د. عبدالجليل التميمي وجهاد فاضل .. (وجها لوجه)

د. عبدالجليل التميمي وجهاد فاضل .. (وجها لوجه)

العالم العربي الإسلامي
لا يعرف من الأندلس إلا المطعم والفراش

  • اكتشف المؤرخ الإسباني رافائيل، أن خمسة من أكبر قساوسة غرناطة، في أهم كنائسها (كان ذلك سنة 1728)، كانوا يمارسون الدين الإسلامي سراً
  • هناك تيار جديد في إسبانيا الآن وهو تيار قومي، يفخر أبناؤه بأنهم من أصول موريسكية أندلسية. هناك الآن مسيحيون إسبان أسلموا، وهم يدافعون عن هذا الإرث الموريسكي
  • أين هم العرب المسلمون الذين يهتمون بهذا التراث؟ إنك لن تجد أحداً لسوء الحظ
  • يملك العالم العربي ناطحات سحاب كثيرة، ومراكز كثيرة في أوربا ويدعمون «هارفارد» وجامعات كثيرة، ولكن العالم العربي لم يهتم بتاريخه كما يجب

يعيد هذا الحوار مع المؤرخ التونسي الدكتور عبدالجليل التميمي إلى الذاكرة صفحة حزينة من تاريخنا في الغرب الإسلامي، هي صفحة الأندلس في خاتمتها، أو صفحة الموريسكيين. والموريسكيون بحسب تعريف ليفي بروننسال في الطبعة الأولى من «موسوعة الإسلام» «اسم يُطلق في إسبانيا على المسلمين الذين بقوا في البلاد بعد أن استولى الملكان الكاثوليكيان فرديناند وايز ابيلا على غرناطة يوم 2 يناير عام 1492 بعد زوال حكم آخر أمراء بني نصر». وهي عبارة تقصّر عن جانب حيوي في معنى المصطلح. فمع أنها موضوعة في لغة مسبوكة، فإن من المفيد النظر في ما يورده «معجم الأكاديمية الملكية الإسبانية» في تعريف «الموريسكي»: «تطلق على المغاربيين الذين بقوا وتعمّدوا بعد استعادة إسبانيا». يذكر هذا التعريف ميزة الموريسكيين الأساسية، وهي أنهم تعمّدوا بوصفهم مسيحيين. وحتى هذا التعريف يجانب الإشارة إلى أن تعميد هؤلاء «المغاربيين» (أي المسلمين) لم يحدث استناداً إلى إرادة حرة من جانبهم. فلا غرابة أن تبقى أغلبية هؤلاء على إسلامها، أو كما ورد في اتهام إحدى محاكم التفتيش: «لا يقلّون إسلاماً عن مسلمي الجزائر». ولكنهم كانوا مسلمين من نوع شديد الخصوصية: مسلمين سرّاً!

ولكن الإسلام ظل ينبض في قلوبهم حتى بعد أن اضطروا لاعتناق المسيحية في الظاهر، وحتى بعد أن اضطر بعض أبنائهم بسبب تفوّقهم لدخول المدارس الدينية الكاثوليكية، واختيارهم قُسساً وأساقفة، يمارسون الطقوس المسيحية في العلن وينصرفون بعدها، وعندما يختلون إلى أنفسهم، في غرفهم المقفلة، لممارسة طقوسهم الإسلامية في السرّ. ويكشف الدكتور عبدالجليل التميمي في هذا الحوار، واستناداً إلى وثائق محاكم التفتيش، أن خمسة أساقفة موريسكيين من كبار أساقفة غرناطة، وبعد سقوطها بزمن طويل، أُحرقوا وهم أحياء بسبب افتضاح أمرهم، وهو أنهم مسلمون سرّاً ومسيحيون في الظاهر!

تُعتبر الصفحة الموريسكية صفحة إنسانية بالغة المأساوية في التاريخ العربي وفي التاريخ الإنساني على السواء. شعب فُرض عليه الاقتلاع من أرض أقام عليها تسعة قرون: من 92 هجرية «711 ميلادية» إلى عام 1611 ميلادية، وقد فُرض على ما بقي منه اعتناق دين آخر، وهذا مخالف للاتفاق الذي وقّعه الملكان الكاثوليكيان مع أبي عبدالله حاكم غرناطة، عقب سقوطها. ويمكن القول عند استخدامنا التعابير المتداولة في زماننا الراهن، أن التهجير القسري الذي تعرّض له الموريسكيون الأندلسيون، على يد السلطة الإسبانية، يعتبر أول تطهير عرقي في التاريخ الحديث لا يوازيه فظاعة إلا تطهير اليهود للفلسطينيين في أرضهم.

وفي الحوار يتحدث عبدالجليل التميمي، مؤسس ومدير «مركز الدراسات الموريسكية في تونس»، عن أن إسبانيا بشخص الملك خوان كارلوس، قدّمت اعتذاراً لليهود عما ألحقته بهم السلطات الإسبانية عقب سقوط غرناطة، في حين أنها رفضت، وترفض حتى الساعة، تقديم مثل هذا الاعتذار للموريسكيين، أحفاد أولئك الأندلسيين الذين لولاهم، كما يقول إمريكو كاسترو، المؤرخ الإسباني الكبير، لم يتشكّل تاريخ إسبانيا المعاصرة على النحو الذي تشكّل عليه.

  • لكن متى بدأ اهتمام د. التميمي بالموريسكيين؟ كان هذا هو مدخلي للحوار معه وقد أجابني قائلاً:

- الحقيقة أن اهتمامي بالتأريخ للموريسكيين يرجع إلى أكثر من أربعين سنة عندما كنتُ أشتغل على أرشيف رئاسة الوزراء العثمانية سنة 1966 وكنتُ أوّل عربي يصل إلى الوثائق العثمانية يومذاك، في تحريّاتي للاطلاع على تاريخ الجزائر في العهد العثماني، عثرت على عدد من الوثائق المهمة، والتي عكست أساس الموريسكيين في العهد العثماني، وهي عبارة عن رسائل وجّهت من أهل غرناطة إلى السلطان سليمان القانوني، وأيضاً رسائل وجّهت من الباب العالي إلى دوق البندقية «أي الملك في ذلك الوقت»، وإلى الملكة كاثرين دي ميديتش التي كانت ولية العهد. وقد اكتشفتُ مدى أهمية هذه الوثائق العثمانية. عندئذ رجعتُ إلى ملف التاريخ الموريسكي. كل المؤرخين مجمعون على أن هذا التاريخ كُتب أساساً انطلاقاً من الوثائق الإسبانية، أي من محاكم التفتيش التي تعدّ عدوّة لدودة للموريسكيين الأندلسيين. وكل المؤرخين يؤكدون أن الذي ينقص هذا التاريخ هو معطيات الوثائق التركية والوثائق العربية. ومن هذا المنطلق اكتشفت مدى قيمة هذه الوثائق التي اشتغلت عليها جيداً، ونشرتُ مجموعة الدراسات حولها. وبطريق الصدفة، كتب أحد الباحثين الدوليين، وهو لوي كارزايا، رسالة دكتوراه عن تاريخ الموريسكيين، أي المجابهة الجدلية بين المسلمين والمسيحيين في الأندلس. وقرأت هذه الرسالة وأُعجبت بها وترجمتها من الفرنسية إلى العربية، ونشرتها.

وفي حديثي معه - لوي كارزايا - وهذا جانب جديد ومهم، قال لي: نحن سنعقد مؤتمراً أولاً عن الموريسكيين الأندلسيين في جامعة مونبلييه، وكان هو عضواً في هذه الجامعة. وقد حضرت هذا المؤتمر، كما حضره بعض الباحثين العرب، لكن أكثرهم كان من الإسبان والأمريكان. الذي فوجئت به في هذا المؤتمر هو تحليلات ورؤى علماء ومؤرخين غربيين، غير مسلمين، تنقصهم الرؤيا السليمة والموضوعية والنزيهة. قلت لهم: أنا أدعوكم أنتم المتخصصين بالتاريخ الإسلامي للحضور إلى تونس، نعقد فيها المؤتمر الثاني للدراسات الموريسكية. وعقدنا المؤتمر الثاني في تونس على أساس أنها تمثّل الفضاء العربي لهذا الموضوع، وعلى أساس أن هؤلاء العلماء اشتغلوا في بيوتهم، في مراكزهم، لم يتصلوا بالفضاء العربي المكاني. لم يتصلوا بالجوامع، بالأحياء. من هنا نشأ اهتمامي بتاريخ الموريسكيين الأندلسيين، كان ذلك في عام 1983 عام انطلاق هذه المؤتمرات إلى اليوم. وعقدنا لاحقاً المؤتمر الثالث عشر.

إذن مدى اهتمامي بهذا الموضوع هو تضافر كثير من المعطيات لكي نجعل منه علماً قائما بذاته لأنه يتناول مائة وعشرين سنة قبل الطرد. وبعد الطرد تناول هذا الوجود العربي الإسلامي في الأندلس بعد سقوطها، إلى الطرد النهائي.

  • وهل تجد فرقاً بين الرواية الإسبانية للتاريخ الموريسكي والروايات الأخرى، وبخاصة رواية العرب والمسلمين؟ وكيف تروي وجهة النظر العربية والإسلامية؟

- الذي فوجئت به في مؤتمر مونبلييه، أن أحد الباحثين الكبار ذكر في محاضرة له أن مستندات دواوين التحقيق ومحاكم التفتيش لا تفيدان، الموريسكيين أُحرقوا أحياء. قال: «لقد قُتلوا، وبعدما قُتلوا أحرقوهم». بينما الأدلة والوثائق والشواهد تؤكد على أنهم أُحرقوا أحياءً! هذه ظاهرة من الظواهر، بطبيعة الحال هذا الموضوع حسّاس بالنسبة للضمير الإسباني، ومأساة الموريسكيين مأساة فظيعة. هذه فاجعة من أكبر فواجع الإنسان على الأرض. فلسطين موضوع آخر، لكن هذا الشعب العربي المسلم الذي بقي ثمانية قرون على أرض شبه الجزيرة الإيبيرية، وطبع تاريخ إسبانيا بطابعه الإسباني وتراثه الفكري والعالمي، والذي مازال باقياً إلى اليوم، هو يجذب خمسين مليون سائح كل سنة للاطلاع عليه. هذا الإرث الحضاري قضى عليه التعصّب وعدم التسامح، والزج بإسبانيا في الكثلكة العالمية، والقضاء على ما هو غير كاثوليكي، وكل هذا يعتبر من أكثر مظاهر عدم التسامح في التاريخ.

قضى التعصب على أمة ذات طابع تعددي، على الرغم من أن أبا عبدالله، آخر ملك على غرناطة، وافق على أن يسلّم لهم المدينة بشرط أن يحترموا للعرب دينهم ولغتهم. ولكن بعد سنتين أو ثلاث، تنكّروا لكل هذه الوعود، وفرضوا على الموريسكيين إما التعميد قسراً، وإما المغادرة. وهنا تأتي مأساة الموريسكيين حيث مُنعوا من التكلم بالعربية، ومُنعوا من التردد على الجوامع، ومُنعوا من ارتداء اللباس الأبيض يوم الجمعة وسواها من المؤشرات (وهي أكثر من خمسين مؤشراً) التي تدل عليهم. واستولوا على كل أملاكهم. على كل أملاك الأحباس التي عززت قوة الدولة المالية. ملايين الهكتارات صُفّيت، طُعن الموريسكيون في أبسط مظاهر إنسانيتهم وحضارتهم العربية الإسلامية، التجأوا إلى الثورات طوال القرن السادس عشر، وأهمها ثورة البشرات (عام 1568) حيث واجهوا الإسبان خلال سنتين حتى جاء أحد كبار العسكريين الإسبان وقضى عليهم، وفرض على الغرناطيين أن يُهجّروا نهائياً من غرناطة، وهذه مأساة أخرى. مأساة الهجرة من المدن الإسبانية إلى مواقع أخرى، وقضوا على كل المميزات الحضارية لهؤلاء الموريسكيين. قضوا على الصنائع، قضوا على أكثر من مائتي مدينة موريسكية مزدهرة قضاء تاماً إلى درجة أن أحد الخبراء الاقتصاديين الإسبان قال إن الاقتصاد الإسباني أصيب بنكسة بعد ترحيلهم قسراً إلى الخارج.

كان الموريسكيون خبراء في الذهب والفضة والصناعات والفلاحة وري الأراضي. خبراء في أمور كثيرة منها التجارة. وقد زاد الطين بلة، ورود المال من أمريكا اللاتينية، تلك الثروة التي جاء بها الإسبان بعد استيلائهم على أمريكا اللاتينية. كل هذا قضى على المبادرات الموريسكية الاقتصادية.

كان مسار الموريسكيين مساراً مفجعاً، قاتماً، إلى درجة أن الابن أصبح يشي بأبيه. في العائلة تجد مَن يشي بأقربائه إلى محاكم التفتيش. أي شخص كانوا يجدون لديه أثراً عربياً كان يُحاكم. ولهذا صُفّي التراث العربي الإسلامي وأُحرقت. آلاف المخطوطات أُحرقت في الساحات العمومية. كثيرون من الموريسكيين أخفوا تراثهم الفكري في بيوتهم، في جدران بيوتهم، وقد اكتُشف بعضها في أواخر القرن التاسع عشر.

عثر الإسبان على مخطوطات ووثائق أخفاها الموريسكيون وراء جدران قديمة حجبت الجدران الجديدة التي أنشأوها.

كل هذا يدل على المأساة التي تعرّض لها الموريسكيون. وقد عرضنا لكل هذا في المؤتمرات التي نظمناها. أردنا أن نتتبع بدقة ذبذبات هذه الفجيعة إلى النهاية. اكتشفنا أشياء رهيبة ونشرنا أكثر من ثلاثمائة دراسة حول أدبهم وتاريخهم، وحول محاكم التفتيش، وحول المحارق التي تعرّضوا لها. اكتشفنا - مثلاً - أن المرأة الموريسكية كانت قائدة، أو زعيمة في مسيرتهم، لم تكن وظيفة المرأة الموريسكية تقتصر على تربية أطفالها ورعاية أسرتها. بالعكس، كانت - مثلاً - محاسبة ومسئولة مالية. كانت مهتمة بالحفاظ على الهوية وعلى الدين وعلى اللغة، وكانت قبل كل شيء مُقاومة. كثير من النساء قطعن ألسنتهن حتى لا يشين بأبنائهن وأزواجهن.

هذا الموضوع رهيب جداً أمام صمت العالم العربي الإسلامي الذي لا يعرف من الأندلس إلا مطعم الأندلس وفراش الأندلس، بينما المسيرة الفاجعة لهؤلاء الموريسكيين لا يعرف عنها العرب المسلمون شيئاً على الاطلاق. وأنا أدين هذا الموقف السلبي البائس عندما نرى بعض الشعوب تنادي بالاعتراف بما حصل لهؤلاء الموريسكيين وبالاعتذار لهم ولو متأخراً.

  • ولكن الموريسكيين الذين فرض عليهم الإسبان اعتناق النصرانية ظل إسلامهم حياً في قلوبهم، واستمروا يمارسون شعائرهم الدينية سراً، إلى أن اكتشف الإسبان ذلك ولجأوا إلى طردهم. كم كان عدد الذين اضطروا لترك الأندلس؟

- هناك دراسة قام بها رافائيل، وهو مؤرخ إسباني بارز. أرسل رافائيل هذه الدراسة إليَّ وطلب مني ترجمتها إلى العربية. الدراسة علمية تعود إلى الوثائق التاريخية. عندما اطلعت عليها بكيت فعلاً. المعروف أن الموريسكيين طُردوا عام 1609، ولكن بقي كثيرون منهم يعيشون في الأندلس بطريقة أو بأخرى. يقال إن عدد الذين طُردوا كان بحدود المليون نسمة. وهناك مَن يتحدث عن نصف هذا العدد، أو عن ثلاثمائة ألف. هنري لابير، وهو مؤرخ فرنسي كتب عن جغرافية الموريسكيين، ذكر أن عدد الذين طُردوا كان في حدود الثلاثمائة ألف. وقد لجأ أكثرهم إلى المغرب وتونس والجزائر، وجاء قسم منهم إلى اسطنبول. لكن بقي في إسبانيا قسم كبير منهم لأسباب عائلية وما إلى ذلك.

وقد تنصروا ظاهريا. ولكنهم ظلوا يمارسون إسلامهم سرا.اكتشف المؤرخ الإسباني رافائيل، أن خمسة من أكبر قساوسة غرناطة، في أهم كنائسها (كان ذلك سنة 1728)، كانوا يمارسون الدين الإسلامي سرا. وقد حاكموهم وأحرقوهم أحياء في داخل كنائسهم!

هذه الدراسة ترجمتها ونشرتها في كتابي الجديد: «دراسات جديدة حول الموريسكيين الأندلسيين» وعندما أتذكر هذه الدراسة أتألم. هذا نوع من التراجيديا الإنسانية التي لم يعرف التاريخ مثيلا لها.

أكثر من هذا، عندما هُجّر هؤلاء الموريسكيون من إسبانيا سنة 1609 استولى الإسبان على أملاكهم، وعلى تراثهم كله، وتركوهم في قرى خالية، مات نصفهم، والبعض الآخر لجأ إلى تونس. تونس استقبلت أكثر من مائة ألف موريسكي. تأمل العدد. واستمروا يدرسون في تونس بالإسبانية. ولجأ إلى الجزائر حوالي 25 ألفا، وإلى المغرب حوالي خمسين ألفا. لكن أكثر الهجرة كانت إلى تونس، وإلى ليغورنا، وهي الباب العالي.

الموريسكيون كانوا في الحقيقة عنصر تمدين وحضارة. نقلوا تراثهم الفكري والصناعي إلى شمال إفريقيا، وكانوا رواد حداثة بالمعنى العالي للكلمة. تأثيرات الموريسكيين كانت عميقة وعديدة على جميع المستويات.

  • وهل كان هؤلاء الموريسكيون الذين هُجّروا جميعاً من العرب؟ ألا يحتمل أن يكون بعضهم من الإسبان الذين اعتنقوا الإسلام؟ إذا صح هذا الاحتمال، فهذا يعني أنهم أدينوا بسبب إسلامهم لا بسبب عروبتهم، دون أن يشفع لهم بشيء أصلهم الإسباني؟

- في ذلك الوقت لا شك أن أكثر هؤلاء الموريسكيين كانوا من أصول عربية. خلال القرن الثامن عشر، والقرن التاسع عشر، وجدت في بيوتهم وثائق باللغة العربية. وهذا دليل دلالة قاطعة على أنهم كانوا من أصول عربية، وهناك تيار جديد في إسبانيا الآن وهو تيار قومي، يفخر أبناؤه بأنهم من أصول موريسكية أندلسية. هناك الآن مسيحيون إسبان أسلموا، وهم يدافعون عن هذا الإرث الموريسكي. كان سقوط غرناطة في 5 يناير 1492. كل 5 يناير، تجد أندلسيين كثيرين من أبناء إسبانيا اليوم يحتفلون بهذه المناسبة. أين هم العرب المسلمون الذين يهتمون بهذا التراث؟ إنك لن تجد أحداً لسوء الحظ.

في أواخر عام 1491، أي قبل دخول عام 1492 بشهر، نظم بهذه المناسبة حفل حول مرور 500 سنة على سقوط غرناطة. كانت الأخبار يومها تأتينا من كل جانب على أساس أن الملك الإسباني خوان كارلوس سوف يدلي بخطاب علني يوم 31 مارس 1492، يوم طرد اليهود.

كان هذا الكلام في آخر سنة 1491، وسمعنا أن الملك يتهيأ لإلقاء خطاب ليعتذر لليهود. في الحفل وكان السفير الإسباني حاضرا ومعه أكثر من مائة عالم أجنبي، كلمات توجهت بها إلى الملك الإسباني: لقد سمعنا يا جلالة الملك أنكم ستعلنون نوعاً من الاعتذار لليهود. هذا شيء جيد. ولكن تذكروا، يا جلالة الملك، أن العرب المسلمين ينتظرون مثل هذا الاعتذار لهم أيضا.

لا نريد لا مكافآت، ولا تعويضات (على الرغم من أنهم في إسبانيا جمعوا تبرعات لتعويض الموريسكيين الذين هُجّروا إلى تركيا، وهم مازالوا يتحدثون اللغة الموريسكية إلى الآن)، قلت: نحن لا نطلب شيئا من هذا، ولكننا نطلب اعتذارا، وهو موقف حضاري، كنا ننتظر شيئا من ذلك، ولكن جاء خطاب الملك يعتذر فقط لليهود. وقد منحهم من جديد الجنسية الإسبانية ثم ذهب بعد ذلك إلى معبد يهودي وارتدى قلنسوتهم. ويتضمن ذلك اعتذاراً واضحاً من اليهود. لم يذكر شيئا عن المسلمين. وجهت أنا رسالة إلى الملك. قلت فيها: نحن نشكرك أولا على هذا الموقف النبيل الذي وقفته من اليهود، موقف الاعتذار. إنه موقف يعبر عن إسبانيا جديدة، ولكننا، نحن العرب والمسلمين، ننتظر من جلالتكم أن تقوموا بمبادرة مماثلة بالنسبة للعالم العربي الإسلامي. أن تعتذروا من العرب المسلمين الذين هجرتهم إسبانيا، يومها كان السيدإنجيل موراتينوس الذي تبوأ منصب وزير الخارجية الإسبانية فيما بعد،مدير دائرة العالم العربي في الخارجية الإسبانية. دعاني إليه. قال لي: أخبرك بأن الملك وافق على لقاء يعقد في جامع قرطبة، وأنه في هذا اللقاء سيلقي خطابا. سعدنا طبعا بذلك. كنا أربعة من العالم العربي: الدكتور محمود علي مكي من مصر، والشاعر محمود درويش من فلسطين، والدكتور محمد بن شريفة من المغرب، وأنا من تونس. أربعة من العرب فقط، وحضر ما لا يقل عن مائة مستعرب إسباني. خطب الملك. زاد خطابه من ألمي. قال كلمة هزتني: «إن الدولة الإسبانية يومها هي التي رأت ذلك». إذن لم يعتذر تماما، أو لم يعتذر أبدا، ولم يقل شيئا، وكله كان نوعا من التغطية الإعلامية لا غير.لقد كان يدافع أو يبرر: «سيادة الدولة» وما إلى ذلك.

أرسلت بعد ذلك رسالة أخرى إلى الملك عبّرت فيهاعن خيبة أملي. إذا كان العالم العربي - الإسلامي قد صمت، فأنا كمؤرخ درس هذه الفترة وعرف جيدا ما حصل، من حقه كباحث واع لهذا التراث، أن يطالب بهذا الاعتذار.

كانت علاقتي بموراتينوس علاقة جيدة وطيبة، ولكنه أرسل إليّ فيما بعد برسالة غير لائقة على الإطلاق. كان في رسالته نوع من التهديد وقد تضمنت كلاما من نوع: من أنت حتى تخاطب الملك بهذه اللهجة؟

بعد ذلك نشرت رسالة موراتينوس كما نشرت رسالتي إلىالملك. والنتيجة بعد كل ذلك هي فقدان موقف جماعي للعالم العربي أمام هذا الحدث. على الرغم من أن العالم العربي يكنّ التقدير لإسبانيا، وعلى الرغم من أن العالم العربي تبرع لإسبانيا، ساهم في السياحة الإسبانية، إلا أن إسبانيا لم تلتفت إلى كل ذلك. كان موقفها هذا غير مبرر، وغير إنساني، إن لم يكن موقفا عنصريا شوفينيا لا أكثر ولا أقل!

  • طبعا نحن كعرب مسئولون عن عدم انتزاع مثل هذا الاعتذار الذي تتحدث عنه من الإسبان. ولكن في الضمير الإسباني أزمة غير قابلة للشفاء بصدد هذه الصفحة السوداء في التاريخ، كثيرا ما يجري التعبيرعنها بأسلوب أو بآخر. أحيانا يحاول الإسبان التعتيم على تلك الصفحة، أو المرور عليها سريعا، أو تبريرها، أو التخفيف من بشاعة ما فعله أجدادهم، أو التنصل والتهرب وصولاً إلى عدم الاعتراف لأن للاعتراف نتائج كثيرة على سمعة إسبانيا وعلى تاريخها في آن. إلا أن كل ذلك لا يحجب قبح ما حصل بالنسبة لطرد الموريسكيين. لقد كان ما فعلوه مع الموريسكيين أول عملية تطهير عرقي في التاريخ الإنساني الحديث؟!

- ما تقوله هو صحيح، والدليل على ذلك أن الإسبان كان بيدهم مقود الدراسات الموريسكية الأندلسية، يكتبون ما يشاءون ويفعلون ما يشاءون. العرب تقريبا غائبون، هناك مائتان وخمسون مؤرخ إسباني وأمريكي وفرنسي مهتمون اليوم بالموريسكية. عند العرب أقلّ من عشرة أشخاص لا غير. الإسبان مسيطرون على هذا المبحث التاريخي. وعندما بدأنا المؤتمر الثاني في عام 1983، بحضور ومشاركة عدد كبير من المهتمين، أتينا بمنطق جديد. نحن لسنا ضد إسبانبا بل بالعكس. نحن نحبّ إسبانيا لأن لدينا إرثا حضاريا مشتركا معها. ثمة شراكة حضارية عبر التاريخ بين العرب والإسبان. لا أريد أن أصل إلى حد القول إن النهضة الغربية المعاصرة أصلها الأندلس والعرب. آلاف المخطوطات المترجمة من العربية إلى لغاتهم، وفي كل مجال معرفي، كانت أساس نهضتهم. لست أنا الذي يقول ذلك، بل الأوربيون أنفسهم. ابن رشد مجرد مثال من ألف مثال. وفي كل مجال: في العقلنة، في العلوم، في مجال الإبداعات. كل هذا يدل على تراث مشترك بيننا وبينهم. طبعا ساهم الإسبان في التراث الأندلسي، ولكنه كان تراثا عربيا قبل كل شيء. أما التنكر لهذا التراث من قبل الإسبان أو الغربيين فيؤلف فعلا فجيعة. والفجيعة تمثل أيضا في عدم الاعتذار أمام التاريخ لما فعلوه بالموريسكيين الأندلسيين. لقد اعتذروا لليهود، ولم يعتذروا للعرب.

أعطيك مثالا على الحقد الذي لا يفارق صدور بعضهم إلى اليوم. في 3 أكتوبر من عام 1571 وقعت أهم معركة بحرية بين العثمانيين من جهة، وبين إسبانيا ودوق البندقية والبابوية، في هذه المعركة دمّر هؤلاءالأسطول العثماني، ولم يبق منه إلا الربع.كان ذلك أول انتصار بحري للغرب ضد العثمانيين. إلى اليوم مازالوا يحتفلون في إسبانيا بهذا الانتصار. ينقل هذا لك صورة عن عقلية لا تزال سائدة. والشاعر القديم يقول:

قد ينبت المرعى على دمن الثرى
وتبقى حزازات الصدور كما هيا

إذن هذا الموضوع يزعج الإسبان، ومع هذا فإن هناك إسبانا ذوي إنسانية ولو كانوا قلة.

  • من هؤلاء الإسبان المؤرخ أميركو كاسترو الذي يقول في كتابه الضخم عن تاريخ إسبانيا، إنه لم يكن من الممكن أن يتشكل التاريخ الإسباني، والأمة الإسبانية المعاصرة على النحو الذي تشكلا عليه، لولا الحقبة العربية الإسلامية ويشرح ذلك في كتابه، وهناك المستعرب الإسباني الكبير كوديرا الذي كان يدعو - في بدايات القرن العشرين - أوربا إلى العودة إلى الروح العربية، بل إلى الإسلام نفسه. ألا تعتقد دكتور أن الموريسكية أو الأندلسية يمكن أن تشكل قاسما مشتركا للمصالحة بين الروح العربية والروح الإسبانية، وبداية لنشيد جديد بيننا وبين الإسبان على الخصوص؟

- ليس على أساس الموريسكولوجية.

الموريسكولوجية مبحث دقيق وخطير جدا بالنسبة لإسبانيا.على أساس الفترة العربية الإسلامية؟ نعم. لكن الموريسكية لا. لا أتصوّر في يوم من الأيام أن تجعل إسبانيا من هذا محكاً للتعايش أو للتحاور. المحك الحقيقي هو العطاء الذي أتى به عبدالرحمن الداخل مثلا، وملوك الطوائف، لكن الجانب الإيجابي هو هذا، يمكن توظيف ذلك أساسا لإيجاد نشيد جديد للتسامح. وعقلاء الإسبان يدركون ذلك.

لكن الموريسكية لا أعتقد، هذا مبحث لا يحبه الإسبان إطلاقا، ولا نقول نحن إننا نحبه، هذا واجب علينا أن ندرسه. أن نبيّن للعالم العربي الإسلامي كل ذلك لنقول: انتبهوا لأنه ينتظركم «أندلسيات» جديدة إذا لم تدركوا ما حصل للموريسكيين الأندلسيين. كتب الإسبان كثيرا عن الموريسكيين، ولكن هناك جوانب سلبية في كتاباتهم. وأنا أتمنى على السينمائيين العرب أن ينغمسوا يوما في هذه المأساة وينقلوهاإلى العالم للخروج بدروس، بموعظة. نحن لا نعرف الكثير عن مأساة الأندلس.لا نعرف غير ما قاله ابن الرندي.

هناك ملايين الوثائق عن مأساة الموريسكيين لم يقرأها أحد منا حتى الآن. هناك مئات الملفات عن محاكم التفتيش لأناس أجبروا على القهر، وعلى التجديف طوال حياتهم وماتوا شرّ ميتة. ليعلم العالم العربي الإسلامي أن عليه دينا تجاه أولئك الناس. لا تفتخر فقط بالحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، لكن أيضا عليك واجب أن تهتمّ بمصيرأحفاد الذين صنعوا هذه الحضارة.

  • وهل اطلعت على نماذج مما كتبه الموريسكيون أنفسهم عن مأساتهم وعن قضيتهم؟

- اطلعت طبعا، لدي بحث نشر حديثا حول هذا الموضوع. عثرت على مخطوطتين لأواخر الموريسكيين في 1588 ميلادية، وهؤلاء ينقلون أدبهم باللغة القشتالية وبحرف عربي. نقلوا مأساتهم وما تحملوه من ضيم أمام محاكم التفتيش. ومن هذا الأدب الذي نقلوه، عندنا الآن منه ما لا يقل عن ثلاثمائة مخطوطة تسمّى «الأدب الألخمادو»، أي الأدب الأعجمي الذي لا يفهمه إلا من عرف اللغة القشتالية. ولكن الأغرب من هذا أني زرت مرة جامعة بورتوريكو في أمريكا، وعثرت على أكبر مختبر للأدب الألخميادو هذا. هناك 22 أو24 شخصا مختصا في الأدب الموريسكي المكتوب باللغة القشتالية، وبأحرف عربية، وهم مختصون بذلك وقد نشروا أشياء كثيرة، من هؤلاء، عالم اسمه سالفرتو أريغولو. هذا شخص تحدث بإفاضة عن مأساة الموريسكيين.

ثم أننا عثرنا على بعض المخطوطات الموريسكية في تركيا، وفي جامعة أيكس اون بروفانس، في مكتبة ميجان، بفرنسا. في برتوريكو، سيدة من أكبر المتخصصين في العالم، بالدراسات الموريسكية.

ولكن وعلى الرغم من ذلك، مازالت معلوماتنا حول الموضوع ضعيفة جدا، على الرغم من أننا نشرنا أكثر من 600 دراسة أكاديمية حوله. وأنا أنادي الآن، مع أنني ناديت كثيرا بضرورة إنشاء مركز للدراسات الموريسكية الأندلسية. يملك العالم العربي ناطحات سحاب كثيرة، ومراكز كثيرة في أوربا ويدعمون «هارفارد» وجامعات كثيرة، ولكن العالم العربي لم يهتم بتاريخه كما يجب.

وهناك بالإضافة إلى كل ذلك مئات الرسائل الجامعية باللغة الإسبانية، واللغة الفرنسية، واللغة الإنجليزية، حول الموريسكيين لم تُنقل بعد إلى العربية. وهناك متخصصون وباحثون لهم سمعة دولية كتبوا عن الموريسكيين دون أن ينقل شيء من نتاجهم إلى العربية. إنها مأساة عصية على النسيان.





د. عبدالجليل التميمي وجهاد فاضل





د. التميمي في ضيافة خوان كارلوس ملك إسبانيا في قصر الحمراء