عن انقراض العرب.. مرة أخرى

عن انقراض العرب.. مرة أخرى

تفضّل الأستاذ الكبير الدكتور سليمان إبراهيم العسكري رئيس التحرير بتناول موضوع، أو بالأحرى قضايا عدة من أهم قضايا الساعة، وذلك في عدد مجلتنا رائدة المجلات العربية «العربي» الصادر في سبتمبر 2009 شارحاً وموضحاً ومشخصاً حالة الأمة العربية في الوقت الراهن، ومبيناً حاجتها الملحّة إلى ضرورة العمل على تحقيق النهضة الشمولية والتقدم والرقي والازدهار والأخذ بثقافة العصر دون إغفال الماضي الحضاري المجيد لأمتنا العربية والإسلامية.

والحقيقة أن تذكير الأجيال الراهنة والصاعدة بالأمجاد والانتصارات والإنجازات التي حققها أسلافنا العرب والمسلمون في عصور الإسلام الأولى أو في ثنايا حركة النهضة التي قامت بها الأمة العربية بعد التحرر من الاستعمار العثماني، وما فرضه من ركود وخمول وجمود وتخلف وتأخر على الأمة العربية، التذكير بهذه الأمجاد الخالدة ليس من باب الفخر والتعلق في ذيول الماضي أو التباكي على أمجادنا الخالدة، ولكن بقصد إثارة الهمّة وتحفيز الشباب والعلماء الحاليين،.

التذكير بالأمجاد والإنجازات القصد منه تنمية الشعور القومي والوطني وغرس روح الاعتزاز والفخر بهذا الماضي العظيم، وتنمية روح الحماسة والإرادة والدافعية نحو استعادة هذه الأمجاد وتحرير الأمة العربية والإسلامية من مشاعر الضعف والوهن والانهزام والاستسلام وخاصة في ضوء غياب الأهداف القومية الكبرى التي يتعين أن تكرس الجهود لتحقيقها. ولنا أن نتساءل ما هي الأهداف القومية التي تدور في ذهن شبابنا العربي الآن؟

وهذه الأمجاد تثيرها وتحرّكها وتوقظها الأعمال الفنية الجيدة والأصيلة والناجحة على نحو ما قدمته سيدة الغناء العربي أم كلثوم مدعوماً بنشاطها القومي والوطني والعربي في جمع التبرّعات لصالح المجهود الحربي وتشجيع فكرة الوحدة العربية والاتحاد العربي والتماسك والتضامن والإخاء، وهو ما ظهر جلياً في وقفة العرب وقفة رجل واحد وأمة واحدة في حرب عام 1973، ولذلك كان النصر من نصيبهم، أين ذهبت روح أكتوبر المجيد؟

ومن الناحية التربوية الخالصة، هناك قيم تربوية وإنسانية وقومية ووطنية عظيمة، فيمكن للمعارض الجادة تحقيقها، وكذلك سائر المتاحف والمهرجانات والندوات والمؤتمرات وحلقات الدرس والأعمال المسرحية والكتب والمجلات والنشرات. كلها لها قيمة تربوية هادفة.

والفن ليس للفن كما يقولون أو ليس للتسلية والترفيه فقط، ولكن للفن رسالة قومية أصيلة، وغناء أم كلثوم كما يقول أستاذنا الدكتور سليمان إبراهيم العسكري، هو «توثيق فني وثقافي»، وكان غناؤها أداة ناجحة فعلاً من أدوات توحيد الأمة العربية على امتدادها وبين مختلف أجيالها وفئاتهم الثقافية والتعليمية. ولقد أدى هذا الغناء مصحوباً بجهودها وتجوالها في جميع أرجاء الأمة العربية إلى حشد الجماهير وتعبئتهم وإثارة الحماسة في نفوس أبناء الأمة العربية قاطبة، فضلاً عن جهودها المحمودة والمشكورة في جمع التبرعات من أجل استعادة العزة والكرامة والمجد، ومن أجل مسح عار الهزيمة التي منيت بها الأمة العربية في حرب عام 1967.

ويشير الدكتور سليمان العسكري إلى أنه «كان لنساء الكويت موقفهن البارز في هذا الاستقبال والمساهمة الكبيرة في التبرّع لدرجة أنهن خلعن حليّهن ومجوهراتهن وقدمنها تبرعاً للمجهود الحربي».

ويذكّرنا هذا الموقف النبيل من سيدات الكويت بما شاهدته بنفسي في السفارة المصرية في لندن حين وقعت الهزيمة، فلقد كنت أعمل هناك في أحد المستشفيات العقلية، رأيت مشهداً لايزال راسخاً في ذاكرتي ألا وهو اندفاع عشرات النسوة ليس فقط من العرب وإنما من جميع البلدان الإسلامية يخلعن مجوهراتهن وما لديهن من نقود للتبرّع للمجهود الحربي. كان مشهداً رائعاً يدل على الأصالة والشهامة والتوحّد مع العرب وقضاياهم، ولكننا نقول أين نحن الآن من هذا المشهد؟

إن الفن وسيلة لغرس الأمل والانفتاح والتحضّر والرقي، ولكن بوعي ودون إسفاف، والمعارك الحربية الكبرى، وكذلك الانتصارات والفتوحات تسجلها تسجيلاً جميلاً بعض الأفلام.

والسؤال الذي يمكن أن يطرح نفسه الآن هو ماذا نريد وكيف يمكن تحقيق ما نريد الآن؟

نحن في حاجة إلى إعادة إحياء التراث العلمي والفلسفي والأدبي والإسلامي والعربي، وأن ننفخ الحياة في أعمال ابن سينا وابن رشد والفارابي والكندي وابن الهيثم وابن النفيس وابن البيطار، ولا يليق أن يكون هؤلاء أحياء الآن في بلاد الغرب ونغفل نحن أعمالهم ونحن أحفادهم أولى بهذا العمل. نحن لسنا عجزة أو ضعفاء، إننا فقط في حاجة إلى استعادة الإرادة والعزيمة وإلى التخطيط الواعي وإلى الحرية وإلى التمويل السخي، ولنا أن نتذكر أن أجدادنا علماء الإسلام قد أسهموا في نشأة حضارة الغرب الراهنة حين ترجمت أعمالهم ونقلت إليهم عبر المعابر الحضارية. ولنا أن نتخذ من هذا التراث العلمي العظيم نقطة انطلاق وتوثب جديدة نحو الانطلاق نحو غد أفضل. وعاش فـن أم كلثوم، وعاش ذلك القلم البليغ الذي أحيا ذكراها: قلم الأستاذ الكبير الدكتور سليمان إبراهيم العسكري رئيس التحرير.

د. عبدالرحمن محمد العيسوي
أستاذ علم النفس غير المتفرغ بكلية الآداب
جامعة الإسكندرية