التدخين هل يمكن الإقلاع عنه؟ أسامة عبدالعزيز

الهنود الحمر في أمريكا- هم أول من عرفوا التدخين. اشتعلت النار بالمصادفة في أحد المزارع فإذا برائحة الدخان تثير الشهية لاستنشاقها. وما أن خمد الحريق حتى بدأ حريق آخر في أيدي الهنود الذين أقبلوا عليه في شراهة. وجاء كولومبس واكتشف أمريكا واكتشف التدخين أيضا.

كان الهنود يستخدمون التوباكو (التبغ) بالطريقة نفسها التي نستخدمها اليوم على وجه التقريب وكانوا يعتقدون أن له استخدامات طبية ويقبلون عليه في احتفالاتهم، كما كان أحد الطقوس المهمة في اتفاقات السلام فيما بينهم حيث كان تدخن الغليون رمزا للوفاق والسلام.

وكلمة توباكو كلمة هندوأمريكية تعني الماسورة أو الأنبوبة التي كانوا يستخدمونها في استنشاق الدخان أو الأسطوانة الورقية التي يلف فيها الدخان، ومع شيوع استخدام الكلمة أصبحت تطلق على النبات الذي يدخنونه، ولم يكن استخدام الهنود الحمر له مقصورا على حرقه وتدخينه بل كانوا يمضغونه ويستنشقونه ويستخلصون المادة الفعالة منه.

وبدأت أوربا على البعد، تشم رائحة التبغ وتسعى لاستزراعه فيها بحثا عن فوائده الطبية المزعومة، وكانت فرنسا هي البادئة عام 1556 م وتبعتها البرتغال ثم إسبانيا وإنجلترا.

ومن المعتقد أن سفير فرنسا في لشبونه بالبرتغال (جين نيكوت) قام بإرسال بعض بذور التبغ إلى زوج الملكة وحاكم فرنسا آنذاك، وأن كلمة نيكوتين استخدمت على شرف السفير السيد نيكوت، وتعبيرا له عن الشكر على هديته.

وانتشر استخدام التبغ في العالم كله بعد ذلك بفترة قصيرة بفضل البحارة البرتغاليين والإسبان الذين كانوا يجوبون البحار في شتى أنحاء الأرض، وبدأت العديد من الدول في زراعته وتصديره، وسرعان ما أصبح التبغ السلعة الرئيسية التي تقدم في مقابل المصنوعات الأوربية الفاخرة، وتطورت زراعة التبغ وطرق استخدامه وتجفيفه وإعداده ليتحمل الشحن في المحيطات وعبر البحار وللحفاظ على. رائحته ونكهته، ومن المؤكد الآن أن حوالي ثمانين دولة تنتج التبغ وتصل الكمية المنتجة منه في العالم سنويا إلى عشرة آلاف مليون رطل.

حجم استهلاك السجائر

كان استهلاك التبغ أكثر ما يكون في أمريكا في الستينيات حيث بلغ المتوسط 12 رطلا (5.4 كيلو جرام) من الدخان لكل بالغ سنويا، أو حوالي خمسة آلاف سيجارة للفرد في السنة، أي أن أمريكا الشمالية وحدها تستهلك خمسمائة ألف مليون سيجارة سنويا.

وكذلك كانت المعدلات في سويسرا، وفي إنجلترا كان المتوسط أقل قليلا (3 كيلو جرامات- ثلاثة آلاف سيجارة سنويا لكل بالغ)، أما في الهند وبعض مناطق إفريقيا فقد كان المتوسط كيلو جراما واحدا لكل فرد بالغ، أي ألف سيجارة سنويا، وهي معدلات مخيفة، وفي السنوات الأخيرة بدأت هذه المعدلات تقل في الدول المتقدمة مع الحملات القومية والتحذيرات الطبية المتكررة إلا أنها تزداد مع شديد الأسف في الدول النامية، وبين الشعوب الفقيرة والطبقات غير المثقفة.

هل التدخين حقا ضار بالصحة؟

إن العلاقة بين التدخين والمشاكل الصحية الناتجة عنه ليست وليدة العصر الحديث في واقع الأمر، بل إنها قديمة قدم معرفة الإنسان بالتدخين ذاته، ففي عام 1604 أصدر الملك جيمس الأول ملك إنجلترا أول مرسوم في العالم يدين فيه التدخين ويحذر منه، وبعد ذلك بأكثر من مائتي عام صدر أول تقرير طبي عام 1859 من مستشفى في مونت بليير في فرنسا يؤكد أن 68 مريضا ممن أصيبها بسرطان في الشفاه أو اللسان أو اللوزتين أو أجزاء أخرى من الفم كانوا جميعا من المدخنين، وبرغم هذه التقارير والتحذيرات المبكرة جدا فإن التدخين انتشر على أوسع نطاق وظلت الأمور حتى كانت الحرب العالمية الثانية حيث لاحظت السلطات الصحية في مناطق مختلفة أن الوفيات من سرطان الرئة ومن أمراض أخرى عديدة أصبحت تمثل ظاهرة. خطيرة في الدول التي ينتشر فيها التدخين، وبدأت الأبحاث في هذه المجالات تظهر في كل من أمريكا وإنجلترا، ففي عام 1954 أظهرت الإحصاءات التي قام بها كل من مجلس البحوث الطبي البريطاني، وجمعية السرطان الأمريكية- كل على حدة- أن الوفيات بين المدخنين أكثر بكثير عنها بين غير المدخنين.

وفي عام 1962 أعلنت كلية الأطباء الملكية في لندن أن التدخين خطر كبير على الصحة، وبدأت الحكومة الإنجليزية حملة قومية للتوعية بأضرار التدخين، وأعقب ذلك التقرير الذي نشرته جمعية السرطان الأمريكية مؤكدا أن هناك خطر الموت من التدخين والذي يزداد مع زيادة عدد السجائر التي يدخنها الشخص.

وفي عام 1964 أعلن الجراح الأمريكي العام (مسئول الصحة الأول) آن التدخين يسبب 70% من سرطان الرئة وأكد التقرير أن ضرر التدخين على الصحة لا مجال لمناقشته وحث على ضرورة الحد من انتشاره وأوضح أيضا أنه يتسبب في أمراض الشريان التاجي والتهاب الشعب الهوائية المزمن وتليف الرئتين، وأضاف أيضا أن التدخين بالبايب يسبب سرطان الشفاه.

وبناء على ذلك أصدر الكونجرس القانون الفيدرالي عام 1965 الذي يحدد فيه ضرورة وضع تحذير على كل علبة سجائر تباع اعتبارا من أول يناير 1966 وبدأت الحملات القومية ضد التدخين ومنعت الإعلانات عن السجائر اعتبارا من أول يناير 1971، وتولت كل من جمعية السرطان الأمريكية وجمعية القلب الأمريكية حملات مكثفة لمنع التدخين، ويكفي أن نعلم أن عدد الوفيات بسبب التدخين يصل في أمريكا وحدها إلى 350 ألف شخص سنويا وهي سبعة أضعاف الوفيات بسبب حوادث المرور، وتقدر الوفيات في العالم كله ب 2,5 مليون سنويا، هذا بخلاف من تقعدهم الأمراض التي يسببها التدخين وأهمها أمراض القلب والرئتين.

ولذلك فإن التدخين يعتبر من أشد الأشياء خطرا على الإنسان، وتؤكد الإحصاءات أن عمر الإنسان يقصر بمعدل 14 دقيقة عن كل سيجارة يدخنها.. فكم سيجارة تحب أن تدخن الآن؟!

التدخين وأثره على أجهزة الجسم

يتسبب التدخين في التهابات الشعب الهوائية كافة ويتلف الأهداب الدقيقة التي تساعد على تنقية الهواء من الشوائب ويقلل كفاءة الرئتين فتعجز عن مبادلة الأكسجين اللازم لتنقية الدم بثاني أكسيد الكربون: التدخين يسبب سرطان الرئة وأمراض القلب وتلف الرئة وقد يسبب مضاعفات للحوامل.

يظهر تأثير التدخين على القلب أسرع من غيره من أجهزة الجسم، فالسيجارة الواحدة تسبب زيادة في ضربات القلب وعدم انتظامها وارتفاع ضغط الدم وتساعد على تجلط الدم وزيادة لزوجته وتسبب انقباضا بالشرايين التاجية، وتبكر بحدوث تصلب الشرايين بصفة عامة وانسداد شرايين الأطراف وتزيد فرصة حدوث الموت المفاجئ.. فهل يبقى للقلب شيء من الصحة بعد كل هذا؟. كل هذا التدمير تحدته السجائر بالقلب.

يكفي أن نشير إلى هذا التحذير: "التدخين في أثناء الحمل قد يتسبب في إصابة الجنين والولادة قبل الموعد وخفض وزن الجنين".

بالإضافة إلى ما سبق يجب ألا ننسى أن السرطان بكل أنواعه أكثر انتشارا بين المدخنين، ومتاعب المعدة - بما في ذلك قرحة المعدة- ليست بعيدة عن المدخنين.

ويبقى سؤال مهم قبل أن نحاول العلاج:

هل التدخين إدمان؟

كان المعتقد حتى وقت قريب أن التدخين عادة يمكن التوقف عنها مع الإرادة وأن من يفشل في الامتناع عن التدخين يفتقد هذه الإرادة، وكانت شركات الدخان تروج لهذا المفهوم حتى لا يتخوف الناس من التدخين، ولكن اتضح في الحقيقة أن هذا وهم كبير، حيث تشير الإحصاءات إلى أن ثلث المدخنين في العالم يحاولون جادين التوقف عن التدخين إلا أن من ينجح منهم بالفعل لا يزيد على 20% ويعود 80% منهم للتدخين مرة أخرى، وهذا الفشل يوازي ما يحدث تماما بالنسبة للمواد المسببة للإدمان كالهيروين وغيره.. إذن فالتوقف عن التدخين ليس- كما يشاع شيئا بسيطا وسهلا.

والعبرة في التوقف عن التدخين هي الاستمرارية لمدة لا تقل عن عام حتى يقال إن الشخص نجح في ذلك، وإلا فكما يقول مارك توين أحد أشهر المدخنين في العالم إن الإقلاع عن التدخين سهل جدا فهو شخصيا قد فعل ذلك ألف مرة.، أي. أنه تمكن من الإقلاع عن التدخين لمدة ساعة في اليوم مثلا أو في أثناء نومه.

والتدخين لا يسبب الإدمان لمادة النيكوتين فقط، وإلا لكان من السهل استخدام مادة النيكوتين كعقار يغني عن التدخين، ولكن الواقع أعقد من ذلك بكثير.. حيث إن العادات الإدمانية الأخرى المصاحبة للتدخين والارتباطات النفسية به لا يمكن تجاهلها.

هل يمكن إذن الإقلاع عن التدخين؟

هناك عدة طرق ومحاولات تمت للمساعدة على تحقيق هذا الهدف وتشمل:

- نشر الوعي بمخاطر التدخين بكل الوسائل الإعلامية المتاحة مع تأكيد أن فرصة التعرض للأمراض الناتجة عنه تقل مع الوقت وقد تتساوى مع من لم يدخنوا قط.

- العلاج الجماعي حيث يجتمع المدخنون في مجموعات ويقدم لهم برنامج رياضي ومحاضرات وشرائط وتشجيع ومتابعة، وذلك عن طريق عيادات متخصصة لهذا الغرض يوجد منها الآن العديد في بعض الدول منها أمريكا والسويد وإنجلترا وسويسرا والنمسا.

- العلاج الدوائي، وتعتمد هذه الطريقة على أن أهم المواد الفعالة في الدخان هي النيكوتين، ولذلك بدأ استخدام علك (لبان) للمضغ يحتوي على النيكوتين واستخدم لأول مرة في السويد عام 1970 (Nicorette) ثم وافقت أمريكا على استخدامه عام 1984 بوصفة من طبيب، ثم ظهرت أخيرا لصقة توضع على أي مكان بالجسم تحتوي على ثلاثة تركيزات مختلفة يستخدم كل تركيز لمدة أربعة أسابيع (Nicotinell Tts) ويبدو أن النتائج مشجعة، وفي الاتحاد السوفييتي استخلص العلماء مادة تسمى جامبازين (Gambasine) من نبات ينمو في وسط آسيا وله طعم النيكوتين إلا أنه يقل 30 مرة في سميته عن مادة النيكوتين التي تضاهي مادة الزرنيخ في سميتها.

وهناك بعض الطرق التي تستخدم في العلاج ومنها التنويم المغناطيسي والإبر الصينية واستخدام الفلتر وألعاب اليوجا ومزاولة الرياضة وجلسات التأمل، وكذلك استخدام بعض الصدمات الكهربائية المؤلمة أو المناظر المزعجة وربطها مع كل مرة يلجأ فيها الشخص للتدخين في محاولة لتنفير المدخن من العادة ذاتها.. ومن هنا تتضح الصعوبة في التوقف عن التدخين.

وفي السنوات الأخيرة أيضا بدأت بعض المجتمعات في اعتبار التدخين شيئا غير مرغوب فيه وذلك بفضل الجمعيات التي نشأت لحماية غير المدخنين من المدخنين والتي تواصل جهدها ونجحت في منع التدخين بالقانون في أماكن التجمعات والمكاتب العامة ووسائل المواصلات والقطارات والطائرات والمسارح ودور السينما والمستشفيات والمحلات الكبرى وبعض الفنادق أو أجزاء منها حيث توجد غرف للمدخنين وأخرى نظيفة من كل ما يوحي أو يساعد على التدخين، وهكذا يحس المدخن أن التدخين عادة قبيحة وهي لا شك كذلك،. كما أنها لا شك عادة مدمرة للصحة ومخربة للاقتصاد، وترفع أمريكا اليوم شعار "أن يكون العالم خاليا من التدخين بحلول عام 2000" فهل يتحقق الحلم؟ سوف نرى.. وعلى كل مدخن أن يختار بين سيجارته أو صحته.