سواء كان حشرات أو أزهارا أثر لا يستهان به على المجموعات البيولوجية، وتعتمد كثير من النباتات على الخفافيش من أجل التلقيح، إذ تلقح الخفافيش الآكلة للرحيق أكثر من 200 جنس من الأشجار والشجيرات الاستوائية وشبه الاستوائية، وتخصص كثير منها إلى درجة عالية لاجتذابها حيث لا تتفتح الأزهار إلا في الليل.

وتلعب الخفافيش دورا واضحا وحيويا في العديد من الأنظمة الإيكولوجية، وقد يقدح ضياع نوع مفرد سلسلة انقراض مترابطة لنباتات وحيوانات أخرى ويؤدي لهلاك الأنظمة الإيكولوجية الرقيقة، ومع ذلك تتعرض الخفافيش للأذى بلا مبرر، وتختفي بمعدلات تقرع ناقوس الخطر، لقد هلكت مستعمرات يزيد عدد أفرادها على مئات الألوف وحتى عدة ملايين، ومعظم المستعمرات الكبيرة ذهبت بلا عودة لقد ساهم زحف الحضارة والتصنيع في إزالة مواطنها الطبيعية على نحو غير مسبوق، ولأن أنماط حياتها خاصة للغاية يصبح التكيف والتأقلم مع مثل تلك التغيرات صعبا، وهناك أنواع عديدة تقف على حافة الانقراض.

مذابح على رائحة الأساطير

لعبت التصورات الخاطئة والتي سادت لردح طويل من الزمن دورا رئيسيا في الانقراض الجماعي، ولقرون عديدة ارتبطت كلمة خفاش بفكرة المخلوقات الخطيرة التي لم تدل على شيء سوى المرض، وكان لعاداتها الليلية وطيرانها الصامت أثر كبير في الخرافة التي ازدهرت وشاعت بين كثير من البشر بأن الخفافيش كانت مرتبطة بقوة خارقة للطبيعة. وصور الشر غالبا في هيئة ساحرات وشياطين لها أجنحة خفاش، تصور الخفافيش غالبا على أنها مخلوقات ضارة وقذرة ناقلة للأمراض ولكنها في الواقع مخلوقات رقيقة ونظيفة للغاية، ونادرا ما تنقل الأمراض أو الطفيليات إلى الحيوانات الأخرى أو البشر، ورغم الادعاءات العديدة فإن معظم الخفافيش ليست مسعورة، وأقل من نصف من واحد في المائة تلتقط داء الكلب ونادرا ما تصبح عدوانية، وعندما يصاب أحد الأفراد فإن ذلك لتعرضه لخفاش مريض عضه في دفاع عن النفس، ويقوم الناس بتسميم الخفافيش بمواد كيماوية عالية السمية إضافة إلى حملات التطهير الضخمة التي تجري الآن في بعض البلدان، إذ تواجه الخفافيش تهديدا مزدوجا، فهي تصطاد للاستهلاك الآدمي في أصقاع عديدة من آسيا وإفريقيا وجزر المحيط الهادي، وفي بعض البلدان يحصد كل عام مئات الألوف منها كطعام فاخر، وفي جوام GUAM يشتري المتسوقون الخفافيش نظير 25 دولارا أو أكثر، وفي أسواق غرب إفريقيا قد يكسب الصيادون مبالغ تصل إلى 500 دولار كل يوم عن طريق بيع محصولهم.

دفاعا عن حق الوجود

تعتبر الخفافيش أيضا طيورا مؤذية آكلة للثمار، مع أنها لا تستهلك سوى الثمار الشديدة النضج غير الملائمة للتسويق، وقد تدنت أعداد بعض الأنواع إلى ما دون 10 في المائة في أستراليا وجنوب شرق آسيا وجنوب المحيط الهادي، هناك بعض الأنواع تواجه الانقراض قبل أن تصنف في عداد الحيوانات المهددة للانقراض، ومع توافر التشريعات القانونية المتزايدة التي تهدف إلى حمايتها فإن متطلبات الحفاظ على الخفاش هي أبعد ما تكون عن التنفيذ، قام الدكتور ميرلين توتل من متحف ميلوواكي العام بتأسيس جمعية حماية الحياة البرية العالمية BCI في أوستن بولاية تكساس الأمريكية، وفي الماضي تجاهلت منظمات حماية الحياة البرية العالمية المحافظة على الخفافيش لأنها كانت تعتبر جهودها عديمة الجدوى، بلغ عدد أعضاء الجمعية 3000 عضو في 34 دولة وتسعى جاهدة للمحافظة على أعداد الخفافيش في العالم.

دفعت الحماية القانونية للمساكن الشتائية ومستعمرات الأمومة إلى وضع حواجز مشبكة على مداخل ومخارج منظومات الكهوف والأروقة تسمح بمرور الخفافيش ولكنها تمنع تدخل البشر والحيوانات التي تشكل تهديدا عليها، وفي السنوات القليلة الماضية جرت محاولات لتقديم مساكن بديلة مثل قوالب أسمنتية مفرغة تثبت على أسقف الأقبية غير المستخدمة وعلب نوم وتناسل مصنوعة من الخشب.

تقع مسئولية حماية الحيوان على كل فرد منا، والخفافيش مثلها مثل أي مخلوق حي آخر تمثل رابطة في كلية الطبيعة ولها حقها في الوجود، هل قدر على الخفافيش أن تهلك وتفنى مثل كثير من أنـواع الحيوانات البرية الأخرى والتي دفعت إلى صدام قاتل مع الجنس البشري؟ هذا سؤال نترك إجابته للأيام القادمة.

 

إبراهيم عبدالله العلو

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




يقوم خفاش البلدغ المكسيكي بالصيد باستخدام قدميه ومخالبه الضخمة من أجل اقتناص الفريسة من الماء





أحد أكثر الأنواع انتشارا وشيوعا في الولايات المتحدة هو الخفاش البني الكبير





الخفافيش الصفراء الأجنحة مثل هذا الزوج آكلة للحشرات وتشترك في مسئولية تربية الأطفال