أنات حائرة

أنات حائرة

طالعت في مجلة «العربي» العدد (613) ديسمبر 2009 باب «جمال العربية» تحت عنوان «عزيز أباظة: شاعر كبير لم يُنصفه عصره»، واستوقفني قول الشاعر الكبير فاروق شوشة، عن ديوان الشاعر «أنات حائرة» أنه - أول ديوان في الشعر العربي يخصصه صاحبه لبكاء زوجته، ولنا عند قوله هذا وقفة:

فالحقيقة أن أول ديوان شعر كامل قاله شاعر في رثاء زوجته هو ديوان ابن جبير لـ«الرحالة الأندلسي»، نتيجة وجد الجوانح في رثاء القرين الصالح، قاله في زوجته «أم المجد»، هذا الديوان الذي يدل على مكانها عنده كما يدل على حزنه البالغ عليها.

ولأن المرأة رفيقة درب زوجها في مشواره وهي سكن له كما هو سكن لها، وهي - إذا أصلح الله شأنها - ينفض الرجل على شواطئها متاعبه ومعاناته، والزوجة مع رجلها عماد الأسرة. فمن آيات الله البالغة أن يجد كل من الرجل والمرأة على السواء شريكاً له في مسيرة الحياة يفضي إليه بمكنون أسراره، ويطمئن إليه، ويجد راحته النفسية بجواره. فما كان الله ليدع الرجل تحت أثقال الحياة حتى يخلق له من يدفع عنه هموم نفسه ويحتمل دونه الكثير من المتاعب ويضيء له ما بين يديه من شعاب العيش، فخلق له المرأة، المرأة التي غايتها من صفاء النفس ونقاء السريرة والقلب. قال تعالي: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ، وأمرنا تبارك وتعالى في الذكر الحكيم بمعاملة المرأة بالإحسان ونهانا عن القسوة والغلظة: .. وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، وعندما يخرج الإنسان عن الأمر الإلهي في معاملته للمرأة تتحول حياتهما إلى جحيم، فتتحول المحبة إلى كره والمودة إلى خصام، وقد يصل الأمر إلى الفراق. ومع ذلك أنف الشاعر العربي من رجال قساة يضربون أزواجهم، فقال فيهم:

رأيت رجالا يضربون نساءهم
فشلّت يميني يوم أضرب زينبا
أأضربها من غير ذنب أتت به
وما العدل مني ضرب من ليس مذنبا
فزينب شمسٌ والنساء كواكبُ
إذا طلعت لم تبدْ منهن كوكبا

ولأن المراثي تترجم أصدق المشاعر، والدموع التي تصاحبها ما هي إلا دليل العاطفة المتدفقة اتقاداً وحرقة، يُروى عن الأصمعي أن قال: قلت لأعرابي: مال المراثي أشرف أشعاركم؟ قال: لأننا نقولها وقلوبنا محترقة.

ويروي الرواة أن بعض العرب سئلوا: «ما بال أفضل أشعاركم الرثاء..؟.

فأجابوا: لأننا نقولها وقلوبنا موجعة»، أي لأنها صادرة عن عاطفة حارة، خالية من كل تكلّف وتصنّع..

والرثاء يكون على فقيد في العادة من أهله وقومه وذوي قرباه، وليس هناك أعز من الزوجة رفيقة الدرب وأنس الوحشة وأم الأولاد.

فزوجة الرجل ألصق الخلق به يستوي في ذلك الشعراء وغير الشعراء. ومع ما يفترض في الشعراء من أنهم أشد من سواهم إحساساً بالوجود والناس، وأن زوجة كل منهم ألصق شيء به لا نكاد نظفر في ديوان أي شاعر بشيء عن زوجته إلا أن ينكب فيها. وإن استمرت العيشة الراضية عشرات السنوات. بل إن التراضي بين الشاعر وزوجته من أقوى أسباب عدم الالتفات إلى مكانها في جيرته. فالتراضي بين الزوجين كصحة البنية الحية والإنسان مادامت أعضاؤه صحيحة لا يشعر بها، فإذا أصيب أحدها أحسه وشرع يلتفت إليه، وهكذا موقف الشاعر وسائر الناس من الزوجة. لهذا ندر أن نرى في دواوين الشعر العربي نسيب شاعر في زوجته، وإن وجد فهي قليلة إذا قيست بغزله في الأخريات. أما رثاؤه لزوجته فيملأ ديوان الشعر العربي.

وفي العصر الأموي عرفت قصائد خاصة فقط في الرثاء، لكن جرير شذّ في مرثية زوجته فختمها بهجاء أعدائه في قصيدته التي يقول فيها:

لولا الحياء لهجاني استعبار
ولزرت قبرك والحبيب يزار

وفي العصر العباسي كثر رثاء الزوجات، وأشهر زوج رثا زوجته مسلم بن الوليد، فبعد دفنه لزوجته لاحظ أصحابه شدة ألمه واستسلامه لأحزانه، فأرادوا حمله على الشراب، حتى يتسلى عن مصابه فردّ عليهم بقوله:

بكاء وكأس كيف يتفقان
سبيلاهما في القلب مختلفان
دعاني إفراط البكاء فإنني
أرى اليوم فيه غير ما تريان
غدت والثرى أولى بها من وليها
إلى منزل ناء بعينيك دان
وكيف بدفع اليأس والوجد بعدها
وسهماهما في القلب يعتلجان

وهذا وزير الواثق والمعتصم محمد بن عبدالملك يقول أبياتاً في رثاء زوجته يصوّر فيها حال ولده وقد تركته طفلاً صغيراً، ويبين كيف يواري حزنه بدموعه، وهي من أروع ما رثيت به الزوجات فيقول:

ألا مًن رأى الطفل المفارق أمه
بعيد الكرى عيناه تبتدران
رأى كل أم وابنها غير أمه
يبيتان تحت الليل ينتجيان
وبات وحيداً في الفراش تحثه
بلابل قلب دائم الخفقان
فلا تلحياني إن بكيت فإنما
أداوي بهذا الدمع ما تريان
وإن مكانا في الثرى حظ لحده
من كان في قلبي بكل مكان
أحق مكان بالزيارة والهوى
فهل أنتما إن عجت منتظران

وللشريف الرضى أبيات يرثو فيها زوجته بلوعة وحزن فيقول:

ذكرتك ذكرة لا ذاهل
ولا نازع قلبه والجنان
أعاود منك عداد السليم
فيا دين قلبي ماذا يدان
فيا أثر الحب إني بقيت
وقد بان فمن أحب العيان
وقالوا تسل بأترابها
فأين الشباب وأين الزمان

وللطغرائي أكثر من خمس قصائد في رثاء زوجته، وكذلك للطائي وغيرهما قصائد عدة.

ولقد استمر رثاء الزوجات شعراً عبر كل العصور، ومن أبرز الذين رثوا زوجاتهم في العصر الحديث محمود سامي البارودي، الذي رثا زوجته بقصيدة تعد أطول قصيدة رثيت بها امرأة في الأدب، فقد بلغت أبياتها سبعة وستين بيتاً، حيث يقول:

لا لوعتي تدع الفؤاد ولا يدي
تقوى على رد الحبيب الغادي
يا دهر فيم فجعتني بحليلة..؟
كانت خلاصة عدّتي وعتادي
إن كنت لم ترحم ضناي لبعدها
أفلا رحمت من الأسى أولادي
يبكين من وله الفراق حفية
كانت لهن كثيرة الإسعاد
فخدودهن من الدموع ندية
وقلوبهن من الهموم صوادي

ومن الشعراء المحدثين الذين رثوا زوجاتهم في ديوان كامل «عزيز أباظة» و«عبدالرحمن صدقي»، و«طاهر أبو فاشا» و«محمد رجب البيومي».

هذه نماذج من شعر الرثاء العربي قديمه وحديثه، قد لا تعطي صورة كاملة عن هذا الفن الشعري المستقى من منابع العاطفة من القلب دون تزوير أو تلوين، لكنها تعطي لمحات متكاملة عن صور حزينة من صور النفس الإنسانية، وهذا غيض من فيض.

صلاح عبدالستار محمد الشهاوي
قاص وباحث في التراث العربي والإسلامي - مصر