تعليق المعلقات جابر عصفور

تعليق المعلقات

ما الذي جعل المعلقات تنفرد بالمكانة التي أنزلتها العرب فيها واختصتها بها دون سواها من قصائد الجاهلية؟

إنها التركيبة الشعرية الإبداعية التي جسدت حضور النموذج الأصلي للشاعر في مجاليه الديني والدنيوي، وذلك على مستوى صياغة وعي القبيلة والصدور عنه، وتصوير رؤية العالم التي أنتجها سادة القبيلة الذين عبر عنهم شعراء المعلقات، وتمثيل المعتقدات التي جمعت بين السادة وغيرهم من أبناء القبيلة في تصور الكون من ناحية، ورابطة الولاء القبلي في تصور العصبية الجاهلية من ناحية ثانية، وكما اقتصرت المعلقات على إبداع السادة، من غير الصعاليك والأغربة والعبيد، فإن الذي انتخبها دون غيرها من القصائد، ورفعها على غيرها من القصائد، هم أقطاب السادة من الملوك والرؤساء، وكان فعل الاختيار نفسه شعيرة دنيوية دينية، الوجه الاعتقادي فيها لا ينفصل عن الوجه الاجتماعي، والعصبية القبلية هي الامتداد الطبيعي للتصورات الجاهلية، أسطوريا ودينيا، والعكس صحيح بالقدر نفسه.

ويبدو أن ابن خلدون "ت 808 هـ" كان يدور بخلده شيء من ذلك حين وصف الشعر بأنه ديوان العرب الذي جمع علومهم وأخبارهم وأحكامهم، وكان يتابع في هذا الوصف التقاليد التي لخصها عمر ابن الخطاب حين وصف الشعر الجاهلي بأنه "علم قوم لم يكن لهم علم أعلم منه"، ولكن ابن خلدون يمضي فيحدثنا عن مكانة الشعر التي كانت العرب تتنافس عليها، أو عن زعامته التي كانت محل صراع بين القبائل، وذلك حين كان الشعراء يقفون بسوق عكاظ لإنشاد الشعر، في حضرة رؤساء العرب، فيعرض كل شاعر شعره على فحول الشأن وأهل البصر لتمييز قدرته، حتى انتهوا إلى المنافسة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام، موضع حجهم وبيت إبراهيم، كما فعل امرؤ القيس والنابغة وزهير وغيرهم من أصحاب المعلقات السبع، ولم يكن يتوصل إلى تعليق الشعر على الكعبة إلا من له القدرة على ذلك بقومه وعصبيته ومكانته، فيما يقول ابن خلدون الذي يفسر بذلك سبب تسمية بعض القصائد الجاهلية باسم المعلقات.

وصل الديني بالدنيوي

وما يقوله ابن خلدون ينطوي على أكثر من دلالة، في هذا المقام، ويصل الديني بالدنيوي في تحديد القيمة الشعرية للمعلقات، وذلك من وجهة نظر الجماعة التي انتخبت من إبداعها، وبواسطة سادتها، ما كان أكثر تجسيدا لمثلهـا وقيمها، وأقرب إلى شعورها الجمعي، وألصق بذاكرتها التي تحفظ عليها وحدتها وتميزها على غيرها في آن.

وليحظ من يتتبع المرويات الخاصة بانتخاب القصائد المعلقة، دون غيرها من القصائد الجاهلية، ويركز على الذين قاموا بهذا الانتخاب القيمي، فضلا عن الشعائر المصاحبة لعملية الانتخاب نفسها، يلحظ من يقوم بذلك عنصرا ثابتا متكررا في الكثرة الكاثرة من الروايات، وهو أن عملية الانتخاب يقوم بها، عادة من يحق له الحديث باسم الجماعة الدنيوية ويقع موقع الملك أو البطريرك الأكبر بلا فارق يذكر بين الاثنين.

هكذا، قرأنا في التراث العربي، عن الملوك الذين كانوا يأمرون بحفظ القصائد وتعليقها، الملوك الذين كانوا يفعلون ذلك إعلانا عن التميز الإبداعي، لكن من زاوية الاعتراف بالمكانة الاجتماعية، والإقرار بالقيمـة الاعتقادية للقصيدة التي تعلق بالصدور، وتؤثر في العقول وتفعل فعل السحر في السامعين، ولم يكن صنف هؤلاء الملوك يكتفي بحفظ أمثال هذه القصائد في خزائنه، أو تعليقها في قصره، بل كان يجاوز ذلك إلى تعليقها على أقدس مكان تجتمع حوله العرب، وهو الكعبة المقدسة التي يتوجه إليها العابدون، ويطوف حولها جموع الحجيج، وقد نقل غير واحد من الرواة القدماء، في أكثر من مصدر، أن الملك من ملوك العرب كان إذا استحسن القصيدة قال: علقوها، وأثبتوها في خزانتي.

ولا يختلف فعل التعليق عن الحفظ في الخزائن، في حالة المعلقات، فالدلالة اللغوية لكلمة "المعلقة" تنصرف إلى كل ما هو نفيس، لا تتغير قيمته ولا يزول أثره أو حضوره، كما تشير إلى ما يحفظ في الصدور أو الخزائن، والقصيدة المعلقة هي القصيدة التي ينبغي صونها، وحفظها في الخزائن والصدور، شأنها في ذلك شأن عيون الحكمة التي كانت الملوك تصونها في خزائنها، والحكماء تصونها في ذاكرتها، لكن المعلقة لا تقترن بمعنى النفاسة التي تصلها بتقاليد صيانة الحكمة في خزائن الملوك فحسب، بل تقترن في الوقت نفسه بتقاليد الإعلان والإشهار بالتعليق على جدران القصور والمعابد والكعبة على السواء ومن ثم تعيدنا إلى مفارقة الستر والإظهار، وتلك مفارقة يقترن طرفها الأول بضرورة حفظ "النفيس" في الصدور أو الخزائن، ويقترن طرفها الثاني بضرورة الإعلان عن هذا النفيس، بما يتيح لكل الأعين أن تراه من ناحية، وبما يضعه في المكان الذي يليق به اجتماعيا واعتقاديا من ناحية ثانية، وليس من المصادفة، والأمر كذلك، أن العرب أطلقت على هذه المعلقات اسم "المذهبات"، واللفظ مراوغ في دلالته التي يصل بها "البغدادي"، في حديثه عن معلقة عنترة، ما بين معنى الإذهاب "الإخفاء" والتذهيب "الإظهار" أو معنى التمويه أو الطلاء.

وتلك مفارقة تعيدنا إلى الدلالة المزدوجة للستور السبعة في قصة معلقة الحارث بن حلزة التي أنشدها في حضرة الملك عمرو بن هند، من وراء سبعـة ستور، وتعيدنا قصة الحارث بن حلزة، بدورها، إلى التقاليد السابقة على العرب، التي انسربت إلى الموروثات العربية بأكثر من سبيل، وهي التقاليد التي نسمع عنها حين نقرأ أن ملحمة جلجامش قد كتبت بأمر الملك آشور بن بعل، ووضعت في قصره، ونبه على هذا في تذييل لوحاته التي ختمها بخاتمه، وظلت الملحمة مودعة في المعابد، معلقة على طريقة المعلقات العربية، فيما يقول نجيب البهبيتي في كتابه المتميز عن "المعلقات سيرة وتاريخيا"، وما حدث مع ملحمة جلجامش، في الحضارة الآشورية، حدث مع قصائد الشاعر بندار في الحضارة اليونانية، حيث علقت للشاعر قصيدته المعروفة باسم الأوليمبية السابعة، بعد أن كتبت بأحرف من ذهب، في معبد أثينا الإلهة اليونانية في ليندوس، ونقش للشاعر نفسه قصيدته عن آمون فوق لوحة حجرية، علقت في معبده بطيبة اليونانية.

كليلة ودمنة

وليس ببعيد عن ذلك ما نعرفه عن التوصل إلى حكمة بيدبا، في تراثنا العربي الذي أضاف إلى التراثين الفارسي والهندي، أعني بعثة برزويه الذي أرسله كسرى أنوشروان إلى الهند، بعد أن بلغه أن بها كتابا نفيسا، يحفظه ملوكها في خزائنهم، هو أصل كل أدب ورأس كل علم، والدليل على كل منفعة، ومفتاح طلب الآخرة والعمل للنجاة من هولها، والمقوي لما يحتاج إليه الملوك لتبرير ملكهم ويصلحون به معايشهم، وهو كتاب كليلة ودمنة، وظل برزويه يسعى ويحتال إلى أن وصل إلى خازن ملوك الهند الذي بيده مفاتيح الخزائن، وتوصل إلى الكتاب النفيس الذي حفظه ملوك الهند كالجوهر الكريم، وأخذه عنهم ملوك فارس، ثم نقله عنهم العرب، وأضافوا إليه ما يزيد من نفاسته الظاهرة المعلنة، والباطنة المستورة في الوقت نفسه، وأضيف إلى ذلك الأعمدة الحجرية وألواح الذهب التي تتناثر في حكايات ألف ليلة وليلة، فهي تلفت الانتباه بما هو منقوش عليها من أشعار معلقة، وتنطوي هذه الأشعار، على العظة والعبرة في الغالب، وتؤكد قيمتها وتحفظ وجودها بما انتقشت عليه من معدن نفيس أو حجر عجيب يقاوم الأيام والأزمان، ومثال ذلك ما نطالعه مع الأمير مـوسى، في حكاية مدينة النحاس، وصاحبه الشيخ عبدالصمد الذي كان يعرف كل اللغات واللهجات، وأول ما يطالعنا من هذه المدينة سبعة ألواح من الرخام الأبيض، منقوشة مكتوبة باليونانية، فيها وعظ واعتبار وزجر لذوي الأبصار، وفي أسفل اللوح الأول كتبت هذه الأبيات:

أين الملوك ومن بالأرض قد عمروا

قد فارقوا ما بنوا فيها وما عمروا

وأصبحوا رهن قبر بالذي عملوا

عادوا رميما من بعد ما دثروا

أين العساكر ما ردت وما نفعت

وأين ما جمعوا فيها وما ادخروا

أتاهم أمر رب العرش في عجل

لم ينجهم منه أموال ولا وزر

ويذكرني الرقم سبعة بالعدد الشائع للمعلقات "السبع الطوال"، وليست ألواح الرخام الأبيض المكتوبة المنقوشة سوى مجلى آخر من مجالى القباطي المصرية التي هي أثواب ناصعة البياض من الصحائف التي كانت تكتب عليها المعلقات.

السبع الطوال

ويعنى ذلك أن القصائد العربية المعلقة لا تنفرد بدلالة رقمها الغالب في الحديث عنها، وهو الرقم "سبعة" بما يومئ إليه من دلالات أسطورية اعتقادية، وسواء وصفت القصائد المعلقة بأنها "السبع الطوال" أو "المعلقات السبع " فإن الدلالات الأسطورية الاعتقادية التي تقترن بالتسمية السباعية لم تفارق المعلقات في المستويات الدلالية المتعددة لسياقاتها، وكان من بين المعاني التي انطوت عليها هذه السياقات معنى التراتب الذي يعلو به البعض على البعض، والشعر على الشعر، والقصيدة على القصيدة، إلى أن نصل إلى "المذهبة" التي توضع في أسمى مكان وأقدسه، لأنها خرجت على المألوف وأبدعت على غير مثال، وكشفت ما لم يكن معروفا قبلها، فأحدثت من التأثير ما هو سحر أو كالسحر، وفتحت لمن بعدها طريقاً لاتباعها، وكانت جديرة بأن توضع على جدران الكعبة، التي حدثتنا الأخبار عن تعليق سبع قصائد عليها.

وكان أول شعر علق في الجاهلية، من المعلقات السبع، هو شعر امرئ اَلتَّيْس الذي علق على ركن من أركان الكعبة أيام الموسم حتى ينظر إليه، ثم علقت الشعراء من بعده، وكان ذلك فخرا للعرب في الجاهلية، وامرؤ اَلتَّيْس ابن ملك كَنِدِّهِ وشاعرها الذي كان أول من ابتدع في الشعر أشياء سبق الناس إليها، وفي حديث عمر أن العباس رضي الله عنهما سأله عن الشعراء فقـال: امرؤ اَلتَّيْس سابقهم، خسف لهم عـين الشعر. يريـد أنه ذلل لهم الطريق إليه، وبصرهم بمعاني الشعر، وفض أنواعه ومصدره فاحتذى الشعراء على مثاله.

وقـد وجدت رواية ابن اَلْقَلْبِيّ عن تعليق المعلقات على الكعبة ما دعمها في روايـة قديمة، تنسب إلى معاوية بن أبي سفيان "ت 45 هـ " الذي روى عنه أن قصيدتي عمرو ابن كل ثوم والحارث بن حَازَهُ كانتا معلقتين بالكعبة دهرا، وكان ذلك مدعاة لأن يتقبل المتأخرون واقعة تعليق "المعلقات، على الكعبة بوصفها إحدى الحقائق التاريخيـة، وذلك ابتداء من ابن قتيبة "ت 276 هـ " في كتابه "الشعر والشعراء"، مرورا بابن عبدربه الأندلسي "ت 327 هـ" في "العقد الفريد"، والأصبهاني "ت 356 هـ" في "الأغاني "، وأبي زيد القرشي "مطلع القرن الخامس الهجري لما في "الجمهرمة"، وابن رشيق "ت 456 هـ " في " العمدة، والتبريزي " ت 502 هـ " في "شرح المعلقات " وانتهاء بابن خلدون "ت 808 هـ " في "المقدمة" والسيوطي "ت 911 هـ " في " المزهر" والبغدادي "ت 1093 هـ " في " الخزانة "، وذلك كله على سبيل المثال لا الحصر، وقد انفرد، فيما أعلم، أبوجعفر النحاس "338 هـ " في كتابه "شرح القصائد السبع المشهورة" بالشك في رواية ابن الكلبي نافيا ما شاع في أيامه من تعليق المعلقات على الكعبة، لكن أغلب القدماء والمحدثين لا يأخذون بشك ابن النحاس، ويميلون إلى تصديق واقعة تعليق المعلقات، وهي واقعة ظلت تقع على الأسماع موقع الحقيقة إلى عصرنا الحديث والمعاصر.

من الشفاهية إلى الكتابية

ولكن أهم من التصديق التاريخي، في هذا المقام، تأكيد دلالة اختيار المعلقات في مجتمع غلبت عليه النزعة الشفاهية، وما لقيه الاختيار نفسه من تسليم جمعي استقر في ذاكرة الأجيال المتلاحقة وما تخيلته هذه الأجيال وأبدعته من شعائر الاحتفال بتعليق هذه القصائد- المعلقات- على الكعبة، لقد اصطفت الصفوة التي اتبعتها الأغلبية وصدقتها عددا له مغزاه من قصائد الشعر الجاهلية، ونقلت هذا العدد من مشافهة الإرسال والاستقبال، إلى الحضور الكتابي للخط والقراءة، وكان في ذلك الفعل انتزاع لهذا العدد من الانسيال المراوغ للذاكرة الشفاهية، وتثبيت للوجود بما يبقي على الوجود، وكان في ذلك، أيضا، تأكيد للمغزى الديني الذي انطوى عليه حضور النموذج الأصلي للشاعر الذي أنزلته الجاهلية منزلة الأنبياء، ووضعت قصيدته موضعا مقدسا، وعلقتها في مركز عبادتها الذي تطوف به في حجها، وكان في ذلك مناقله لعدوى القداسة من الحامل إلى المحمول، ومـن المحمول إلى الحامل، وتأكيد للقيم الرمزية التي تنقلب بطرفي المجاورة إلى حال من الاتحاد، وقد صاغت المخيلة الجمعية، تكريسا لهذه الدلالة مشاهد احتفالية رددتها في موروثها الشفاهي والكتابي، خاصة بكتابة هذه المعلقات في صحائف نفيسة من قباطي مصر، والقباطي "بضم القاف وفتح الباء" ثياب رقاق من كتان مصر، ناصعة البياض، لا تشف، ناعمة، ملساء، نفيسة تليق بما يراد له الانتقال من الوجود الشفاهي إلى الحضور الكتابي، وتلك هي القباطي "المدرجة" التي كتب على نسيجها بالذهب، فصارت مذهبات، وصارت معها القصيدة المختارة "مذهبة"، مشهرة معلقة كالصحائف المنسدلة، معطرة بالمسك والعنبر، فوق أركان الكعبة ليراها جمع الحجيج، ويقرأها القارئون في خشوع، ويطوف حولها القادمون من كل فج، في شعيرة لا يخلو معناها من تقديس مكانة الشعر والشاعر.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات