شرق أوسطية، بحر متوسطية وأوساط أخرى محمد السيد سعيد

شرق أوسطية، بحر متوسطية وأوساط أخرى

كان ذلك مشهدا مؤثرا للغاية من فيلم زوربا اليوناني الشهير، عندما فاضت روح العجوز المتصابية، تدافع كل أهالي الحي إلى مسكنها الصغير، كل يخطف شيئا من ممتلكاتها، ويجري بها سريعا من الباب، وحتى عصفور الكناريا الرقيق، الذي كان سلوتها الوحيدة، لم يسلم من السلب والنهب الذي جرى بوتيرة سريعة وسط هرج ومرج يكاد يكون متفقا عليه.

هذا المشهد الدرامي يتكرر الآن بالحرف تقريبا دون أن يلتفت له أحد: ولكن موضوعه هو التاريخ السياسي العربي الحديث: أو بالأحرى النظام العربي الحديث. إن أحدا لم يعطه شهادة رسمية بالوفاة ولكن الجميع خـارجه وداخله يتصرفون باتفاق مضمر على النحو نفسه: أي نهب وسلب كل شيء في مسكنه، وربما يكون المشهد الأكثر دراماتيكية هو الذي ينبسط الآن حيث يجري نزاع حاد حول وراثة المسكن نفسه. وقد يستطيع أحد الأطراف أن يفرض احتكاره للمسكن بالقوة الجبرية، وإذا لم يتمكن طرف واحد من ذلك، فقـد يصـدر نائب عمومي ما أمرا "ببقاء الأمر على حاله" كما هو شائع في نزاعات المساكن في مصر مثلا. ونعني بذلك أن يتجاور فرقاء النزاع حول الوراثة ويقتسموا حجرات المسكن، بقوة الأمر الواقع.

فكرة النظام

إننا لا نشبه النظام العربي بالمسكن جزافا، فالأصل في فكرة النظام: أي نظام هو تحقيق السكينة: أي السلام وحسن الجوار وأجواء التعاون الناشئة عن القربى، إن لم يكن القرابة.

لكن يبدو أن العرب فقدوا جدارتهم لملكية المسكن الذي يضمهم معا: أي النظام العربي. وربما يعود ذلك إلى الغزو العراقي الغاشم للكويت عام 1990، وربما يعود إلى صراعات وخلافات وتحزبات وانقسامات سابقة على هذا التاريخ. ولكن النتيجة واحد، وهي أن أيا من الأطراف العربية الكبيرة لا يرغب أو لا يستطيع إعادة تأسيس المسكن أو البيت الواحـد وإثبات ملكيته وضمان الاعتراف العام به في العالم. فالجميع يدرك أن "الأسرة" صارت مقسمة، وأن نزاعاتها ربما تكون أعمق من أن تحل في زمن قصير، وأنها صارت منصرفة عن بعضها البعض، وأن جل- إن لم يكن كل- أطرافها يبحث لحال سبيله عن مخرج من أزماته هو أو مدخل لمصالحه المنفردة هو.

غير أنه من منطق الأشياء في هذا العالم أن أي مسعى للنظام العام- وسواء كنا نتحدث عـن النظام العام في مدينة أو دولة أو في العالم كله- لابد أن يشمل الإقليم العربي. وأن النظام الدولي ما دام نظاما لابد أن يضمن عدم انفجار الفوضى في هذا الإقليم أو أي إقليم آخر. وبالتالي، ما دام هناك عالم يبحث لنفسه عن نظام ما يغطي أرجاءه المعمورة لابد أن ينشأ نظام ما في الإقليم العربي. فإن لم يكن هناك نظام ما يزعم أنه عربي فالأرجح هو أن ينشأ نظام بديل، أو يمتد نظام إقليمي آخر إلى الإقليم العربي ليسيطر عليه أو يضمن الاستقرار فيه لصالحه. وحيث إن هناك اعترافا ضمنيا عاما أو عالميا بأن النظام العربي ربما يكون قد قضى نحبه، فقد نشأ موقف فريد يعنى بوراثة هذا النظام. أما الأطراف والأفكار التي تسعى للحصول على نصيبها من هذه الوراثة فهي كثيرة. وربما يكون من باب المصادفة فقط أن أكثرية من هذه الأفكار قد صيغت بحيث تشتمل على مصطلح الأوسط أو المتوسط، فأهم هذه الأفكار قاطبة هما فكرتا "نظـام شرق أوسطي"، و"نظام بحر متوسطي "، ولكن هناك أوساطا أو متوسطات أخرى تبحث لها عن نصيب في عملية الوراثة هذه.

هذا التحليل كله يبدو من زاوية معينة "نظريا محضا" بمعنى أنه غير عملي ولا يستقيم مع الظروف الواقعية والصورة المعقدة التي تؤلفها المصالح والنزعات الفكرية والأيديولوجية والمحصلة النهائية لتفاعل وصراعات القوى وتوازناتها، ونقطة الضعف الأولى في هذا التحليل هي أنه يفترض ضمنا أو صراحة أن هناك نظاما عالميا يسعى لضمان الأمن والاستقرار في ربوع المعمورة وأنه بهذه الصفة لابد أن يضمن الأمن والاستقرار في الإقليم العربي كذلك. ويبدو ذلك غير صحيح إلى حد ما، على الأقل في الحقبة الراهنة من التطور العالمي. هناك بالفعل نزعة قوية لإنشاء نظام عالمي، غير أن هناك عوامل موضوعية وسياسية قد تؤدي إلى الانصراف الفعلي عن هذا المشروع، ككل. وقد تكتفي بمجرد تنظيم التفاعلات التعاونية والصراعية بين الأطراف التي تهم بعضها البعض مباشرة. ويتضمن ذلك القول بأن من المحتمل ألا يكون ضمان الأمن والاستقرار مشروعا عالمياً حقيقة، بل قد يكون التخلص من الأطراف الضعيفة والمهمة وفصلها عمليا عن "مشروع دولي صغير" بين الدول القوية وذات التفاعلات المهمة والأدوار الكبيرة. وهو ما ينطوي على ترك أجزاء كبيرة من العالم، وتحديدا أجزاء مهمة من إفريقيا وآسيا والإقليم العربي بينها "لكي تأكل نفسها" دون أن يهتم أحد بدعوتها إلى تأليف نظام فيما بينها أو استيعابها في نظام من صنعه وذلك ببساطة لأنها لم تعد مهمة في السياقات العالمية الجديدة. وهنا يفترق تحليل النظام العالمي عن التحليل المبسط الذي يستنبط من العلاقات الأسرية مثلا. وهنا أيضا نجد نقطة ضعف ثانية في تحليلنا السابق، ففي المقاربة التي أبرزناها من خلال فيلم زوربـا كان موقف الوراثة يتسم بما يلي: إن المتكالبين على النهب والسلب كانوا جميعا من الفقراء الذين تعني لهم حتى قطعة ملابس بالية شيئا كبيرا. أما في واقع النظام العالمي، فإن ما تملكه المنطقة العربية قد لا ينطوي على قيمة كبيرة بالنسبة لأغنياء وأقوياء هذا العالم. وهؤلاء قد يتركون الذئاب الصغيرة كي تنهش في الجسد العربي كل حسب قوته. ومن ناحية أخرى، فإن التحليل المتضمن في الدراما الفيلمية ينهض على قصة بسيطة: عجوز توفيت وذئاب الحي يتخاطفون ممتلكاتها. أما في الواقع الحقيقي، فإن ما توفي أو أشرف على ذلك هو النظام العربي، أما العرب أنفسهم فلا يزالون أحياء، وقد يكون النزاع أضعفهم جميعا. غير أن كلا منهم لا يزال قادرا على اتباع استراتيجيته الخاصة للبقاء، وهناك احتمال قوي أن يؤدي تفاعل هذه الاستراتيجيات إلى إفساد خطط الجميع في وراثة النظام العربي من خارجه. فإذا كانت أنانية كل طرف من أطراف الأسرة العربية قد حالت دون حفاظهم على مسكن مشترك، فهذه الأنانية ذاتها قد تحول دون ضم كل أفرادها حتى ولو في علاقة تبعية وخضوع لمسكن أكبر. وببساطة قد يكون "المسكن العربي" قد تصدع. ولكن قد لا تكون هناك إمكانية حقيقية لوراثته ككل أو ضم أطراف الأسرة العربية في مسكن أكبر لا يسيطرون عليه وقد تؤدي صراعات أصحاب المزاعم الخارجيين للوراثة إلى شلل متبادل لهم جميعا. وببساطة قد لا ينشأ أي نظام على الإطلاق في المنطقة العربية. ويصبح الإقليم العربي "منطقة فراغ" يقود فيها الأطراف المختلفة علاقاتهم وتفاعلاتهم يوما بيوم دون قواعد منهجية واضحة أو ضوابط مستقرة ومقننة أو توقعات ثابتة.

هذا التعدد في المسارات المستقبلية المحتملة لا يستبعد- بل على العكس يفرض علينا- القيام بتحليل منهجي للرصيد الواقعي لكل مسار، وبالتالي مدى أرجحيته الفعلية.

ولقد صارت أطروحة "الشرق أوسطية"، مجالا خصبا لمضاربات فكرية تعسفية إلى حد كبير، ويبدأ الأمر بالتعسف البالغ في تسمية الأطروحة ذاتها. فالواقع أن تسمية الشرق أوسطية، لا تحمل دلالة كبيرة على الطبيعة المحددة للمشروعات المقترحة. ولابد لفهم هذه الطبيعة من استشفاف السياقات الحقيقية التي قد تشير إلى هذه التسمية. فهناك سياقان رئيسيان ومتباينان جذريا لمقولة الشرق أوسطية.

السياق الأول والأهم من الناحية العملية يتعلق بالنتائج الاقتصادية والسياسية لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي سلميا. أما السياق الثاني فيعني بالجهد الواعي لإعادة بناء الشرق الأوسط على أساس أنه "بيت مشترك للشعوب القديمة ومركز الحضارات الكلاسيكية، قبل بداية الحضارة الرأسمالية الغربية الحديثة".

أطراف غير متكافئة

ويبدو استخدام تعبير الشرق الأوسط للدلالة على السياق الأول زائفا إلى حد كبير. وحتى لو أخذنا بأوسع الاحتمالات وأقلها أرجحية في نفس الوقت، لا يبدو هذا التعبير- من الناحية الفعلية- أكثر من إطار عريض للغاية للإحالة إلى روابط محددة أو التزامات ضيقة بطائفة من المشروعات الفنية والوظيفية بين مجموعات مختلفة من الدول لا يضم أي منها إقليم الشرق الأوسط ككل. وهذه المشروعات ذات صلة محددة بالتسوية الدبلوماسية للصراع العربي الإسرائيلي.

والصورة الشعبية المستنبطة من الصحافة العربية لهذا السياق تبدو أيضا مصطنعة أو ملفقة أو في أفضل الأحوال أيديولوجية وذات صلة محدودة بالواقع وبما يتم التفاوض الفعلي حوله في نفس الوقت وتقوم هذه الصورة على أن صيغة الأرض مقابل السلام التي تمثل الأساس العام لصفقة التسوية الدبلوماسية للصراع العربي- الإسرائيلي تلزم العرب بإقامة سوق مشتركة على امتداد إقليم الشرق الأوسط. وذلك كثمن مدفوع لجلاء إسرائيل عن الأراضي العربية التي تحتلها منذ يونيو عام 1967. وحيث إنه من البديهي أن أطراف هذا المشروع غير متكافئة في القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية، فإنه يتضمن تلقائيا تحويل إسرائيل إلى مركز اقتصادي تكنولوجي للإقليم العريض المعروف باسم الشرق الأوسط وتمكينها من اختراق المجتمعات والاقتصادات العربية اختراقا مباشرا وتحويلها إلى تبعيات اقتصادية وربما سياسية لإسرائيل، إن لم يكن تفتيتها وسحقها تحت وطأة القوة الإسرائيلية الطاغية بحد ذاتها والمتحالفة مع المراكز الرئيسية للاقتصاد العالمي، وخاصة الولايات المتحدة.

والواقع أننا لو حاولنا استنباط صورة التفاعلات الممكنة والمحتملة عمليا مع إسرائيل من الهيكل الراهن لمفاوضات التسوية السلمية بين العرب وإسرائيل- سواء على الصعيد الثنائي أو متعدد الأطراف- سوف تظهر الملامح الرئيسية التالية:

* أهم ما قد تسفر عنه المفاوضات من ناحية القيمة الفعلية هو إنشاء علاقات اقتصادية وفنية خاصة ومميزة بين إسرائيل من ناحية والدويلة الفلسطينية الوليدة، والأردن من ناحية أخرى.

* وفي المقام الثاني قد تنتهي المفاوضات لوضع أطر أو حتى مجرد ضوابط لأنظمة إقليمية نوعية في مجالات فنية بعينها، ولكن ليس "نظاما إقليميا" عاما متعدد الوظائف وشامل العضوية. وقد يتفرع عن هذه الأطر مشروعات محددة للتعاون الاقتصادي والفني في مجالات المياه والبيئة والحد من التسلح.

* وفي المقام الأخير لا يتوقع سوى قدر محدود من العلاقات التجارية والفنية بين إسرائيل وبقية الدول العربية إذا ما تم إلغاء المقاطعة الاقتصادية الرسمية لإسرائيل بسبب النجاح النسبي المتوقع لاستراتيجيات الإعاقة والتحكم التي يرجح أن تتبعها الدول العربية الكبيرة فيما يتصل بمدى ونطاق وهيكلية العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل.

والواقع أن هذا التقدير لا يسعى إلى التقليل من مخاطر ومخاوف الاختراق الإسرائيلي للاقتصادات العربية. ذلك أن جوهر تحليلنا يقوم على أن هذه المخاطر والمخاوف سياسية واستراتيجية أكثر بكثير مما هي اقتصادية وثقافية. فالاقتصاد الإسرائيلي على الرغم من ضخامته بالمقارنة بالدول العربية المجاورة- وهي ضخامة مبالغ فيها على أي حال بسبب ارتفاع مستوى الأسعار والتكاليف والأجور- ليس اقتصادا عملاقا بأي معنى، وهو في الجوهر اقتصاد تابع بدوره وموجه إلى الخارج بقوة وكل ما يأمل فيه الإسرائيليون في الحقيقة هو أن تتحول دولتهم إلى مركز إقليمي لحركة الشركات العالمية ومتعددة الجنسية، لا أن تكون هي- بقدراتها الذاتية- مركزا اقتصاديا لإقليم الشرق الأوسط.

ومما لاشك فيه- في هذا التحليل- هو أن المستوى والنوعية المتوقعة للعلاقات الاقتصادية "الطبيعية" سوف تفيد إسرائيل- وخاصة في الأمد الوسيط- وذلك كمحصلة نهائية، دون أن يؤدي ذلك إلى تعديلات هيكلية في بنية الاقتصادات العربية، اللهم إلا فيما يتعلق بحالة الضفة الغربية وقطاع غزة، وربما الأردن أيضا، ويدعونا هذا الاستنتاج إلى تقدير مرغوبية هذه الفائدة المتوقعة لإسرائيل من جراء النتائج المرجحة للمفاوضات متعددة الأطراف في المجالات الاقتصادية والفنية. والعامل الحاسم في تقدير هذه المرغوبية أو المقبولية في الأمر المباشر هو ما إذا كانت الفوائد والمزايا التي تحققها إسرائيل في هذه المجالات واعدة بإمكانات تغيير المجتمع الإسرائيلي من داخله وخارجه لصالح سلام عادل وشامل وحقيقي. إننا قد نتحدث عن ميل موضوعي لاستنفاد إمكانات النمو والازدهار الكامنة في صيغة مجتمع عسكري عنصري احتلالي في إسرائيل. غير أن هذا الميل لايزال بعيدا للغاية عن أن يكون غالبا أو حتى مؤثرا بدرجة كافية. ومن الممكن استثمار قنوات التفاعل الاقتصادي لتعزيز فرص التحويل الجذري لإسرائيل إلى مجتمع مدني طبيعي وذي آفاق سلامية. غير أن الإمكانات الحقيقية لذلك تتوقف على مدخل هذا الاستثمار. ففي الإطار الراهن للمفاوضات بين العرب وإسرائيل، تبدو المزايا الاقتصادية وكأنها ثمن مدفوع لإسرائيل، وهو ما يعنى في الجوهر مكافأة العدوان. أي دفع مكافأة للقوة العسكرية الإسرائيلية المتغطرسة. كما يبدو أن إسرائيل لم تغير فعليا نظرتها إلى العرب والحقوق العربية. وربما يكون التغير محصورا في إضافة هدف جديد لإسرائيل في أن تصبح مركزاً إقليميا للحضارة الاقتصادية/ التكنولوجية الجديدة وسط الأرياف العربية المتخلفة. وهناك مدخل آخر- لايزال افتراضيا ونظريا إلى حد بعيد- ويقوم هذا المدخل على الحاجة لنظام يجمع العرب وجميع الدول المتوطنة في الشرق الأوسط. وتكون مهمته وضع مرتكزات قوية للسلام والتقدم في المنطقة ككل. بدءا من تسوية جميع صراعاتها والتصفية المنهجية لعوامل العنف والفوضى والتخلف الاقتصادي- الاجتماعي.هذا المدخل يسمح ببناء استراتيجية هجوم سلامية حيال إسرائيل. ويتضمن ذلك دمج إسرائيل في النسيج الاقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط بقدر ما تتخلى عن طبيعتها العسكرية والعدوانية والعنصرية. ويمثل هذا التوجه أحد مرتكزات مشروع أو سياق بديل كلية. ذلك أن مشروع إعادة بناء الشرق الأوسط يبدأ من معطيات كلية عديدة أهمها ما يلي:

* إن الشرق الأوسط هو مجمع أو بيت للحضارات والشعوب القديمة التي كانت المركز الثقافي والأخلاقي والسياسي للعالم القديم. وأنه بهذا المعنى يمكن أن يصبح منطقة للسلام العام الإقليمي والعالمي. ولا يتناقض الشرق الأوسط بهذا المعنى مع حق العرب في التجمع معا كتعبير عن أمة وثقافة واحدة. ذلك أن هناك قدرا من الاتصال والقربى بين الشعوب العربية والشعوب الأخرى في الشرق الأوسط وخاصة تركيا وإيران وربما إثيوبيا أكثر بكثير مما هناك من انقطاع وابتعاد. وعلى الرغم من أن المجتمع الإسرائيلي ليس جزءا من النسيج الثقافي التاريخي الفريد للشرق الأوسط إلا أن هناك إمكانا لدمجه انطلاقا من بعض المعطيات الثقافية والسياسية في هذا النسيج، وذلك بهدف ضمان تحويله إلى مجتمع مدني طبيعي سلامي، وهو الأمر الممكن فيما لو نشأ بيت حقيقي لشعوب الشرق الأوسط، ونظام جامع لهذه الشعوب قادر على ردع العدوان وتعزيز النمو والازدهار الإقليمي في نفس الوقت.

* والشرق الأوسط يفقد هذه الصفة لقدر ما أدى التنافس العالمي على السيطرة عليه إلى تمزيق الروابط بين شعـوبه وتقوية نزعات الصراع والتناقض بينها. وهذه الصراعات والتناقضات لم تفض فقط إلى تمزيقه سياسيا واستراتيجيا بل وأهم من ذلك إلى إهدار فـرص شعوبه في التقدم والازدهار الثقافي والاقتصادي. وقد حان الوقت لإعادة صياغة علاقات شعوب الشرق الأوسط بما يحقق لها هذه الفرص بالذات. فنحن في الحقيقة أمام اختيار بين مسار يقوم على فكرة البيت المشترك والفرص المتساوية في التقدم من ناحية، ومسار يدمر فرص التنمية والازدهار ويقذف بكل المنطقة خارج التاريخ العالمي بسبب تحولها إلى مستنقع من الصراعات والتطرف والعنف بكل صوره وعلى كل المستويات.

وإسرائيل هي أيضا جزء من هذا الاختيار. إذ يعي الإسرائيليون جيدا أن التركيز على التفوق العسكري قد أهدر مواردهم وقدراتهم وأدى إلى تخلف هياكلهم الاقتصادية والثقافية ومن الممكن أن يحمل في طياته تدميرا ذاتيا ومنهجيا لفرص التقدم لهم وللآخرين. كما أن محاولتهم الجمع بين التفوق العسكري والتفوق الاقتصادي معا لن تكون لصالح الفرص الحقيقية في التقدم لهم وللآخرين. وهنا تبرز المصلحة المشتركة في تأسيس نظام فعال يضمن الأمن والسلام للجميع ويتيح فرصا متكافئة في النمو والازدهار الاقتصادي والثقافي للجميع.

غير أن الفرص الحقيقية لإنشاء مثل هذا النظام تتوقف على العمل معا- على أساس من قاعدة المساواة والاحترام المتبادل- من خلال منظور إيجابي مستقبلي. ولا بد أن ينعكس هذا المنظور في كل مرحلة، بما في ذلك مرحلة التفاوض على تسوية الصراع العربي- الإسرائيلي. ولم يقدم الإسرائيليون أساسا كافيا للاعتقاد بأنهم يملكون مثل هذا المنظور.

بحر متوسطية والوسط الآسيوي

مشروع إعادة بناء الشرق الأوسط كبيت مشترك للحضارات القديمة، ليس مطروحا بقوة على بساط التفاوض لأنه يفتقر إلى مقوماته العملية وخاصة توازن القوى وتوازن المصالح والمنظور التنموي الإيجابي أخلاقيا وسياسيا. على أن هناك مشروعات تحمل ظلالا هذه الفكرة في المجال الدعائي البحت. فإذا كانت إسرائيل تحلم بإعادة صياغة الشرق الأوسط على هواها ولمصلحتها المنفردة فكل طرف آخر من غير العرب يحلم بالأمر نفسه، وخاصة كلا من تركيا وإيران. إن التفاعلات المستترة- إن لم يكن الاتفاقية- بين هذه القوى الإقليمية تفضي عمليا إلى تخلق شرق أوسط فعلا عن طريق المغالطة وليس عن طريق قوة المنطق وسلامه الطوية. هذا "الشرق الأوسط" الذي يبرز بالفعل يحمل إمكانات تطويق الوطن العربي بتحالف غير مقصود- وربما متوتر- بين القوى غير العربية بهدف اقتسام الغنائم العربية بين هذه الأطراف كل حسب قوته وإمكاناته وفرصه. فإذا ما تحقق ذلك يعود الوطن العربي منطقة شاسعة رخوة من الناحية الجيوبوليتكية مخترقة بعمق وموضوعة على جدول أعمال النهب والسلب الدولي والإقليمي.

هذه المنطقة تتجزأ إلى مناطق نفوذ لقوى دولية وإقليمية شتى، وبالتالي تتعدد النظم الإقليمية التي تنتمي لها هذه الأجزاء. وهنا يبرز أكثر من مشروع آخر. وعلى رأس هذه المشروعات فكرة إنشاء نظام بحر متوسطي. والفكرة هنا ببساطة أن تتجمع الدول الواقعة على البحر الأبيض المتوسط لتشكل معا مؤسسـة مماثلة في طبيعتها لمؤتمر الأمن والتعاون الأوربي.

وعلى الرغم من الطبيعة الاستشارية البحتة لهذا المؤتمر الأخير.. إلا أن مجرد الجمع بين دول أوربا الشرقية الضعيفة اقتصاديا ودول أوربا الغربية إضافة إلى أمريكا الشمالية القوية والمهيمنة اقتصاديا وثقافيا قد أدى بهذا المؤتمر إلى أن يتحول إلى هيئة تشرف على التحويل الداخلي لمجتمعات أوربا الشرقية وإعادة هيكلتها سياسيا وأيديولوجيا على النحو المرغوب والمواتي لمصالح أوربا الغربية. ونعتقد أن جوهر فكرة إنشاء نظام بحر متوسطي تنطوي على نفس الآلية. وأهم من ذلك أن الفكرة في صياغاتها العملية تضم إسرائيل وتركيا ولكنها قطعا تستبعد الدول العربية غير المطلة على البحر الأبيض المتوسط. كما أن المقترحات العملية تفاوتت بين ضم جميع الدول العربية المطلة على هذا البحر أو الاكتفاء منها بدول المغرب العربي باستثناء ليبيا. وينطوي هذا المعنى الأخير على كون مشروع إنشاء نظام بحر متوسطي تطويرا جذريا للسياسة البحر المتوسطية التي تتبعها الجماعة الأوربية، وبما يتيح لهذه الجماعة تحقيق نوع من الإشراف الجماعي على التطور الداخلي للدول العربية في جنوب البحر.

وهناك أفكار مكملة لإعادة هيكلة الوضعية الإقليمية للدول العربية. فإلى جوار نظام بحر متوسطي قد ينشأ نظام اتفاقي أو فعلي يضم الدول العربية الواقعة جغرافيا في منطقة غرب آسيا مع دول غير عربية تقع في وسط آسيا بحيث يتكون نظام "لوسط وغرب آسيا" بعيد كل البعد عن التفاعل الحي والعضوي مع الدول العربية في شمال إفريقيا.

وراثة أم سلام؟

المشروعات الإقليمية كثيرة وسوف تتواتر وتتنافس. غير أنها جميعا تنطوي على محاولة وراثة النظام العربي وتشتيت وتفتيت وتفرقة الأقطار العربية بين هياكل إقليمية بديلة. ومع ذلك فإنه لا يبدو أن لأي من هذه المشروعات أسسا كافية للنجاح في الوقت الحالي على الأقل. وحيث إن إحياء النظام العربي يفتقر بدوره إلى مقومات النجاح فقد تكون نتيجة كثرة المشروعات ألا يتحقق في الواقع أي مشروع على الإطلاق. وتبقى المنطقة العربية "فراغا إقليميا" بأكثر منها نظاما إقليميا. وليس من المؤكد أن هذا الفراغ يولد الحرب. ولكن المؤكد أن مثل هـذا الفـراغ يجعل السلام أمرا ممكنا فقط بالمصادفة أو بحكم السيطرة الخارجية المباشرة فحسب.

 

محمد السيد سعيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات