صندوق النقد الدولي: دور قديم متجدد محمد دياب

صندوق النقد الدولي: دور قديم متجدد

شهد صندوق النقد الدولي في الأعوام الأخيرة تزايداً في الطلب على خدماته من قبل بلدان نامية كان بعضها في الماضي يوجه انتقادات مريرة لسياسته وشروطه المتشددة وتهافتاً من قبل دول في أوربا الشرقية وجمهوريات الاتحاد السوفييتي سابقا للانضمام إليه والاستفادة من قروضه الائتمانية. فما سر هـذا التحول في المواقف؟

ظهرت فكرة إنشاء هيئة دولية تنظم المبادئ الأساسية للعلاقات الاقتصادية الدولية في البلدان الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث بدأ التفكير في رسم معالم الانتقال نحو مرحلة السلم وتحديد الأطر النقدية والمالية والتجارية الملائمة لإعادة بناء اقتصاديات البلدان التي دمرتها الحرب. وكانت لا تزال طرية في الذاكرة آنـذاك عواقب "الكساد العظيم" والفوضى التي عمت النظام النقدي الدولي في فترة ما بين الحربين العالميتين، والقيود المختلفة التي فرضت على المدفوعات الخارجية والتجارة الدولية، وحرب التخفيضات التي نشبت بين عملات الدول. وقد أدى ذلك كله إلى ركود في التبادل التجاري وتصدير رءوس الأموال، وأظهر مدى خطورة عدم وجود أي ضوابط تحد من عفوية السوق العالمية والضرر الذي يمكن أن يسببه غياب الحد الأدنى من التنسيق بين الدول.

في ظل هذه الأجواء اجتمع صيف عام 1944 في مدينـة بريتون وودز (ولاية نيو هامبشير) في الولايات المتحدة الأمريكية، ممثلو 44 دولة في مؤتمر دولي نقدي لبحث السلوك النقدي الذي ينبغي أن تتقيد به الدول في فترة ما بعد الحرب. وقد انفض المؤتمر عن اتفاقيتين دوليتين تقضي الأولى بإنشاء صندوق النقد الدولي، والثانية بإنشاء البنك الدولي للإعمار والتنمية.

باشر الصندوق (وهو موضوع بحثنا اليوم) مهماته عام 1947، حيث بلغ عدد أعضائه آنـذاك 49 عضواً برأسمال قدره 7،7 مليار دولار. وارتفع عدد الدول المنتمية إليه (قبل انضمام روسيا وعدد من دول أوربا الشرقية إليه أخيراً) إلى 154 دولة، وصار رأسماله الآن قرابة 100 مليار دولار يضاف إليها 30 ملياراً من الوسائل المؤثرة مؤقتاً. ولكل بلد في الصندوق حصة تعكس بشكل عام وزنه في الاقتصاد العالمي. ونظام الحصص هو من السمات الأساسية للصندوق. وتكمن أهمية الحصة فيما يلي: أنها تحدد مساهمة البلد الراغب في العضوية في تمويل الصندوق، وهي تحدد حق البلد العضو في الاستفادة من موارد الصندوق، وبموجبها يجري تحديد القوة التصويتية لكل بلد عضو، وعلى أساسها توزع حقوق السحب الخاصة بين الأعضاء.

واشترطت أحكام الصندوق أن تدفع الدولة العضو ما لا يقل عن 25% من حصتها ذهباً، أو 10% من أرصدتها الذهبية وبالدولار أيهما أقل، أما الجزء الباقي فيدفع بالعملة الوطنية. وجعلت القوة التصويتية للدول الأعضاء في مجلس إدارة الصندوق تقوم على أساس المساهمة المبدئية لحجم حصة الدولة. فنصت أحكام الصندوق على أن لكل دولة عضو في 250 صوتاً زائد صوت واحد لكل مائة ألف دولار من حصتها وبالتالي، فإنه كلما تعاظم حجم حصة الدولة، تزايدت قوتها التصويتية. وعلى هذا الأساس كانت الدول الصناعية الكبرى (مجموعة الدول السبع) تسيطر على قرابة ثلثي الأصوات. بينما كانت الولايات المتحدة وحدها تسيطر عام 1948 على 30% من الأصوات ثم انخفضت هذه النسبة إلى 19% عام 1988، مما أتاح ويتيح لها حتى الآن التمتع عمليا بحق الفيتو على أي قرار لا يتفق مع مصالحها ورغباتها.

وكانت الأهداف المعلنة للصندوق، التي نصت عليها المادة الأولى من ميثاقه هي:

1 - تشجيع التعاون النقدي الدولي عن طريق إيجاد هيئة دائمة تهيئ الوسائل اللازمة للتشاور والتآزر بشأن المسائل النقدية الدولية.

2 - العمل على تأمين النمو المتوازن للتجارة الدولية، مع تحقيق مستوى مرتفع من العمالة والدخل الحقيقي وتنمية الموارد الإنتاجية لجميع الدول الأعضاء، باعتبارها أهدافاً أساسية للسياسـة الاقتصادية، والمحافظة على هذا المستوى.

3 - العمل على تحقيق الاستقرار في أسعار الصرف وتجنب التنافس في تخفيض قيم العملات.

4 - المساعدة في وضع نظام متعدد الأطراف للمدفوعات المتعلقة بالمعاملات الجارية بين الأعضاء، وعلى إزالة القيود المفروضة على مبادلة النقد التي تعرقل نمو التجارة العالمية.

5 - توفير الثقة بين الأعضاء، بجعل الموارد العامة للصندوق متاحة لهم بصفة مؤقتة وبضمانات كافية، الأمر الذي يوفر لهم فرصة تصحيح الاختلال في موازين مدفوعاتهم، وذلك عن طريق تقديم قروض قصيرة الأجل للدول التي تعاني مصاعب مؤقتة في ميزان مدفوعاتها.

تلك كانت الأهداف المعلنة للصندوق، أما في الواقع فقد جاءت اتفاقية "بريتون وودز" لتعكس ميزان القوى الفعلي بعد الحرب العالمية الثـانية، التي خرجت منها الولايات المتحدة الأمريكية بوصفها القوة العسكرية والاقتصادية والنقدية الكبرى في العالم. وقد انتصرت في المؤتمر وجهة النظر الأمريكية التي اعتبرت أن الهدف الأساسي من إنشاء الصندوق هو إلغاء القيود على المدفوعات الخارجية والتوصل إلى نظام متعدد الأطراف للمدفوعات بعكس موقف بلدان أوربا الغربية التي كانت ترى الهدف الأساسي في توفير السيولة الدولية الإضافية للدول الأعضاء. فقد كانت الولايات المتحدة تبغي تجنيب الصادرات الأمريكية القيود أو المنافسة، وحمايتها من ضوابط النقد والاستيراد ومن حروب تخفيض قيمة العملات. وانعكست السيطرة الأمريكية في المادة الرابعة من ميثاق الصندوق التي نصت على أن القيمة التبادلية لعملة أي عضو سيعبر عنها بالذهب بأساس مشترك، أو بالدولار الأمريكي بالحالة التي كان عليها في أول تموز عام 1944. وأدى هذا عمليا إلى مساواة الدولار بالذهب، وإلى تحول الدولار إلى عملة الاحتياط الدولية.

نشاط الصندوق في الممارسة

ركز الصندوق همه الأساسي في المرحلة الأولى من نشاطه (1945- 1958) على دعم أوربا الغربية ومساعدتها في إعادة تعمير اقتصادها المدمر نتيجة الحرب (المشاركة مع البنك الدولي في تمويل مشروع مارشال)، وكذلك على خدمة خطط التوسع الأمريكي. ولم يعط اهتماماً يذكر في تلك الفترة لمجموعة البلدان المستقلة حديثاً. فقد حصلت بلدان أوربا الغربية والولايات المتحدة خلال تلك الفترة على 60% من قروضه، واليابان وأستراليا وجنوب إفريقيا على 10%. أما بالنسبة للدول النامية فقد كان دور صندوق النقد الدولي هزيلاً جداً في تغطية احتياجاتها من السيولة، ويعود ذلك إلى صغر حجم حصصها في رأسماله، حيث إن إمكانات السحب كانت، كما أشرنا، مفيدة بمقدار إسهام الدولة في رأسماله.

وفي المرحلة التالية، بعد اكتمال إعادة إعمار أوربا الغربية، عادت المنافسة على أشدها بينها وبين الولايات المتحدة، واشتعلت الحروب النقدية فيما بينها. وكان لقرار نيكسون عام 1971 بوقف قابلية تحويل الدولار إلى ذهب (وهو المبدأ الأساسي الذي قام عليه نظام بريتون وودز) وقع الصدمة على حلفاء الولايات المتحدة وكان هذا إيذانا ببدء عهد جديد في النظام النقدي الدولي.

كان لابد في مثل هذه الظروف من إدخال التعديلات الضرورية على ميثاق صندوق النقد الدولي، التي تعكس الوقائع الجديدة. فكان التعديل الأول عام 1971 الذي ألغى معادلة الدولار بالذهب والتزام الولايات المتحدة بتحويل الدولار إلى ذهب. ثم جاء التعديل الثاني عام 1976، الذي ألغى السعر الرسمي للذهب ومنح الدول الأعضاء حرية اختيار نظم الصرف التي تريدها وقضى بأن تكون وحدات السحب الخاصة هي الأصول الاحتياطية الأساسية في نظام النقد الدولي. وقد عاش الصندوق آنذاك ما يشبه أزمة الهوية. إذ فقد الدور الذي أنشئ من أجله عام 1944، أي الإشراف على نظام دولي مالي يستند إلى أسعار صرف ثابتة وإلى تنقل محدود لرءوس الأموال. وتوقع الكثيرون آنذاك زوال دوره كمؤسسة مالية ودولية.

غير أن الصندوق نجح في مواجهة التحديات الجديدة والتكيف مع الأوضاع المستجدة. فبعد نجاح دول الأوبيك في رفع أسعار النفط عقب حرب أكتوبر عام 1973، تكونت لدى الدول المصدرة للنفط فوائض مالية كبيرة وعجزت خطط التوسع في الإنفاق الاستثماري والاستهلاكي في تلك الدول آنذاك عن استيعاب هذه الفوائض. فكانت فرصة ملائمة أمام صندوق النقد الدولي لتعزيز وضعه المهتز. فعمل هو والبنك الدولي والمؤسسات والهيئات النقدية الدولية الأخرى على إعادة تدوير هذه الأموال. وكان أن جرى توظيف قسم كبير من هذه الفوائض في سندات صندوق النقد الدولي والوكالة الدولية للتنمية والبنك الدولي، وابتكر صندوق النقد الدولي تسهيلاً جديداً، هو التسهيلات النفطية لمساعدة الدول الأعضاء، التي أدى ارتفاع أسعار النفط إلى وقوع عجز في موازين مدفوعاتها. وكانت الأموال التي اقترضها الصندوق من دول الأوبيك هي مصدر تمويل هذه التسهيلات. وتجدر الإشارة إلى أن إعادة تدوير رءوس الأموال المذكورة سرعت حركة رءوس الأموال على النطاق الدولي، الأمر الذي أدى إلى وفرة حجم رءوس الأموال القابلة للتنقل، وساعدت في ذلك المرونة العالية في تغير أسعار الصرف والارتفاع الشديد في أسعار الفائدة.

صندوق النقد الدولي والبلدان النامية

وفي الثمانينيات عمل صندوق النقد الدولي على إدارة أزمة المديونية الخارجية للبلدان النامية. ولابد هنا من التوقف بشيء من التفصيل عند هذه المسألة لأنها تعكس سياسة الصندوق إزاء هذه المجموعة من البلدان.

يؤكد صندوق النقد الدولي أن وظيفته كعقل جماعي منظم وهيئة مرجعية تنسيقية لا تقتصر على ميـدان السياسة النقدية. فمنذ بداية الثمانينيات يسـاهم الصندوق في معالجة أزمة ديون البلدان النامية. ويحددون ثلاثة اتجاهات لعمله في هذا الميدان:

1 - القيام بدور المحفل الذي تجرى فيه مناقشة حل أزمة المديونية الخارجية على المستوى الحكومي، وتتخذ القرارات الملموسة المستندة إلى أساس مالي متين.

2 - ضبط عملية التمويل الأجنبي للبلدان المدينة.

3 - مساعدة الحكومات على إيجاد الاتجاهات الأفضل لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد، وإعادة بنائه من أجل الإفلات من أزمة الديون وتسريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

فكيف تتجسد هذه السياسة في الواقع؟

يعمل الصندوق على إدارة أزمة الديون الخارجية للبلدان النامية مستخدما أسلوباً محدداً يقوم على إقناعها بانتهاج سياسة انكماشية، وفرض الشروط البالغة القسوة عليها. فمن أجل الحصول على التمويل يتعين على البلد المدين أن يطبق برنامجاً تقشفياً لتخفيض العجز الداخلي والخارجي وجعل سعر الصرف واقعياً، وإلغاء القيود المفروضة على الواردات وإلغاء اتفاقيات التجارة والدفع الثنائية، والاتجاه تدريجيا نحو نظام متعدد الأطراف للمدفوعات الخارجية.

وفي مجال السياسة الاستثمارية يطالب الصندوق بضرورة تشجيع الاستثمارات الخاصة الأجنبية، وذلك عن طريق خلق مناخ استثماري ملائم من خلال منح هذه الاستثمارات ضمانات وامتيازات كافية (كإعفائها من الضرائب والرسوم الجمركية لسنوات معينة وحصولها على المواد الخام والطاقة بأسعار تشجيعية والسماح لها بحرية تحويل أرباحها إلى الخارج، وغير ذلك). ويفرض هذا على البلد المعني إدخال تعديلات جوهرية على أنظمته وقوانينه. ويلح الصندوق على تخصيص فروع واسعة من القطاع العام، وينصح البلد المدين بضرورة توجيه الاستثمارات الجديدة نحو القطاعات التصديرية من أجل الحصول على العملات الصعبة اللازمة لتسديد أعباء الديون.

وبالنسبة لسياسة الإنفاق العام يطالب الصندوق بضرورة العمل على تخفيض عجز الموازنة العامة للدولة تدريجيا وصولاً إلى إلغائه، وذلك عن طريق: خفض الإنفاق العام، وإلغاء الدعم على السلع الذي يستفيد منه أصحاب الدخل المحدود، وتخفيض حجم الوظائف الحكومية وتجميد الأجور، وزيادة أسعار الخدمات والطاقة وأسعار بيع منتجات القطاع العام، وزيادة الضرائب على السلع والخدمات ورفع أسعار الفائدة.. وتؤدي هذه الشروط في الواقع إلى كبح نمو الطلب المحلي من خلال الضغط على استهلاك ذوي الدخل المحدود، وتعطيل برامج التنمية، وإلى معدلات بطالة عالية.

هذه السياسة المتشددة واجهتها في الثمانينيات في عدد من البلدان (الأرجنتين، البرازيل، مصر، السودان، الفلبين وغيرها) تحركات شعبية عارمة احتجاجاً على شروط الصندوق. كما تعرضت هذه السياسة لانتقادات مرة من قادة بلدان عديدة في "العالم الثالث"، كان أفضل تعبير عنها ما قاله رئيس وزراء بيرو عام 1985 حين وصف صندوق النقد الدولي بأنه "ليس سوى مؤسسة سياسية تقوم مقام الاستعمار القديم.. وأن الولايات المتحدة تمكنت بمشاركة الصندوق من تمويل العجز في ميزان مدفوعاتها على حساب بقية دول العالم".

على الرغم من هذه الانتقادات ثمة اليوم نوع من الإقبال الواسع على طلب خدمات صندوق النقد الدولي، يعود في قسم منه إلى أن البنوك التجارية صارت تحجم عن تقديم القروض للبلدان النامية من دون توصية من الصندوق، وكذلك من البنك الدولي، اللذين تعتبرهما ضمانة لإمكان تسديد القروض. وأصبحت العادة ألا تقدم البنوك التجارية القروض للدول النامية ولا توافق على إعادة جدولة ديونها القديمة إلا بشرط دخولها الفوري في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي. كما أن "نادي باريس" للدائنين الحكوميين الغربيين ينتظر عادة صدور إذن رسمي من إدارة الصندوق بمنح القرض لبلد ما قبل أن يتخذ قراره النهائي بهذا الصدد. وإذا أضفنا إلى ذلك تقلص القروض الحكومية من دول الخليج بعد حرب تحرير الكويت وعواقبها الاقتصادية وكذلك زوال الاتحاد السوفييتي الذي كان يشكل مصدراً مهما لتمويل عدد من البلدان، وتحول روسيا والجمهوريات السوفييتية السابقة وبلدان أوربا الشرقية إلى منافس في طلب القروض والمساعدات المالية، يمكننا عندئذ فهم سبب هذا التحول في الموقف من صندوق النقد الدولي.

 

محمد دياب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات