المرآةُ كاذبةُ

المرآةُ كاذبةُ

الشّبهُ بيننا يعود إلى الماضي، إلى ماضي كل شخص منّا، أنفي يشبه أنف أبي، وأنف أبي يشبه أنف جدّي، وأنف جدّي يشبه أنف أبيه، أعضاؤنا من أعضاء أجدادنا، لسنا أشخاصاً مميّزين، كل شيء فينا من غيرنا، هذا الغير الذي أوجدنا، لا تفرح بجمال أنفك وسحر عينيك وعذوبة شفتيك، هي ليست لك، كل ما لديك ليس لك، سيأخذه منك مَن سيأتي بعدك، ومَن سيأتي بعدك، سيأتي مَن سيأخذه منه.. و.. مَن يقول أنك ستموت؟ لا.. لن تموت، لم تمت يوماً، لم يمت أحد، منذ أن وُجدنا هنا على هذه الأرض، أخذنا نتغيّر، نحن نتبدّل، مرّة نكون شجرة، ومرة قطّة، مرة أفعى ومرة أسدا، ومرّة حصانا أو فهدا أو عصفورا.. هل تفهم لغة العصافير؟ ماذا تقول؟ ولماذا تغنّي؟ غناؤها هو حوار مع الطبيعة، هي الطبيعة التي تضمّنا، تخلقنا على صورتها الضاحكة الباكية، تقول الإنسان؟ هو آخر مخلوقات الطبيعة، لست متأكداً من ذلك، الطبيعة هي رديف لما يسمّى الخالق، الفنان الأول، الأكبر، الذي لا أحد أكبر منه، هو بسعة عينين ساحرتين، هو بسعة بحر ونهر، هو يملأ الطبيعة، كل زاوية فيها، هو في كل ورقة على شجرة، في السحاب وفي القمر، في الوديان وفي الأنهار، في روح السمكة، في أمواج البحر.. هو كل شيء، الطبيعة التي يملكها هي هو، لا أحد يملكه، هو تلك نفسه، الطبيعة هي ذاته التي لا تبدأ ولا تنتهي، تقول الإنسان؟ الإنسان لا يولد، يبقى دائماً، لا يموت، يتغيّر من شكل إلى شكل ويبقى، أنا أشك بكل كلمة أسمع، وبكل نقطة مياه تسقط من فوق، وبكل ظل ونور، وبكل شخص وصورة، أشك بوجودي، بوجود غيري، حرٌّ في شكوكي، أنا أعلم أني لست أنا الحقيقي، أنا الشخص المتبدّل دوماً، أنا الشخص الذي لا وقت يمسِكه ولا تاريخ، أنا الشخص الذي يدير عقارب الساعات، أوقفها حيثما أريد، أنا لا أرى رقماً فيها، كسّرت أرقام كل السّاعات في المعاصم والساحات في بيروت والقاهرة ودمشق وباريس ولندن

لقد حرّرت الأرقام الاثني عشر ورميتها في الأجواء لتسبح في فضائها.

***

لا تفرح، لا تبتسم وأنت تنظر إلى نفسك في المرآة.. المرآة كاذبة، أنت ترى شخصاً آخر، غير شخصك، أنت في المرآة لست أنت، المرآة تختزن فيها كل الوجوه، هي تجمع الوجوه، تحوّلها إلى وجه واحد، كلنا نشبه كلنا، وكلنا نأتي من الماضي ونبقى ونحيا إلى الأبد.

***

كلام.. هو كلام، وهل أسهل من أن تتفوّه بكلمة، بأية كلمة؟ هل الكلمات تقول شيئاً؟ الكلمات تقول الشيء ذاته، تتغيّر معانيها مع تغيّر تعابير الوجه، وجهنا يختصر كل أشكال الطبيعة، العينان، الأنف، الفم، الجسد كله هو صدى لما في الطبيعة من فرح وكآبة وجمال وبشاعة.

الوجه؟.. الوجه فيه كل أبجدية الفن، هو كل الوجوه، هي تتشابه، أجسادنا تحمل وجهاً واحداً، يبكي عندما يزوره الفرح، ويضحك عند الحزن، هو لا يعلم أين يبدأ الفرح وينتهي الحزن، الإنسان هو الذي لا يعلم ذلك، الإنسان الذي «يعلم» هو الجاهل الأكبر، هم كثيرون، نحن كثيرون الذين نعتقد بأننا «نعلم». السؤال ماذا نعلم؟

إذا علمنا نكون قد علمنا بعض الشيء، والشيء الذي لم نعلمه هو كوننا جاهلين، كلنا جهلاء، انظر إلى نفسك.

هل في منزلك مرآة؟ أنت لست بحاجة لمرآة، المرآة ليست بحاجة إليك، لقد تعبت من الوجوه صارت تبدّل، بملامحك، هي تعلم أنك أنت الذي يختار الصورة، والصورة ليست سوى الشبيه، شبيه كل وجه وكل شيء، هل فهمت شيئاً؟ وهل هناك ما يعرف وما يُفهم؟ ألم أقل لك إن الكلمات هي كلها شبيهة ببعضها؟ وإن تكدّست في صفحة في كتاب، وإن ضاق المكان بها، التصقت ببعضها عندئذ تشابهت وصارت الكلمات كلها واحدة، معناها لا يعني شيئاً، مزّق أوراقك وبَعْثِر الكلمة، حَطِّم المرآة، من حطامها ستخرج وجوه وأرقام وذكريات، ثم سِرْ ببطء مطأطأ الرأس كأنّك لم تكن.

 

 

أمين الباشا