المخيلة الإبداعية في أفلامنا العربية

المخيلة الإبداعية في أفلامنا العربية

هناك حالة سينمائية عربية جديدة، بدأت تنمو في صناعة الأفلام الروائية والوثائقية منذ أعوام قليلة للغاية. تمثّلت هذه الحالة باختيار المخرجين أحد أفراد عائلاتهم، كالأب/ الأم أو الجدّ/ الجدّة أو أقارب قريبين جداً، مادة درامية لنتاجاتهم، منطلقين منها إلى إعادة رسم ملامح اجتماعية وثقافية معيّنة، وسرد لحظات تاريخية ما. أو باختيارهم أفراداً لا صلة قرابة بهم، لإضاءة مشهد إنساني عام.

واضحٌ أن هذه الحالة لبنانية وفلسطينية في المرتبة الأولى، في المرحلة الراهنة على الأقلّ. إنها مقاربة ذاتية لمشهد عام. لذا، فإن طرح أسئلة نقدية حولها يُشكّل مدخلاً أولاً لمواكبة جدّية لها، لأنها تُحرّر النصّ السينمائي من الخطابية الجماعية الجوفاء، وتبتعد بالصورة عن الشعار والإيديولوجيا لمصلحة السينما، من خلال المحاولات الدءوبة للتوغّل، أفقياً وعمودياً، في الاختبارات الفردية وانفتاحها على الجماعة.

لا تزال هذه التجربة في بداياتها. الانشغال السينمائي بالفرد وحكاياته سمة لأفلام عربية اتّجهت غالبيتها إلى النوع الوثائقي. في لبنان، انصرف سينمائيون شباب إلى التاريخ الفردي، من خلال النبش البصري في الذاكرة الخاصّة بأحد أفراد العائلة، بحثاً في التفاصيل والحكايات الخاصّة بالمرويّات غير الموثَّقة. في فلسطين أيضاً، هناك أعمال عــدّة أُنتجت أخيراً، تمحورت حول الحكاية الذاتية للمخرج، كشفت واقعاً إنسانياً عاماً. في المغرب العربي، ذهب البعض إلى أناس عاديين، مقيمين في قرى أو أرياف، للعثور على ما لم يُحكَ في «الرواية الرسمية» مثلاً. في حوار منشور في الصحيفة اللبنانية اليومية «السفير» في الحادي عشر من ديسمبر 2009، قال المخرج الفلسطيني إيليا سليمان حول هذه المسألة إن هناك انقلاباً ربما «من حالة تاريــخية موجودة حكماً ومجسَّدة بثرثرة وتجارة بالشعارات، إلى مرحلة متّسمة بتفتيش ذاتي». والتفتيش الذاتي منسحبٌ على اختبار النصّ الطالع من الذات الفردية الخاصّة بالمخرج، أو بأحد أقاربه، أو بإنسان فرد لا صلة قرابة بينهما، إلى الصورة السينمائية التي تُقدّم الحكاية باعتبارها نافذة أكثر خصوصية للإطلالة على الحالة العامّة للجماعة.

النصّ الفردي

قليلون هم المخرجون المهمومون بالنصّ الفردي. إيليا سليمان يبقى أبرزهم على مستوى الفيلم الروائي الطويل. ثلاثيته المتمثّلة بـ«سجل اختفاء» (1996) و«يد إلهية» (2002) و«الزمن الباقي» (2009) دليلٌ واضحٌ على نقطتين مهمّتين: قدرة الحكاية الفردية على إضاءة تفاصيل جماعية، وأولوية الصورة السينمائية البحتة في نقل هذه الحكاية إلى الجماعة أيضاً. منذ بداياته الروائية، ارتأى سليمان العمل في هذا المجال. يومياته ومشاعره ومشاهداته ووعيه والتقاطه الهوامش اليومية، أمور أفضت به إلى إنجاز ثلاثية ذاتية، أتاحت للمُشاهد فرصة «قراءة» وقائع غير معروفة تؤدّي إلى توثيق المرويّات الشفهية. سينمائياً، بدت أفلامه الثلاثة تلك تجديداً فنياً ودرامياً في داخل الصناعة السينمائية العربية. شكّل صدمة، عندما قدّم «سجل اختفاء»، لأن نقاداً ومثقفين ومشاهدين عاديين لم يعتادوا هذا النمط من الأفلام. الفرد أولاً، والصورة السينمائية أولاً أيضاً. مبعث الصدمة كامنٌ في أن سليمان نقل استفادته العلمية وتجاربه الميدانية إلى فيلم مشغول بحرفية غربية واضحة، ومرتكز على جمالية المضامين الدرامية المستلّة من عالمه الذاتي الخاصّ به. هذا ما قدّمه «يد إلهية» و«الزمن الباقي» لاحقاً. حكايات فيلمه الأخير هذا مثلاً مأخوذةٌ من يوميات والده ورسائل والدته الموجّهة إلى أقارب لها في عمّان. حاضرٌ هو في أفلامه بامتياز، ليس بمعنى كونه المخرج والكاتب والممثل فقط، بل بالنصّ الدرامي والحكايات التي يتضمّنها السرد القصصي.

العلاقة بالأهل أساس الفيلم الوثائقي الأخير للّبنانية إليان الراهب «هيدا لبنان» (2008). في حوار منشور في الموقع الإلكتروني «قنطرة» (2009)، قالت الراهب إنه لا يوجد للفرد «أي ذكر في خطاب الحياة اليومية»، مشيرةً إلى أن «البنى الأسرية المتسلسلة تملي علينا، من فوق، التقاليد والأعراف». أضافت أن «ثقافة الفكر العادي الخاصّة بالمسلسلات القصصية المؤثّرة تتوجّه فقط إلى المجتمع، إلاّ أن المجتمعات العربية تتكوّن من أفراد مختلفين. لهذا السبب، نرى مرآة هويتنا في سينما المؤلّفين». لن أناقش مقولة «سينما المؤلّف» في إطار البحث النقدي في مسألة الحكاية الفردية. لكن ما قالته الراهب أساسيٌ في هذا البحث، لأن المجتمعات العربية المكوّنة من أفراد مختلفين لا تزال سدّاً منيعاً أمام البوح الذاتي لهؤلاء الأفراد المختلفين أنفسهم. والتجربة الفردية، بهذا المعنى، مهمّة، إذا أطلّت على حيوية اللحظة المروية وتاريخها المفتوح على الاحتمالات والأسئلة. غالب الظنّ أن معظم الحكايات الفردية تمتلك أبعاداً إنسانية عامّة، لكن المهمّ في هذا الإطار قدرة المخرج على الاستفادة السينمائية الجمالية والإبداعية منها. في «هيدا لبنان» (أي «هذا لبنان» بالعامية)، نقاشٌ مباشر بين المخرجة ووالدها الطبيب في السياسة والعلاقة الداخلية بين اللبنانيين وطوائفهم. فيه إطلالة حادّة على التمزّق الطائفي والتقوقع المذهبي. فيه أيضاً سردٌ/ بوح ذاتي لصديقتها المخرجة زينة صفير، حول واقع الحال اللبناني بجوانبه السياسية والاجتماعية والثقافية، من خلال العلاقة بالأهل. «هيدا لبنان» تشريح للبنى الاجتماعية والمنطق التربوي العائلي المفضي إلى مزيد من الحصار. تشريح لأنماط العيش في بلد منذور للانقسامات والتشرذم. صورة حيّة عن البؤس اللبناني، من خلال سيرة فرد واحد هو المخرجة نفسها، العاملة على الانقلاب الفكري والحياتي على سلطة العائلة. فيلم قاس، لأنه مفتوح على الجرح الداخلي، الذي يُنذر بمزيد من الانشقاق اللبناني، إذا استمرّ الحال على ما هو عليه.

بهذا المعنى، يُمكن مشاهدة «سمعان بالضيعة» (2008) للّبناني سيمون الهبر. التجربة الفردية البحتة لسمعان الهبر (عمّ المخرج) تشريحٌ جذري ومهمّ لفصل من فصول الحرب الطائفية في لبنان. الفرق بين فيلمي الهبر والراهب كامنٌ في الأسلوب المعتمد في صناعتهما. وثائقي الراهب عادي وبسيط، على المستوى الشكلي، أي الفني والتقني والدرامي. وثائقي الهبر مشغول بحرفية إبداعية واضحة، حرّرته من النمط التقليدي للفيلم الوثائقي، لانفتاحه على ما بات يُعرف بـ«الوثائقي الروائي»، أو «الوثائقي الإبداعي». لم يقف سيمون الهبر عند «خبريات» عمّه فقط. منذ البداية، بدت الرغبة واضحة في إعادة رسم لحظة تاريخية شهدتها «عين الحلزون»، قرية العم والمخرج، أثناء «حرب الجبل» المندلعة بعد الانسحاب الإسرائيلي من بيروت والجبل في منتصف الثمانينيات. أراد المخرج فهم ما جرى للجماعة، عبر عينيّ عمّه ومشاعره ونظرته. فالعمّ هو الشخص الوحيد الذي قرّر العودة إلى القرية والإقامة فيها، لأنه ارتبط بها عضوياً، ولم يستطع البقاء بعيداً عنها أكثر من ذلك. حكاية العم خاصّة وجميلة، على الرغم من المآسي. لكنها مرآة شفّافة وحادّة لمأساة القرية كلّها وناسها المهجّرين، الذين لا يعودون إليها إلاّ في مواسم زراعية محدّدة، ولوقت قصير. هنا، فصلٌ من الذاكرة الجماعية، مكتوب بصُوَر سينمائية جميلة، ومحكية بلغة فرد واحد. إنها تجربة أساسية، أطلقت المخرج سينمائياً، بعد أعوام عدّة أمضاها في توليف الأفلام.

الذاتيّ في خدمة العام

الأمثلة عديدة. أبرز الأفلام الجميلة في هذا الإطار ، ما أنجزه اللبناني غسان سلهب بعنوان «1958». إنه عام ولادته. والعام الذي شهد اشتباكات مسلحة عنيفة بين اللبنانيين لأسباب سياسية. مزج المخرج التاريخين في عام واحد، والتقى والدته لكلام حول الذاكرة والحكايات. أدخل أسلوبه التجريبي البديع في صناعة أفلام قصيرة وطويلة، في محاولة واضحة للابتعاد عن التقليد، وعن الوثائقي الروائي أيضاً. «1958» محاولة مختلفة في صناعة الوثائقي. عمادها الحوار مع الوالدة، وعودة بالصُوَر التلفزيونية إلى أحداث العام المذكور، وفسحة شعرية (كلاماً وصُوَراً) تُعتبر إضافة نوعية على النصّ الأصلي. الأهل أيضاً وأيضاً في «شو صار؟» (2009) للّبناني ديغول عيد. أراد الرجل فهم ما جرى في التاسع من ديسمبر 1980 في قريته «إدبل» (شمال لبنان)، عندما قتل مسلّحون لبنانيون بعض أهالي القرية، نتيجة صراعات سياسية بين حزبين لبنانيين، بينهم أفراد من عائلته (والداه وشقيقته). الخزّان العائلي منبعٌ للدخول في عالم الأسرار. لكن البحث عن القتلة اصطدم بعجز المخرج عن تحويل الفيلم إلى تطهّر ذاتي وإبداع سينمائي. هناك محاولات أخرى (مُنتجة كلّها في العام الفائت): «أشلاء» للمغربي حكيم بلعباس. «صداع» للفلسطيني رائد أنضوني. «أحلام الزبّالين» للمصرية الأمريكية مي إسكندر. «زهرة» للفلسطيني محمد بكري. «جيران» للمصرية الكندية تهاني راشد. فيلما المخرجتين المصريتين مختلفان تماماً عن الأفلام الثلاثة الأخرى، على مستوى العلاقة بالفرد. اختارت المخرجتان أفراداً لا علاقة لهما بهم، كي ترويا فصولاً من السِيَر الفردية في قلب الجماعة. المخرجون الثلاثة الآخرون انطلقوا من الذات. بلعباس وبكري اختارا العائلة. أنضوني وضع نفسه على منصّة التشريح. جميعهم هدفوا إلى معاينة الواقع الإنساني والحالة المجتمعية. لكن الركيزة الأساسية منبثقة من أنفسهم (المخرجون الثلاثة)، أو من اختبارات أفراد آخرين (المخرجتان الاثنتان). اللغة السينمائية متفاوتة الأهمية والجمالية الفنية والإنسانية. المادة أقوى، غالباً. ربما لأن الغليان المدوّي في قلب المجتمعات الفلسطينية والمصرية والمغربية مؤثّر سلبي على الاشتغال السينمائي. أو ربما لأن المخيّلة الإبداعية لم تسعف المخرجين، دائماً، على ابتكار صُوَر سينمائية وثائقية ذات حيوية مؤثّرة.

سبقت الإشارة إلى أهمية أن تتضمّن الحكاية الفردية بُعداً إنسانياً ما. كل واحد قادرٌ على تصوير فرد من عائلته أو شخص لا يعرفه. كل واحد له تجربته الخاصّة. لكن الأهمية السينمائية كامنةٌ في القدرة الإبداعية على تحويل الخاصّ إلى مادة غنية بالمعاني والتفاصيل، ومثيرة للتساؤل النقدي والسجال الإنساني. بهذا المعنى، يُطرح سؤال المغزى الفني والإنساني والجمالي من إنجاز «أشلاء» و«صداع» و«زهرة» مثلاً. فالأفلام الثلاثة هذه امتلكت مواضيع مهمّة، خصوصاً الفيلمين الأخيرين لانبثاقهما من المعاناة الفلسطينية العامّة، ولاندماجهما في إتاحة الفرصة أمام الحكاية الفردية الفلسطينية لقول بوحها وولوجها التفاصيل الهامشية، التي ألغتها إيديولوجيا النضال. غير أن مشكلة الأفلام الثلاثة هذه ناتجة من ضعف الحساسية السينمائية في نقل الحكاية وتصويرها الإبداعي. ناتجة من سطوة الموضوع على الشكل، ومن غياب القدرة الفنية على إعمال المخيّلة. «أشلاء» بلعباس متمحور حول عائلة المخرج وحكايات أفرادها وكيفية عيشهم يومياتهم العادية. «صداع» أنضوني طالعٌ من اعتماد المخرج على حكاية عادية (إصابة المخرج نفسه بصداع مزمن، يدفعه إلى استشارة طبيب نفسي)، بهدف تفكيك البؤر الساخنة في الحياة اليومية للفلسطينيين. «زهرة» بكري متوغل في السيرة الفردية لعمّة المخرج زهرة، التي شهدت أحداثاً جمّة بين العامين 1948 و1966، في محاولة متواضعة لفهم ما حصل عبر عينيّ امرأة. في المقابل، اختارت مي إسكندر وتهاني راشد مجموعة أفراد مختلفين، التقوا عند مسألة واحدة: الأولى تعاملت مع ثلاثة مراهقين عاملين في القمامة في القاهرة، والثانية التقت أناساً عديدين لإعادة رسم صورة ما عن حيّ «جاردن سيتي» في القاهرة أيضاً. الفرد مدخلٌ إلى الحكايات اليومية والتاريخ القديم. والأفراد الآخرون متشابهون في سردهم الحكاية نفسها، وإن رواها كل واحد منهم بطريقته الخاصّة، ووفقاً لتجربته الذاتية ورؤيته.

 

 

نديم جرجورة 




مشهد من «هيدا لبنان» للمخرجة اللبنانية إليان الراهب





مشهد من «سمعان بالضيعة» للّبناني سيمون الهبر





المخرج الفلسطيني إيليا سليمان: المرحلة متّسمة بتفتيش ذاتي





المخرج المغربي حكيم بلعباس: العائلة في خدمة الفيلم





مشهد من الفيلم الوثائقي المصري «جيران» لتهاني راشد





والدة المخرج اللبناني غسان سلهب في مشهد من فيلمه الجديد «1958»