عنف الصورة وسطوتها

عنف الصورة وسطوتها

يتحدث بيير بابان عن مقولة «الانفعال» كبوابة دخول إلى عالم السمعي البصري، سواء تعلق الأمر بمشاهدة التلفزة أو إبداع ملصق إشهاري. وتضاف إلى هذه المقولة، مقولات الهالة الروحية (Ground), الصورة (Figure)، التي تعتبر أساسية لفهم اللغة السمعية البصرية. ويقصد بابان بالهالة الروحية عدداً من العناصر هي: الخلفية وجوهر الواقع، البيئة، السياق، المظهر، الوعي واللاوعي، فضلاً عن طبيعة التفخيم «Modulation» التي هي من طبيعة اللغة السمعية البصرية، فالتفخيم يحدد «مركبا من الاهتزازات يتنوع في الكثافة والارتفاع والتناغمات والدرجات، أي يتنوع في الموجات الصوتية والضوئية المختلفة». لكن يجب أن نتصور هذه العملية كلغة، أي نسق من العلامات، لغة تتعدد بالدلالة، فاللعبة في النهاية، لعبة حواس تسقط الذات أمام سطوة الصورة وعنف متخيلها.

المعرفة السمعية البصرية عند بيير بابان: في كتابه «لغة وثقافة وسائل الإعلام» والذي قام بترجمته الناقد والمترجم إدريس القري، يشير بابان إلى مصطلح الرمزية كمعرفة وقدرة متجاوزة للسمعي البصري، حيث السيادة للتخيل، وعبر التعارض مع مفاهيم الثقافة، من خلال إعادة الاعتبار للطبيعة بالمعنى المشترك لما هو معطى هناك، أي الجسد والجنس والأرض والجو.

وبالعودة لمقولة الهالة الروحية «الخلفية» فهي تعتبر أكثر أهمية في السمعي البصري وفي وسائل الاتصال عموما، مما هي عليه في الموضوع النظري، وعلى العكس من ذلك ينكشف موضوع الصورة أكثر من انكشاف الخلفية في اللغة المكتوبة وفي الثقافة الأدبية، ثمة ارتباط يفرض بين الخلفية وموضوع الصورة نفسه كأحسن أداة ليس للتحليل بل للإبداع أيضا، والارتباط بينهما متغير من لحظة إلى أخرى. يضع بابان مصطلح الخلفية Arrière-Plan كمقابل لمصطلح موضوع الصورة عوض مصطلح الهالة الروحية Ground، وهذا الأخير يكثف مظهرين للواقع، أحدهما داخلي غير مرئي والآخر خارجي مرئي وهو يعني كما سبق:

  • الخلفية وجوهر الواقع.
  • البيئة والأساس.
  • السياق وعلة الوجود.
  • المظهر والعلة الشكلية «الصورية».
  • الوعي واللاوعي.

وقد وظف ميلان كونديرا الروائي هذا المصطلح في روايته الخلود L immortalité كمقولة أساسية لفهم العالم، ويضرب بابان مثلاً بصورة امرأة تقف على سطح بناية تتكئ على درابزين وخلفها تلوح أطراف بعض الشجيرات، ويؤكد بابان أن «الهالة الروحية للصورة التي تحدث من وجود المرأة في مقدمة الصورة في لقطة كهذه، ثم المرأة نفسها في مرج أخضر مليء بالزهور هي الأساسية وذات الأسبقية في الصورة الضوئية، على خلاف ما يحدث في الاتصال المباشر بالواقع أو في المكتوب». فالهالة الروحية هي التي تجسد الروح وتمنح المعنى وتنتج الأثر على المتفرج، وكشفها على هذا الوجود العميق، يجسّد سطوتها الرمزية والتي تتشعب سياقات عدة في ترجماتها كلغة. وعند التركيز على كلمة تصوير ضوئي Photographie أي الكتابة بالضوء يرقى وسيط «الهالة الروحية» إلى صف مانح للمعنى، لكن في ظل سياق المشاركة التفاعلية، أي الاندماجية، فإذا كانت الهالة الروحية هي ما يوجد في خلفية وعي شخص معين، فموضوع الصورة هو ما يوجد في المقدمة، وكلاهما يشير إلى واقع ذاتي، سمته التغير والتنوع.

تكوين الصورة:

تميز موضوع الصورة بسياقات لغتها وتداولها، أحد أهم الأشكال لإبراز قوانين تمظهراتها كالتركيب، الانبثاق، التناغم، الزمن، الاختلال.

إن تكوين الصورة كما طرحه بابان، يعتبر مفهوما دقيقا، والمقصود به «تشكل الموضوع تخييليا على شكل صورة تلقائية الانبثاق بالتخيل الباطني قبل إخضاعها للتخطيط الذهني التجريدي»، وهو إلى جانب ذلك إنتاج اللغة التي تحفز وتغذي الكامن التخييلي للجمهور، وذلك عن طريق بنيتها وشكلها وإيقاعاتها. ولا يحدد هذا المعطى ما ينتج الصور الضوئية فقط، بل وما يحدد مضمونها كتمثيل بصري للواقع، مع تضمين الإيحاء Connotation.

وداخل هذا الإطار يشير بابان إلى صور المستقبل «الصورة الإلكترونية»، والتي تميزها التقنيات التي تصنعها، الحواسب الآلية التي تمكن من ترقيم الصورة، ومن إبداع الصور التركيبية Image de Synthèse، والتخطيط اليدوي Holographie الذي يسمح بالانتقال الى خمسة أبعاد، وأخيراً احتواء بعض هذه الصور لأنواع الموسيقى الكهروصوتية Electro-Acoustique، وتستدعي هذه الصور مجالا أكبر للحرية في الإخراج والإيحاء، وبالتالي في حرية المتلقي في إدراك المؤثرات النفسية والمعنى، ومن بين أهم تجليات سطوة الصورة مفهوم «الاستقطاب» والذي تمارسه الصورة عن طريق الهالة، وحل العقدة، عن طريق التماثل والاتصال الرمزي، ودائما يكون المخرج هو المايسترو في موضعة عناصر الخطاب بالتكيف التلقائي، في تناسق عناصر الخطاب عبر أجزائها. وأيضا في الاشتغال عن طريق أجزاء صغيرة من الواقع تتعالق فيما بينها، وفي اتصال رمزي هو عبارة عن علاقة متبادلة بين الألوان والعواطف وبين الأصوات والانفعالات ثم بين الإيقاعات والأشكال.

ويكفي التذكير هنا بالتقرير الأمريكي الذي قدمه الوزير «كولن باول»/المعتدل، لخلق صورة محددة حول «أسلحة الدمار الشامل العراقية» نقلت عبر قنوات اتصال ، ففعل التسويق هنا ، موازٍ لفعل الاستقطاب لرد فعل ما قادم لا محالة وهو ما وقع فعلا-. يؤكد بابان في الأخير، على مقولة الصورة الباطنية تلك التي تكون تحت تبعية الروح، وذلك في عرضه السريرة L intériorité كحل. هذا الطابع الثابت الذي يوجهنا من الأعماق، نحو ما هو إنساني وموحد أكثر.

حياة الصورة وموتها عند المفكر ريجيس دوبري:

في سنة 1992، صدر للمفكر الفرنسي ريجيس دوبري كتاب «حياة الصورة وموتها» مؤلف يضاف إلى مؤلفاته العديدة في الفكر والثقافة والوسائطية، ويعتبر المفكر دوبري الذي عاش تجربة الكفاح المسلح في بوليفيا مع تشي جيفارا رئيس التحرير دفاتر الوسائطية الرائدة في مجال تحليل الوسائط وآلياتها الثقافية. الكتاب قدم إلى اللغة العربية من خلال ترجمة الدكتور فريد الزاهي سنة 2002.

كتاب «حياة الصورة وموتها» هو بحث حسب المترجم في الوساطات التي تتكفل بإرسال وتناقل وتواتر المعلومات والكائنات والحالات المادية والذهنية، وهو بذلك يجيب عن نظرية دوبري «الوسائطية» والتي يعتبرها حقلا للتفكير تتقاطع فيه المناهج، دون أن نغفل المنظور الفلسفي والغنى الفكري المتحكم في أفكار الكتاب.

الاهتمام باللغة لا الصورة

ونحن نعيد التأكيد على مقولة الباحث فريد الزاهي الذي يعتبر مباحث الصورة في العالم العربي «مازالت تعاني الضعف والهون، نظرا لهيمنة اللغوي على البصري في حقل الثقافة العربية المعاصرة» ونظرا من جهة ثانية للتعقد المنهجي والنظري لمباحث استقراء الصورة. ويكشف ريجيس دوبري أن البصر Regard يؤمن التواصل بين العناصر انطلاقا من المرئي إلى الرائي، وتشتغل الصورة بوصفها سلطة فعلية وسواء أكانت هذه الصور موحشة أو مخففة عن النفس، مدهشة أو فاتنة، يدوية أو آلية، ثابتة أو متحركة، بالأبيض والأسود أو بالألوان، صامتة أو ناطقة، فإنها تمارس الفعل وتحث على رد الفعل.

ويسعى المفكر دوبري من خلال «حياة الصورة وموتها» من تقديم السنن Codes اللامرئية للمرئي. ووسائطية Médiologie الصورة تحمل كل غموض المنهج الواقع في موطن تقاطع معارف عديدة, ولولادة الصورة علاقة وطيدة مع الموت، وهو مايشير إليه دوبري كلما انمحى الموت من الحياة الاجتماعية غدت الصورة أقل حيوية، وكلما أصبحت معها حاجتنا للصور أقل مصيرية، يقول باشلار «الموت هو أولا وقبل كل شيء صورة، وسيظل كذلك».

ويشكل التواتر الرمزي إحدى خصائص الصورة، بحكم وظيفتها العلائقية، فهي تربط بين الأطراف المتناقضة، ووظيفتها الرمزية ليست خاصيتها الوحيدة، فخلال آلاف السنين أدخلت الصور الناس في نسق من المقابلات الرمزية بين النظام الكوني والنظام الاجتماعي، وتسعفنا نظرية الوسائطية كعلم متعدد الأبحاث تأكيدا لترابط المادي والروحي في الصورة. من خلال رفعها لعائق النزعة الإنسانية التي لا تقبل بأن تكون الذات وموضوعاتها امتدادا لبعضها البعض، تمكننا من نظرة منسجمة لمتغيرات الفاعلية الأيقونية.

ويعتبر مبحث الوسائطية كاشفا عن نقط لقاء وتوحيد التقنية والسياسة والتصوف، عبر ملاقحة بين التحولات التقنية والأوساط السوسيولوجية والثوابت الأسطورية للمتخيل. إن قوة الصور تكمن في قوة اللاشعور فينا «باعتباره مفككا كالصورة ومبنيا كاللغة». إن التصوير والمتخيل يترابطان ببعضهما البعض، لكن لماذا تأخرت دراسة الصورة على دراسة اللغة؟

يعتبر المفكر دوبري أن الجماليات ظلت مهمشة بالمقارنة مع اللسانيات، نظرا للقيمة الزائدة التي منحها الإنسان للكلام، فالتاريخ المعيش للنوع الإنساني يقترح «في البدء كانت الصورة» فيما يصرح التاريخ المكتوب «في البدء كانت الكلمة» إنها تمركزية منطقية حول الخطاب: فاللغة تمجد اللغة.

وبالرغم من ذلك، لا يمكننا استخلاص فكرة محددة عن الصورة لأن الأمر نفسه فكرة متخيلة، فليس «ثمة ثابت هو الصورة Imago يكمن تحت الكثرة اللانهائية للمرئي، ذلك «أن التنوع جوهري أما الثابت فتأملي محض»، ويؤطر المفكر دوبري من خلال درسه في الوسائطية العامة وذلك بتمييزه للعصور الوسائطية الثلاث:

1- عصر الخطاب logosphère ويعني به عصر الأصنام «كما تعبر عنه الكلمة الإغريقية Eidolon صورة» وهو يمتد من اختراع الكتابة إلى اختراع المطبعة.

2- يطابق عصر الكتابة Graphosphère عصر الفن، الذي يمتد من المطبعة الى التلفزيون بالألوان «التي تبدو أكثر وجاهة من الصورة الفوتوغرافية أو السينما».

3- عصر الشاشة Vidéo Sphère يقابل عصر البصري.

عبر هذا التوزيع تنبع الزمنيات الثلاثة لصناعة الصورة:

  • التكرار «عبر النموذج الأصلي».
  • التقليد «عبر النموذج والتعليم».
  • التجديد «عبر القطيعة».

وعبر الفوتوغرافيا والسينما والتلفزيون والحاسوب، استطاعت آلات البصر بانتقائها من الكيميائي إلى الرقمي أن تحتوي على الصورة القديمة «التي يصنعها الإنسان بيديه» مما شكل مرحلة جديدة لإعادة تنظيم عام للفنون البصرية.

4- عنف الصورة:

إن هذا العبور من سطوة الصورة إلى سطوة البصري قد أدى في النهاية إلى تغيير أدوات الاشتغال من مبدأ الواقع إلى مبدأ اللذة، وفي ذلك نهاية للفرجة، وبالانتقال من التناظري إلى الرقمي، بدأت يوتوبيا «الصورة الجديدة».

إن ميلاد الصورة الفوتوغرافية أدى إلى إعادة الاعتبار للتقنية والإشارة، وقد منحت الحدث/الموضوع إثارته، ومع السينما أمست الصورة /الصوت سلطة جمالية جديدة، ميلاد التلفزيون بالألوان أحيا «الفضائل الخصوصية للسينما»، وهكذا تكتب لسطوة الصورة تواريخ جديدة حيث البصري سياقها، وإذا كانت الصورة توجد في الفوتوغرافيا والسينما وجودا فيزيقيا بتعبير دوبري، فالفيلم متوالية من الوحدات الصورية المرئية بالعين المجردة، إننا نحن من نعيد تأليف الصور وتركيبها، سواء كرموز أو كمتخيل.

ومعنى الانسحاب من المرئي والابتعاد عنه والتجرد منه هو أن «نرى» إذ توجد العين خارج المجال المرئي، وتغرق الأذن في المجال الصوتي، نحن نرى من بعد، لكننا نسمع عن قرب الفضاء الصوتي يمتص، يبتلع، ونغدو مملوكيه.. ومع عصر الشاشة ، تبدو الإنسانية تتجه أكثر فأكثر لبؤرة استيلاب مفتوحة لا تنتهي، مشبعة بمنطلق الامتثال وأفق عدمي.

واليوم أكثر من أي وقت مضى، يتخلل الكون بالصورة بشتى أنماطها وبسياقات تفرضها كلغات مركبة، لقد جعلت آلة الصور العالم أقرب الى راحة اليد، حيث تتسيد إنتاج الصورة وفق منظومة من الميكانيزمات، ولعل جماهيريتها تسعف في تمثل منحاها الإيديولوجي الذي تبنيه، وفق ما تطرحه من رؤى تتعدد جميعها في سبر أغوار الذهن والعقل والعين، إن أفق الصورة أمسى أكثر توجها لمقولات من قبيل الاحتواء ، الاستيلاب.. بحكم أن سياقات تداولها ووجودها يتوج مقدمة شعارات الحداثة وما بعدها، إن وجودها اليوم أمسى ديدن سلطة الاستراتيجيات.. لكن وفق أية استراتيجية كونية نظرية نقرأها؟.
-------------------------------------
* كاتب وشاعر من المغرب.
* الصور المصاحبة للموضوع من تصوير سليمان حيدر (العربي)

 

 

عبدالحق ميفراني* 




الخلفية في الصورة أقل من أهميتها في الوسائط السمعية





مخرج الصورة هو المايسترو في تناسق الخطاب عبر أجزائها، استعراض سعودي في عاصمة تتارستان





إذا كانت الهالة الروحية هي مايوجد في خلفية الصورة وعن شخص معين فإن موضوع الصورة هو مايوجد في المقدمة (الصورة من هافانا)





تأخرت الصورة في العالم العربي للاهتمام باللغة على حساب البصري





الصورة التي يصنعها الإنسان بيديه شكلت رحلة جديدة لإعادة تنظيم الفنون البصرية





التنوع جوهري أما الثابت فتأملي بحت





التنوع جوهري أما الثابت فتأملي بحت





جعلت الصورة العالم أقرب إلى راحة اليد (المشهد من اليمن)





مع سطوة الصورة بدأت يوتويبا الصورة الجديدة (صورة من مطماطة، تونس)