جنوب إفريقيا هل تخضر الأرض الحمراء؟ محمد الرميحي

جنوب إفريقيا هل تخضر الأرض الحمراء؟

حديث الشهر

في خضم أحداث أول انتخابات ديمقراطية تجرى في جنوب القارة الإفريقية، جرى احتفال لم تركز عليه كثيرا وسائل الإعلام العالمية، وفي هذا الاحتفال تم إنزال علم جنوب إفريقيا العنصري القديم وارتفع بدلا منه علم المصالحة الوطنية الجديد، وصفق وهتف وغنى الحاضرون من أبناء جنوب إفريقيا، وكانوا خليطا من شتى ألوان البشر على هذه الأرض: سودا وبيضا وملونين.

إن هذا الاحتفال الذي اختزلته وسائل الإعلام العالمية في أقل من دقيقة عرض على شاشات التلفزيون وبضعة سطور قليلة في نشرات وكالات الأنباء، يتجاوز- في ظني- دلالته المحلية وزمانه المؤقت، لتمتد ظلاله باتساع الإنسانية كلها، وبعمق التاريخ البشري المثقل بالأوزار، والمتحرق شوقا إلى الخير، فإن ما حدث في هذا البلد الإفريقي على مدى أكثر من ثلاثة قرون إنما كان خطيئة بشرية كبرى، لم تكف عن التناسل المرير لتلد خطايا جديدة، فهل رفرف العلم الجديد ليؤذن بانتهاء مسلسل الخطايا نهاية فاضلة تستحق التصفيق والهتاف والأغاني؟ وهل من بدايات أخرى تختبئ وراء تلك النهاية؟.

وقبل الشروع في تتبع الأمر، ومحاولة الإجابة، لا بد من ملاحظة أخرى على التغطية الإعلامية العالمية لحدث جنوب إفريقيا الكبير، ففي فورة الحماس المشروع، والتعاطف مع الأغلبية السوداء التي نزفت كثيرا في حمام الدم الجنوب إفريقي، نسي رواة القصـة الطويلة المريرة أن حمام الدم ذاك لم يستثن حبلا للوريد إلا وقطعه في رقاب لم تكن كلها سوداء، بل بيضاء أيضا، وملونة كذلك، فالتعصب مصاص دماء أعمى، لهذا يحسن بنا أن نعود لنتذكر وقائع فاصلة في مسار القصة الطويلة.

عشية زمن الكشوف الجغرافية احتدم التنافس بين الإمبراطوريتين البحريتين الأوربيتين الأشـد بأسا، أي إسبانيا والبرتغال، ولأن الهدف كان متعصبا ومريضا ويتمثل في قطع طريق التجارة الشرقية على المسلمين الذين توسعوا من شمال إفريقيا إلى تركيا، فإن أهل الدنيا الأوربية احتكموا إلى أهل الدين فيها، وجاء حكم الحبر الأعظم عجيبا، فقد أعطى نصف العالم عن يمينه للمستكشفين الإسبان، والنصف الآخر عن يساره للبرتغاليين، وكان السعي الدءوب لتحقيق الهدف المشترك، هو إيجاد طريق بحرية تتجاوز الجدار الإسلامي وتسبق التجار المسلمين إلى الهند لتقتنص التوابل والبهار والإنسان، فما شأن الدين بالفلفل والهال والكمون والقرفة والعبودية؟!.

إنها بداية الخطيئة التي استبعدت التآخي والتعاون البشري، واستنت قطع الطرق سبيلا للتنافس، فاستباحت الأرض وكأنها بلا ناس، ومن ثم كانت استباحة الناس وكأنهم بلا أرض، هكذا فعل الكهنوت "الديني" بالناسوت " الدنيوي".. وبدأت الخطيئة تتناسل.

.. في نهاية عام 1487 وصل أسطول البرتغالي "بارثليميو دياز"، الذي كـان مكونا من سفينتين صغيرتين ومركب للمئونة إلى نقطة الرأس الجنوب إفريقي، ودار حولها دون أن يدري أنه دار حول إفريقيا، وعاد خالي الوفاض ميتا من الرعب بعد أن كادت تعصف به الرياح العواتي عند تلك النقطة التي أسماها "رأس العواصف".. لكن مليكه كان أوعى وأحصف، فسمى المكان "رأس الرجاء الصالح"، وبعد عشر سنوات جاء "فاسكو دي جاما"- البرتغالي أيضا- ليدور بنجاح حول رأس الرجاء الصالح ويصل من هناك إلى الهند المرتجاة في عام 1498، ولأن عيون البرتغاليين كانت شاخصة إلى الهند وساحل إفريقيا الشرقي فإنها عميت عن جنوب إفـريقيا التي ظلت بالنسبة لهم مجرد محطة للتزود بالماء العذب وبعض منتجات سكان المكان من قبائل الرعاة الرحل أو "الكهوي كهوي". دارت الأرض دورتها، وفي نهاية القرن السادس عشر اعتلت مسرح الإمبراطوريات الاستعمارية الأوربية إنجلترا وهولندا، بدلا من إسبانيا والبرتغال، ووصلت هولندا أولا إلى رأس الرجاء الصالح، وكانت سفنها تنزل هناك بحارتها المصابين بالأسقربوط ليأكلوا من خضرة الكاب وفاكهتها فيبرأوا، وما أن جاء عام 1647 حتى بنت الشركة الهولندية للهند الشرقية هناك قلعة ومرسى ومزرعة للخضر والفاكهة، ولأن سكان البلاد الأصليين استعصوا على الاسترقاق أو السخرة في بداية الأمر، فإن الشركة الهولندية عمدت إلى استيراد العبيد من بلدان إفريقية أخرى ومن مسلمي ماليزيا التي كانت مستعمرة هولندية، ولم يكف ذلك، فأعطت الشركة لمزارعيها الهولنديين حق تملك المزارع واستثمارها لأنفسهم، لكنها كانت تفرض على مزارعيها أثمانا بخسة ثمنا لمحاصيلهم، فبدأ النزاع يدب في طرف أوربا الممدود إلى هذه الأرض البعيدة وبدأت الخطيئة ترد بعض سهامها إلى صدور المخطئين أنفسهم، وراح شعب البوير "وتعني الفلاحين باللغة الهولندية" يتكون أوربيا أبيض يفر من بعض عسف أوربا البيضاء، وأخـذ البوير يبتعدون عن وجه الشركة الهولندية فانسحبوا من الساحل إلى الداخل وانضم إليهم أوربيون مضطهدون آخرون، ألمان تابعون للكنيسة الإصلاحية المغضوب عليها في بلادهم، وفرنسيون من أتباع اللاهوتي البروتستانتي "كالفين" القائل بالقدر المكتوب قبل الميلاد، وقد كانوا فارين من بين يدي لويس السادس عشر الذي سامهم العذاب، وبدأت أولى هجرات "البوير" داخل جنوب إفريقيا، وكان زاد كل أسرة مهاجرة عربة مغطاة بقماش يجرها حصان وخيمة وكتابا مقدسا وبندقيتين!.

جمهورية البغضاء الموحدة

كانت العزلة، والانغلاق، والشعور بالاضطهاد، وعذابات النزوح في البراري، فكان الدم.. بل حمام الدم.

دم في صدامات البوير مع السكان الأصليين، الذين ذبحتهم البنادق، السلاح الذي لم يألفوه، وأبادتهم أمراض الوافدين التي لم تعرفها أجسامهم، ودم أطفال ونساء البوير الذين وقعوا في مصيدة زعيم الزولو عند موقعة البكاء "وينن"، دم تهدره حرب "المواشي" التي عبرت من مراعي هؤلاء إلى مراعي أولئك، ودم تسفحه حروب الفتن التي تشعلها بريطانيا التي احتلت الكاب بعد أفول القوة الهولندية عام 1814، وليس أخيرا دم حروب "الأنجلو- بوير" بين البريطانيين والبوير التي انتصر فيها هؤلاء الأخيرون أولا بقيادة زعيمهم التاريخي "كروجر" الذي كان قد دُشّن أول رئيس لجمهورية البوير في إقليم ترانسفال عام 1883، لكن هذا الانتصار لم يدم وهذه الجمهورية لم تمكث، فعندما لمع بريق الذهب المكتشف عام 1886 قرب جوهانسبرج، تأججت شهوة الإمبراطورية البريطانية التي كانت ملكتها فيكتوريا تحلم بإفريقيا بريطانية كاملة، تدور حول محور "القاهرة- الكاب"، وبلغت نيران حرب "الأنجلو- بوير" أقصى تأججها حتى يقال إن هناك 26 ألفا معظمهم من أطفال البوير قضوا جوعا خلالها.

هكذا تم إنضاج الشر العنصري الأبيض، بأياد بيضاء، تحت شمس القارة السوداء الحارة فأي تشوه نتوقع؟.

انتصر الإنجليز في حرب البوير، وقرعت الأجراس في أنحاء الإمبراطورية البريطانية التي كانت ممتلكاتها في ذلك الوقت لا تغيب عنها الشمس، وعندما جاءت الأخبار أن الجنرال "روبرت بادن باول" وجنوده (وهو الذي أسس فيما بعد الحركة الكشفية العالمية).. عندما جاءت الأخبار بانتصاره في 7 مايو عام 1900 بعد أن حاصره البوير سبعة أشهر وثلاثة أيام، كانت تلك فاتحة انتصارات متلاحقة للبريطانيين على البوير انتهت باستسلام البوير في 31 مايو 1902.

وحد البريطانيون تحت سلطتهم المستعمرات الأربع في الجنوب الإفريقي "الترنسفال، والناتال، والأورانج، والكاب" ووضعوا مشروع دستور دولة "اتحاد جنوب إفريقيا "، وأدخلوا هذه الدولة في عضوية "الكومنولث البريطاني لما وتم إقرار اللغتين الإنجليزية والأفريكانية( وهي اللغة الهولندية المطعمة بكلمات ألمانية وفرنسية وبعض كلمات من لغة القبائل الإفريقية "البانتو" والتي تكونت من عناصر شعب البوير، وكنتيجة لعزلتهم الطويلة).. تم إقرار هاتين اللغتين على أساس أنهما لغتان رسميتان للبلاد.. وقد أظهر الأفريكان "البوير سابقا " تعنتا- لم يكن بغير مباركة البريطانيين- لتأكيد عزل السود وتسخيرهم، وقد دخل الدستور الجديد الذي أقر للدولة الاتحادية حيز التطبيق في مايو 1910، ومنذ ذلك التاريخ سارت البلاد في خطوطها العريضة سير المستعمرات البريطانية وكان من جملة التطورات الجديدة أن جلب البريطانيون- مثلما فعلوا في مناطق أخرى من مستعمراتهم- العمالة الهندية النشطة التي كان لها وجود قليل في السابق وراحت تتدفق فيما بعد بأعداد كبيرة مستقرة على الأغلب في الساحل الشرقي المواجه للمحيط الهندي وبهذا أضيف لألوان التناحر العنصري لون جديد أذكى نار التعصب لدى "الأفريكان" الذين كانوا يضمرون كراهيتهم للإنجليز وللسود وللملونين جميعا، وقد أكد هذه الكراهية ما حدث في أعقاب الحرب العالمية الأولى، فقد قـامت عصبة الأمم بوضع المستعمرات الألمانية في جنوب غربي إفريقيا تحت انتداب اتحاد جنوب إفريقيا الذي تسيطر عليه بريطانيا متذرعة "بالرسالة المقدسة للأمم المتحضرة" وكان البريطانيون قـد زجوا بجنوب إفريقيا ضمن الدول المناصرة للحلفاء رغم ميل شرائح واسعة من الأفريكان للتعاطف مع ألمانيا، وقد كانوا يطالبون بسياسة الحياد خارجيا والتمييز العنصري المتشدد داخليا، وتفاقمت النقمة الأفريكانية داخل اتحاد جنوب إفريقيا عند نشوب الحرب العالمية الثانية إذ دفعت البلاد للوقوف مجددا في صف الحلفاء رغم تعاطفهم القديـم مع ألمانيا، وبعد ذلك كان لمضاعفات الحرب وللوضع الاقتصادي المتردي تأثير كبير على سير الأمور في الاتحاد، إذ هيّج ذلك المشاعر وأوصل المتشددين الأفريكان إلى الحكم، فحصل الحزب الوطني على أغلبية المقاعد النيابية في انتخابات 1948، والتي كان مسموحا بخوضها فقط من قبل البيض، ومنذ ذلك التاريخ بدأت حياة سياسية جديدة يسيطر عليها المتعصبون البيض مع انحسار تدريجي للنفوذ البريطاني الذي أخذت إمبراطوريته في الأفول.

ومع تداعي الإمبراطورية البريطانية تقدم المتعصبون الأفريكان لمواصلة سياستهم مستقلين عن أي تأثير خارجي مع تعميق سياسات التفرقة العنصرية في الداخل، وعلى امتداد الخمسينيات وكذلك في الستينيات أقر البرلمان الأبيض في جنوب إفريقيا سلسلة من القوانين أرست نظم الفصل العنصري "الأبارتيد" وكرسته وامتد من منع السود من التجوال بدون "رخصة" وتحديد الأماكن التي لا يسمح لهم بدخولها وصولا إلى إنشـاء "معازل" للسود منحت بعد ذلك استقلالا شكليا للحكم الذاتي وإن ظلت فعليا تحت سيطرة الحكومة البيضاء العنصرية، وأصبح على الأغلبية السوداء أن تعيش على أرض لا تزيد على 14% من جملة مساحة جمهورية جنوب إفريقيا، أما هؤلاء السود الذين كانوا يسكنون بالقرب من المدن الكبرى فقد تعين عليهم الانتماء إلى أي من معازل السود، مع السماح لهم بالعيش دون أسرهم في شبه معسكرات حول المدن التي تعتمد عليهم في مصانعها، أو كخدم في المنازل والمزارع لدى البيض.

وبدأت الخلافات تتسع بين الحكام البيض لجنوب إفريقيا "الأفريكان" وبين السياسات المعلنة لبريطانيا، فكان أن قررت جنوب إفريقيا الاستقلال، وفي استفتاء 5 أكتوبر 1960 انتصرت فكرة استقلال اتحاد جنوب إفريقيا عن بريطانيا لتتحول البلاد إلى جمهورية جنوب إفريقيا وتعلن بعد أقل من سنة انسحاب جنوب إفريقيا رسميا من منظمة الكومنولث البريطانية، واستمرت في تطبيق سياستها العنصرية في عزل السود.

في الوقت نفسه بدأ العالم- خاصة العالم الثالث- يطالب بالحرية وحقوق الإنسان والتخلص من الاستعمار بأشكاله المختلفة غير المباشرة أو الاستيطانية، مما أوقع جنوب إفريقيا في عزلة دولية، خاصة بعد أن صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر 1962 بغالبية ثلثي أعضائها إلى جانب معاقبة جمهورية جنوب إفريقيا بسبب سياستها العنصرية وبالطلب إلى دول العالم بقطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية بسبب انتهاك هذه الدولة المتواصل لحقوق الإنسان وتشبثها بنظام التفرقة العنصرية البغيضة، وكانت هذه المقاطعة- على الرغم من الشكليات الظاهرية التي اتخذتها- قد تخللتها اختراقات عديدة من دول كثيرة وكبيرة إلا أنها في شكلها الخارجي كانت رمزا لموقف دولي وإن لم تؤد بذاتها إلى تغير في موقف حكومة جمهورية جنوب إفريقيا تجاه المواطنين السود أو الملونين.

العزلة.. القسوة.. رد الفعل

أمعنت السلطات البيضاء في جمهورية جنوب إفريقيا في تحدي المواقف الدولية على جميع الأصعدة، وعززت علاقاتها بدول مماثلة لها كإسرائيل وبعض الدول الديكتاتورية في أمريكا اللاتينية وغيرها، وتحايلت على المقاطعة الدولية بأشكال شتى، ولجأت في نهاية الأمر إلى تطوير قوة نووية ظلت لفترة طويلة تنفي وجودها على أرضها حتى اعترف فردريك ديكليرك رئيس الوزراء الأبيض في العام الماضي بوجود تلك القنابل النووية علنا، وسمح للهيئات الدولية بالتفتيش الدولي عليها وقبلت جنوب إفريقيا بضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

إلا أن كل هذا التعنت لم يكسر إرادة الانعتاق التي تمثلت في نضال الأغلبية السوداء ضد القهر العنصري والعنف المتصاعد.

كان للنضال على الصعيد الداخلي أثره الفعال، وعلى المدى الطويل، في تآكل التفرقة العنصرية والتي نشهد اليوم الانتصار عليها في جمهورية جنوب إفريقيا، فقد استطاعت الأقلية البيضاء بواقع القهر بالقوة المادية بشقيها العسكري والمادي والتاريخ الاستعماري الطويل رغم محدودية عددها نسبيا- فعدد السكـان البيض لا يتجاوز خمسة ملايين في بحر من السود يبلغ حوالي ثلاثين مليونا بجانب ثلاثة ملايين خلاس "المولودين من أبوين أبيض وأسود" ومليون آسيوي "من شبه القارة الهندية"- استطاعت هذه الأقلية البيضاء أن تسيطر لفترة طويلة على مقدرات البلاد في بلاد شاسعة مليئة بالإمكانات الاقتصادية العديدة، عاش معظم السود والخلاسيين والآسيويين عيشة ضنك وفقر وعوز، ولجأ ضحايا النظام العنصري والاستغلال الاستعماري من السود والخلاسيين والهنود أولا إلى أسلوب المقاومة السلبية متأثرين بمبادئ اللاعنف. وعلى الرغم من أن المؤتمر الوطني الإفريقي تأسس عام 1912 ليمثل السود ولمكافحة سياسة التفرقة العنصرية، إلا أن نضاله الفعلي لم يتجذر وينتشر إلا بعد الحرب العالمية الثانية واستمر على سياسة اللاعنف حتى ارتكبت السلطة البيضاء مجزرة سنـة 1960 ضد متظاهرين مسالمين يطالبون بحقوقهم، وقد وقع في هذه المجزرة مئات القتلى والجرحى. بعد هذه المجزرة، وكرد فعل عليها ولد الجناح العسكري للمؤتمر الوطني الإفريقي والذي سمي "رمح الأمة" وأعلن انطلاق الكفاح المسلح، إلا أن هذه المرحلة سرعان ما انتهت عندما تمكنت الحكومة العنصرية من اعتقال معظم قيادي حركة الكفاح المسلح ومحاكمتهم أو القضاء عليهم، ودفع بقية جنودهم وأنصارهم إلى الخارج، بل تمت مطاردة بقايا حركة الكفاح المسلح في الدول الإفريقية المجاورة، فانتهكت قوات جنوب إفريقيا حصانة دول الجوار الإفريقية مثل أنجولا، وموزمبيق، وزامبيا، وناميبيا، وزيمبابوي، وبوتسوانا، بحجة ضرب قواعد المؤتمر الوطني، وقد أدى ذلك إلى انكسار حركة المقاومة تحت تأثير ضربات الجهاز القمعي المنظم الذي تربى تحت جناح الدولة العنصرية وكذلك بسبب الأخطاء الاستراتيجية والتكتيكية التي وقعت فيها الحركة، ومن بينها الصراع بين أجنحتها المتنافسة.

نهوض يتجاوز الانكسار

في إثر الإخفاق الأول لحركة الكفاح المسلح للسود والمضطهدين في صراعاتها لتغيير الواقع قبض على مانديلا سنة 1964 وأودع السجن الذي قضى فيه 27 سنة حتى خرج سنة 1991، وفي مرافعته أمام المحكمة التي وقف أمامها متهما بالخيانة العظمى، قال مانديلا: "لقد كرست حياتي من أجل نضال شعب جنوب إفريقيا للوصول إلى الحرية.. حاربت البيض وحاربت أيضا سيطرة السود.. من أجل تحقيق مجتمع ديمقراطي حر يتمتع أفراده بفرص متكافئة وبالمساواة وقد وهبت حياتي كلها لكي أرى هذا المبدأ يتحقق.. وإنني على استعداد كي أضحي بحياتي من أجله ".

بعد محاكمة نيلسون مانديلا وإيداعه السجن، ومطاردة بقايا حركة الكفاح المسلح حتى في الأقطار الإفريقية المجاورة انطفأت لفترة حركة المقاومة ولكنها ما لبثت أن انتعشت في مطلع السبعينيات حيث اندلعت المظاهرات الطلابية والإضرابات العمالية، وبلغت ذروتها عامي 1972 و 1973، وبدأت بعدها منظمات عديدة لتنظيم نضال السود والخلاسيين والهنود في البزوغ، قابلها تطور آخر في صلب الحزب الوطني الأبيض، فقد تحول هذا الحزب الذي كان يمثل تآلف عمال وفلاحين صغار وطبقة متوسطة من البيض عندما تسلم السلطة 1948، وتميل غالبيتها للتشدد وعزل السود، إلى حزب يمثل الرأسماليين ورجال الأعمال وصناعيين يميلون إلى انفتاح ليبرالي محدود، وقد بدأ أنصاره يشعرون أن المقاطعة الاقتصادية الدولية أثرت بشكل سلبي على مصالحهم، كما نما داخل هذا الحزب تيار ليبرالي صغير بدأ بالتوسع، كان ردة فعل لبشاعة الصدامات الدامية التي كان المتطرفون البيض يدعون إليها وينفذونها ضد السود.

في سبتمبر 1989 انتخب فردريك ديكليرك رئيسا للجمهورية وهو يمثل الجناح الليبرالي الصناعي المؤمن بالحلول الوسطى، وأن من مصلحة ليس السود فقط وإنما البيض أيضا وجود سوق أكبر والعودة للتعامل مع العالم، وفي أشهر قليلة أصدر رئيس الجمهورية الجديد قوانين لإلغاء بعض مظاهر التفرقة العنصرية ثم رفع الحظر عن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وكذلك الحزب الشيوعي، وأطلق بعد ذلك سراح نيلسون مانديلا من السجن، ثم بدأت المفاوضات الطويلة والشاقة والتي تأرجحت بين رفض أقلية بيضاء لهذه الخطوات ورفض أقلية سوداء أيضا، إلا أن تلك المفاوضات نتج عنها الاتفاق على إجراء انتخابات شاملة حرة لتكوين مجلس نواب من 400 شخص ومجلس شيوخ من 90 شخصا ينتخبون من مجالس المقاطعات التسع، والتي هي بدورها لها مجالس نيابية إقليمية خاصة على أن يعمل بهذا الدستور المؤقت لمدة خمس سنوات هي الفترة الانتقالية.

في بادئ الأمر لم يصدق كثيرون نوايا ديكليرك، ومال البعض لاعتبار خطابه الجديد نوعا من المناورة البيضاء، بينما أشار البعض إلى أنه من جيل الأفريكان الجدد الذين خرجوا بحكم التعليم والانفتاح على العالم من ضيق أفق التعصب القديم إلى اتساع أفق التفكير الليبرالي والإنساني، الرجل- رغم معارضته لمانديلا ونزوله الانتخابات منافسا له- بر بوعوده الديمقراطية حتى آخر لحظة، وحتى نزل علم العنصرية القديم عن ساريته وهو رئيس للبلاد، ولم يكن موقف ديكليرك موقفا يتيما من البيض، فهناك كانت دائما عضوة البرلمان الشجاعة هيلين سيزمان التي لم تكف عن المناداة بحقوق السود في قلب البرلمان الأبيض المتعصب، وهناك نادين جورديمر الروائية الفائزة بجائزة نوبل والمنخرطة في صفوف المؤتمر الوطني الذي يقوده مانديلا، لقد كانت يقظة بيضاء لها قاعدتها التي تتوسع.

بين الجهاد الأكبر والأصغر

لو كان لنيلسون مانديلا ورفاقه في حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بعض من ثقافة العرب لتحدث لمواطنيه عن الجهاد الأكبر الذي أمامهم، فرغم هول جهاد التحرير والنضال الذي لا يلين ضد أعتى عنصرية استيطانية في التاريخ الاستيطاني الحديث، ورغم عشرات الآلاف من القتلى والضحايا، ورغم كل الآلام التي خاضها شعب جنوب إفريقيا بتعدده اللوني والعرقي ضد واقع بدا وكأنه مستحيل قهره، رغم كل ذلك فإن ما سوف يرثه نيلسون مانديلا ورفاقه، هو إرث ضخم تتحوطه صعوبات جمة في حجمها أكبر وأضخم من الصعوبات التي واجهت نضال المقاومة نفسه، فأمام الحكومة الوطنية الجديدة في الجمهورية الوليدة مجموعة من التحديات الكأداء، فأمامها مثلا مقاومة بعض الأقليات السوداء سياسيا خاصة منظمة "إنكاثا "، حزب الحرية بزعامة منغستو بوتوليزي، فقد تصاعد الخلاف بين هذه المنظمة- التي تمثل قبائل الزولو، وتقدر بحوالي 8 ملايين نسمة- والمؤتمر الوطني وهي مشاكل عرقية وتاريخية، وتخشى الإنكاثا من سيطرة المؤتمر الإفريقي على الحكم في المستقبل، لذلك فإنها تفضل موجة في الاستقلالية، وإعطاء المقاطعات حكما ذاتيا، وتلتقي الإنكاثا في الأهداف مع معارضين أشداء من البيض يدعون لاستمرار نظام الفصل العنصري، وهم أقلية تكتلت وراء حزب جديد سموه حزب المحافظين يرأسه زعيم فاشي هو يوجين تيربلانش.. هذان الطرفان السياسيان قد يسببان من النزاعات السياسية في المستقبل ما يعرقل مسيرة الجمهورية الوليدة، خاصة أن القبول بقواعد اللعبة الديمقراطية الذي يبدو على السطح الآن هو قبول مؤقت من أكثر من طرف، وقد تنسف قواعد هذه اللعبة أو تغير قوانينها في المستقبل.

كما أن نظام الفصل العنصري قد خلف بعد هذه السنوات الطويلة ضغائن فردية وجماعية قد تفلت من عقالها عند وصول السود إلى السلطة وتأخذ شكل الأخذ بالثأر مما يسبب مضاعفات للسلطة الجديدة في الوقت نفسه فإن تلك السياسات قد أوجدت فوارق اقتصادية واجتماعية هائلة من جملتها التهجير القسري للسكان، وهناك ملايين السود يعيشون في أكواخ تشبه علب الكارتون، أو زرائب، معظمهم متعطل عن العمل، ازدادت نسبة الجريمة إلى درجة أن السلطة الرسمية بدأت تتلقى ألفي طلب يوميا في الشهور الأخيرة قبل الاستفتاء من أجل استصدار رخص رسمية لحمل السلاح!.

في مثل هذا الوضع الاجتماعي الاقتصادي المتدهور، وأمام فرار رأس المال وبيع المؤسسات الكبرى خوفا من "أفرقة" المؤسسات الصناعية والتجارية تجد الدولة الجديدة نفسها أمام معضلة اقتصادية اجتماعية مركبة، فالأوضاع الاقتصادية المتردية هي مشكلة حقيقية أمام الدولة الجديدة، حيث إن جلب الاستثمارات من الغرب لن يكون بالعملية السهلة، فقد تسبب سقوط الاتحاد السوفييتي وانفتاح دول أوربا الشرقية، والأسواق الجديدة في أمريكا اللاتينية وآسيا، تسبب كل ذلك في فتح أبواب واسعة أمام رءوس الأموال الغربية، وطرح أمامها خيارات سوف تندفع إلى الأماكن الأحسن شروطا بكل تأكيد، والأكثر استقرارا.. ويقدر الخبراء الخسائر التي لحقت بالاقتصاد في جنوب إفريقيا من جراء المقاطعة الاقتصادية الدولية بحوالي 30 بليون دولار، كما أنها مدينة للخارج بحوالي 17 بليون دولار، وتقدر البطالة في الأيدي العاملة بحوالي 48% من قوة العمل، كلها من السود.

وماذا عنا ؟..

إن ظهور دولة جديدة في المجتمع الدولي بهذا الشكل وبهذا الحجم السكاني، والخلفية النضالية، تقدم للعرب فرصة جديدة لتوسيع قاعدة التعامل السياسي والاقتصادي والفني، على خلفية أن النظام العنصري السابق كان قد أسس علاقة متينة مع إسرائيل، وإن كانت الأمور قد اختلفت جزئيا، إلا أن موقف العرب بشكل عام كان مع الشعوب المحبة للسلام مناصرا لحقوق الأغلبية السوداء، لقد كتب نيلسون مانديلا في مجلة " الشئون الخارجية" الأمريكية في أواخر سنة 1993، يقول:

"سوف تنتقل الدولة (الجديدة) من موقع العداء العنصري للقارة السوداء بأسرها إلى موقع المسترد لحقه العائد لأسرته بعد طول جهاد، عودة تضم التقدير للمساندة فتصبح جنوب إفريقيا عضوا في منظمة الوحدة الإفريقية وبقية المنظمات الإقليمية ترسخ الأمن الإقليمي الإفريقي".

هذا التوجه العام في السياسة الخارجية لجمهورية جنوب إفريقيا الجديدة يعزز من فرص السلام ويرسخ احترام حقوق الإنسان وحرياته وحقوق الأقليات.

إن نضال شعب جنوب إفريقيا تاريخي بكل المقاييس، وتضحياته بطولية إلى أبعد الحدود، ونتائج ما حصل عليه تؤكد المد السياسي الطاغي لتوجه ترسيخ كرامة الإنسان- بصرف النظر عن لونه ودينه وعرقه- كما أن تجربته القادمة تجربة تستحق المتابعة، وبالتأكيد تستحق النجاح، فليس في حلوق قادة النضال الأسود السابق أية مرارة من جراء قرون من الاضطهاد، فهم يعرفون أن البيض ما زالوا يملكون التقنية وأسرار التجارة والصناعة والمال، ويعلمون كذلك أنهم مثلهم مواطنون ولدوا وآباؤهم على تلك الأرض التي لا يعرفون غيرها، والمأمول شكل جديد من التعاون يحسب حساب الحقوق كاملة لجميع المواطنين ويتحلى بالتسامح والتعاون لصالح الجميع، وعلى نجاح مثل هذا الأمر ستضرب جنوب إفريقيا مثالا آخر، فهي كما كانت رمزا للكفاح الصابر والطويل يمكن أن تصبح رمزا للتعاون الإنساني المثمر.

إن انتصار مانديلا ليس مجرد إعادة رواية لحادثة مكررة من حوادث التحرر الوطني الذي اجتاح العالم في عقد الخمسينيات إنها مداخلة جديدة تماما لا يكاد يشبهها إلا مأثرة حركة التحرر الهندية والتي قادها المهاتما غاندي الذي بالمناسبة عاش في جنوب إفريقيا ردحا من عمره، وبدأ فيها كفاحه، فكأن هذه الأرض تطبع سكانها بروح المقاومة والتسامح في آن، فمسلسل الخطايا التي تلد مزيدا من الخطايا تم كسره بطريقة فاضلة تماما، فبعد سبعة وعشرين عاما من السجن لم يخرج مانديلا مشوه الروح ممرورا يعتمد القسوة للانتقام من القسوة، ولا يطالب بإلقاء البيض في البحر لقاء الغرق الطويل الذي عاناه السود في بحر الظلمات العنصري، بل طرح معالجة التشوه بسوية عالية قوامها وطن للجميع ممن ولدوا على أرضه، دون تفرقة سياسية على أساس اللون أو الجنس أو الدين أو المعتقد، ولقد كان مانديلا قادرا على إبقاء نفسه نظيفا ومهندما دائما بالمعنى الحرفي والمجازي للكلمة، حتى عندما اضطره هذا السلوك الراقي للانفصال المر عن رفيقة قلبه ودربه "ويني مانديلا" التي أساءت تقدير حدودها في التصرف، فعلها ولم تتضعضع روحه أو تتهالك قواه، ومن الواضح أنها روح عالية وثمينة تلك التي جعلته يعبر ظلمات سجن جزيرة (روبن) التي كبلته سبعة وعشرين عاما دون أن يغادر البشر وجهه أو ينخلع اليقين في الحرية من قلبه، ومانديلا في النهاية هو صورة لناسه والناس "السود" في هذا الجزء من العالم - كما يؤكد ذلك كل من تلامس معهم- يتحلون بقدر من الرهافة الإنسانية حتى في ملامحهم البعيدة عن الغلظة وحتى في احتجاجهم الذي يلونه دائما الإيقاع والرقص الذي يوشك أن يكون فرحا إنسانياً حتى في أحلك اللحظات، إنها السوية العالية في مواجهة التشوه العنصري البغيض، وهي مداخلة جديدة للبشرية حتى تخرج من مآزق التشوه التي ألمت بها على أيدي بعض الطغاة من الأفراد والفرق والأعراق والحكومات.

بالطبع ليست الصورة مغرقة في التفاؤل، فالأنانية البشرية قابلة للبروز والطغيان، إن أتيح لها ذلك، سواء من المتعصبين البيض في جنوب إفريقيا، أو من السود الذين سيصعدون إلى سدة الحكم، وتبرق أمام أعينهم مزالق القوة والسلطة، لكن السوية التي انتهجها مانديلا وحزبه، بل أيضا فردريك ديكليرك الذي ينبغي ألا يغمط حقه في الثناء، هذه السوية هي أمل القادم، وإذا كان بعض من سافروا إلى هذه البلاد لاحظوا أن تربتها عند جوهانسبرج تلفت الأنظار بلونها الذي يوشك أن يكون أحمر، وإذا كان البعض من الكتاب قد استنتج- مجازيا- أنها حمرة الدم الذي أريق على تلك الأرض، وهو دم السود والبيض وإن بدرجات متفاوتة- كما أسلفنا- هذه الأرض الحمراء المرويـة بدم اقتتال البشر على ظهرها، هل يمكن أن تزهو فيها الخضرة؟ الفرح الذي اشتعل في حفل إنزال علم العنصرية ورفع علم التآخي في جنوب إفريقيا في ذروة الربيع القريب، وبعد أكثر من ثلاثة قرون من الدم والضيـم يقول نعم يمكن أن تخضر الأرض. بل إن شوق هذه الأرض إلى الاخضرار يكون أكبر وزاد الخضرة بين حبيباتها أوفر وأغزر.. وهو أمل تتطلع إليه العيون في كل بقاع الدنيا، التي أريق على أرضها الدم.

فلنأمل.. ونتمنى..

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات