جسد..! سليمان الشطي

جسد..!

من العادات التي لحظتها على أمي هي أنها تفتح فمها بإنزال شفتها العليا والضغط على أسنانها لتسيطر على كلماتها وكأنها تقوم بتصفية لها، ونلمح أسنانا بيضاء لا تزال قوية ثابتة لا يشوب منظرها شائبة لولا الثلاث التي انكسرت أطارفها فتشرشرت بفعل حادثة قديمة. وحين تميل على من تحدثه تشفع ميلها بابتسامة معتذرة قالت ابنة جارتنا عنها بأن السماحة تطل من وجهها، ولم يتورع أحد الزملاء، حين حمل إلي رسالة عاجلة، من أن يقول لي عنها بأنها تمتاز بطلعة جميلة لا يخطئها الناظر إليها من بعيد، من المؤكد أنه لم يرها وهي تتحرك حيث يبدو الالتواء القديم في قدمها، أثرا باديا في المشية فيرتفع جزء من المؤخرة ويهبط آخر. وقد أصبح لا يثير الانتباه بحكم مزاحمة الشيخوخة له، هذا العرج الخفيف يثير حكاية قديمة وعندما يسألها عنها سائل ترد بابتسامة غامضة، بعض السائلين يتحلون بالبراءة ولكن آخرين كنت أشعر أن سؤالهم يخفي وراعه باعثاً مبهما لم أجد في ذاكرتي من الأحداث ما يساعدني على المعرفة. وألفت هذه الحركة الملتوية التي تثير اللعاب في الأفواه المتسائلة وهي تشفط هواء الاستغراب وتكون للعيون حينئذ لمعة غريبة.

أمي هادئة هدوءاً قاتلاً مستسلماً لولا تلك الانتفاضة التي تأتيها مفاجئة فتتحول ردة الفعل إلى حركة عنيفة لا سبب ظاهراً لها، حركة جفول غير منسجمة مع طبيعتها.

في جانب الوجه أثر واضح من ضربة مفاجئة، خط هلالي مغروس يتضح مداه عندما تحرك (ملفعها) الساتر لأجناب الوجه، فيلمع المشباك الذهبي، وفي الوقت نفسه تسمح حركة الرأس برؤية أول الجرح بينما الحركة اللا إرادية المستمرة لتوسيع أجناب غطاء الرأس تكشف عن امتداده، الذي تحول إلى أخدود قديم تضاءل السؤال عنه، فلا أحد يلتفت إلى شروخ في وجه امرأة تجاوزت الستين، وإن كان بعض زميلاتي أشرن إلى أن وجه أمي صبوح لولا هذا الجرح الذي لم يكن وراءه حكاية تستحق الرواية، ونحن الأبناء لا نبحث عن شيء وراء حكايات الآباء، فهذه الخطوط التي تسجل أعمارهم نراها شكلاً هلامياً لا ينبئ عن شيء.

ولكن الجارة القديمة التي التقت بها في المطار حرصت على أن تتعرف على حدوده فدست أصبعها بين (الملفع) والوجه متمعنة في الجرح القديم الغائر الممتد والذي تغضنت أطرافه وتلاحمت بتشويه فأصبح وادياً مسيطراً على شكل وتضاريس الوجه الذي استطال. كانت الجارة تطري ذلك الجمال القمري القديم فراحت تتحسر عليه. من المؤكد أننا نحتفظ بصور في داخل أذهاننا عن أناس فنتوهم المتوسط فائق الجمال والمعتدل القامة طويلاً، الزمن يخلق دهشتنا، وهذه الجارة مدهوشة، حقيقة أن أحداً لم يقل إن أمي لم تكن جميلة، ولكن المبالغة عند ذلك الجيل تثير في نفسي شكاً كبيراً.

سعادة أمي بهذا الإطراء فكت عقدة اللسان، كنا على ارتفاع ستة وثلاثين ألف قدم عندما راحت تروي متوسعة ما حدث، خرجت عن تحفظها الذي أعرفه، واكتشفت موهبة مدفونة هي قدرتها على تقديم العادي بطريقة غير عادية، ومن خلال سردها انكشف لي ماضي طبيعتها المتعلقة بالأصوات، ليس كلها ولكن لبعضها صدى خاصا يسبب ردة فعلها غير المتوقعة..

من حكايتها أدركت أن التكريم لا يكون في كل الأحوال فاتحة خير، فقد هبط عليها بعد حين من الدهر أصبحت الحياة فيه طعما مشبعاً بثقل من شجن متراكمة خطوطه، فقدت ولدها الثالث، ومرت بنهر العذاب فتجمعت قطراته عليها، لحظتئذ رأى والدي ومعه أصحاب الرأي أنها تجاوزت حقل الامتحان الأول، فالعمر ألقى بحباله عند شاطئ الحكمة و(التكانة)، فمست الثقة دنياها، فسمح لها أن تخرج إلى السوق، لتقضي حاجات النساء، مرة أو مرتين في الشهر وفي المناسبات مثل مقدمات الأعياد وشهر رمضان، وتكون معها، عادة، رفقة تراقب وتعصم.

التردد أصل عندها، والعادة عجلة تطوي ما تحتها، فالمنحة تأخرت، فأصبح نور الشارع حارقاً للعين مربكاً للخطوة، لم ترحب بهذا الفضل لولا الضغط الداخلي، فقد مل من حولها ذوق الرجال الذين لا يجلبون لهن إلا كل غريب وساقط في السوق، كان آخرها ملابس عسكرية من مخلفات الحرب.

حياة أمي لا تدخل منعطفاً جديداً إلا ويكون ثمنه حاضراً، وهذا الخط المتعرج في الوجه شهادة مقبولة. خروجها الخامس للسوق هو المحسوب لها وعليها، فالمرات الأربع السابقة كانت تابعة لذوات الخبرة ممن لهن قدم راسخة.

اتخذت سمة القائد، فالتي كانت معها أصغر سناً والمسئولية حرج يجعل الأقدام أثقل من المعتاد. ولكن بين تقاطعات السوق ودكاكينه تأخرت الرهبة وتقدم الانهماك.

ارتفاع الصوت الرجولي الخشن إيذان بأن ما هو متوقع لم يتم كما قدر له من قبل، تفجر صراخ الرجلين فاستوى مؤشر الصراع عند حده العالي، تطامنت كل الأصوات الأخرى إلا صوتيهما فجاء الصراخ كهرباء صاعقة شلت قدرات أمي المتفتحة في ذلك اليوم فأعادتها إلى الاضطراب فالانكماش.

تقارب ديكان فانتصبت شعرات الغضب سهاماً مصوبة، اندفعا من الجهتين، أحدهما عن يمينها والآخر عن شمالها، فأصبح موقعها على رأس المثلث. تماسك كل ما فيهما بعنف شرير فكانا كتلتين متلاحمتين تتقافز منهما حركات الحدة الطائشة، التحامهما يهصرها في الزاوية التي حشرت بها، وانفتح رعب بنيرانه.

لم تستطع أمي أن تشرح الكيفية التي ألقت بها وسطهما، وإن كانت تخمن أحيانا دون تأكيد بأنه عندما انفجرت تلك الصرخة الحادة فقدت توازنها فارتدت إلى الوراء فإذا هي في الزاوية، وفي لحظة تمكن أحدهما من الآخر فراح يدفعه ليحشره في الزاوية التي سبقتهما إليها، ولكن الآخر استعاد سيطرته على الموقف فتجمدا عند أنفها وخوفها يضغطها إلى الخلف فالجنب، زاوية الخد اصطدمت واستقرت على الحافة الحادة العارية للباب الحديدي الجرار والذي كانت أطرافه دالة على عمل غير متقن.

وعندما تداخلت الأيدي الخشنة لتفك الكتلتين المتصارعتين كانت أمي أكثر الثلاثة نزفاً، قطرات الدم تشرشر فيمتصها ثوب يخفي سواده احمرار الدم الدائم.

حينما تسمح لأصابعي بتخلل شعرها تصطدم بنتوء في رأسها لجرح آخر لم يخفه شعرها الكثيف والذي كان أقرب إلى الخشونة فلم تستطع السنوات أن تأخذ منه شيئاً، المنظر يكتمل حينما تجلس في منتصف غرفتها ومن الشباك تبسط الشمس مستطيلاً داخل الغرفة، نصف جسدها في الشمس وقد تربعت ومشطها الخشبي يتحرك بين خصلات شعرها، الشهبة غالبة على السواد، لا يكاد مفرقها يفصل إلا عن خط دقيق بينما يتكاثف الشعر في كل جزء ولا يشذ عن هذا إلا جزء صغير شبه دائري تحيط به جذور الشعر الممتد، بقعة بيضاء تكشف عن فروة الرأس. لقد ألفت هذه البقعة منذ أن أقحمت نفسي رغما عنها محبة في تضميخ شعرها بالزيت، السؤال عن الأشياء القديمة في هذا البيت متوقف، فكل شيء كان موجودا قبلي جعلته الألفة جزءا من الطبيعي الذي لا يسأل عنه.

ولكن هذه البقعة المنكشفة، بالذات، أعرف تاريخها، كنت في الثالثة عشرة حينما احتضنتها وقد امتزجت بقع الدم بلون الفستان المدرسي الأخضر الكريه الذي اختاره مفتش من مفتشي المدارس تكلس ذوقه في سواد السبورة وبياض الطباشير. فاجأني المنظر فانزرع الرعب فهربت إليها فتلقفتني ممسكة بي بيد والأخرى تضغط على رأسها، على فوهة ينبثق منها الدم وقد سالت خطوطه آخذة اتجاهات متعددة نازلة من جوانب الرأس، الجبهة والرقبة والجيد والأجناب، منظر ظل يتجدد كلما رأيت خطوط الحناء، حينما تضعها في رأسها، تسيل داكنة في نفس خطوط الدم السابقة. أخذت تهدئني والوهن باد عليها، والدي يقبل وقد حمل بيديه عدة الستر: العباءة والبوشية، يحرص على تغطيتها ويمسكها من جانب الكتف.

بعد ثلاث ساعات عادا وقد تورم رأسها بالشاش الأبيض، ذهب روع أبي وبقيت كلمات اللوم واضحة وإن خففها بكلمات مثل: (الله يهديها)، (الله يسامحها) (ما عندها عقل).

عندما نتبين الأمور نضحك. فالمصادفات تتلاقى لتخلق وضعاً أو حادثة، فوالدي الذي لا يحب أن ترتفع الأصوات في بيتنا اضطر إلى ما لا يحب عندما حشا الطبيب أذنه اليسرى بالقطن. هو مغرم بسماع الراديو وخاصة التمثيليات التي يحرص على سماعها لوحده، يقلب رأسه بطريقة معينة نحو الراديو ويسد منافذ الصوت فلا يشاركه في السماع أحد. تفتتح حلقة تمثيلية ذلك اليوم بالصوت الرجولي يتصاعد ضخما حاداً صارخاً يحمل هجوماً كاسحاً على المرأة التي لم تنطق:

- ماذا تفعلين..

الصرخة كانت كافية كي تفاجئ أمي التي لا تفرق بين الأصوات، فزعها قذف بها إلى الأعلى، طار الجسد فاشتبكت قمته بالشباك الحديدي الذي كانت زخارفه أسياخاً ملتوية إلى الخارج. لم تستطع أن تفسر لأبي شيئاً، اعتذارها عن خطئها دموع وهمهمات. بعد سنوات سألتها وأنا أمر بالزيت على شعرها فكانت إجابتها: انصب الصوت داخل أذني وكأنه رصاصة انغرست في صدري، صراخ والدك مقدمة لشر قادم، ولم أشعر وقتها إلا والسيخ في قمة رأسي. شعرها جميل لولا هذه البقعة، وكانت محاولاتي تفشل في تغطيتها، كانت غرزها من السوء بحيث تدبب الموضع إلى الأعلى، فأصبحت البقعة البيضاء واضحة.

عندما كنت أقلّب جسدها المتخشب كي أضمخه بالبودرة المطهرة إبان نكساتها الصحية كنت ألاحظ امتداد الحرق، أطرافه تبدو في باطن الفخذ، الأثر مثل غصن مكتظ بأوراق جافة. من قبل كنت ألحظ الحرق حينما تتخلص من حرصها الشديد على حماية جسدها، قلبي يتقلص وأنا أقلب الجسد وأرى تغضنات الحرق القديم وقد التفت حتى الخلف.

كنا في منتصف الستينيات دخلت وسائل حديثة كثيرة إلى منزلنا، شيئان لم يستطيعا اختراق تحفظات والدي، فهو لم يقبل أبداً نظام المنزل الأفرنجي، ولم يتخيل أن يكون بيته خالياً من الأحواش المربعة، وعندما زحفت أطراف من الحظ إلينا اشترى بيتاً جديداً على النظام القديم، فرحتنا به لا حد لها، بأرضه الملساء وحماماته المتعددة،ف البلاط المزخرف والصنابير التي ينحدر بها الماء من باطن الحائط، وحوضه الكبير الذي يخفي خلفه حوشاً صغيراً مستطيلاً مندساً بعيداً عن العيون، فيه المطبخ والحمام وحوض الغسيل، وهذا الحوش هو المكان الوحيد الذي تحولت أمي إلى جزء منه، تحبه لميزة خاصة هي بعده عن الشارع والذي يجعل الأصوات والمفاجآت بعيدة.

الشيء الآخر أن والدي، رغم حرصه على شراء كل جديد لنا، لم يتنازل عن الخبز الرقاق الذي يغمسه في (اللبن) الرائب، وهي رغبـة لا تملك أمي لها رداً، بل تسعد بها، تشعل نارها في حوشها الصغير حيث تتجرد من الحذر والترقب، وتترك ليديها حرية التحرك على (التاوة) في الأمسيات أو بعد صلاة الفجر.

ولأن حياتنا يدخلها جديد كثير فإن مفارقات هذا الجديد قد تحمل معها أذى غير متوقع، وهذا الحرق المتلوي في جسد أمي واحد من هذا، فعندما أشعلت النار وتمكنت في جلستها منحنية على التاوة التي بدأت تنشنش بصوت لهيبهـا وسعادة بادية على وجه أمي وهي ترش بزجاجة ذات ماسورة ركبها والدي تضخ الكيروسين الذي يساعدها على إذكاء اللهب بدلا من النفخ المتوارث.

الانهماك حالة من حالات الغيبوبة التي تعين على استهلاك الوقت المتطاول داخل البيوت المربعة، وطبيعة فيها راسخة تفصلها عما حولها، والحوش المنزوي عالم يسمح لها بهذا كله.

من السهل أن يختل النظام بفعل صوت، ولم يكن في هذه المرة صوتاً واحداً ولكنها أصوات أعقبتها فرقعة. كان صوت الرجل الشبحي يأتي من أعلى سطح الجيران قوياً يمتد مع اتساع الهواء واندياحه في فضاء السطوح وتلاقت معه الأصوات الأخرى والفرقعة لتنسكب هذه كلها متضخمة ومنحدرة إلى الحوش الكبير كاندفاع الهواء في واد صغير لتصب كلها في أذن أمي اللاقط، أصوات سكاكين تنحدر منحطة عليها. وجاءت ردة فعلها، أطبقت فخذيها بقوة وبحركة واحدة تحركت اليد لتجمع ثوبها المنحسر عن أطراف جسدها. مع الالتفاتة انكفأت على جانبها لتصطدم، كالعادة، اليد الطائشة بالزجاجة الرشاشة التي انثلم طرفها على حافة (التاوة) وانسكب السائل ناراً شيطانية تندفع مخالب معقوفة تنشب بالفخذ.

وظلت أمي أكثر من شهر تتلوى في الغرفة وقد عري ساقها تغطيها كلة بيضاء، كان والدي يحرص على إحكام جوانبها وينش الذباب عنها وهو لا يزال يتعجب من ردود فعلها وعدم حيطتها، ورغم تظاهره أمامنا باحترامه لها فإن شفقته عليها هي الأكثر بروزاً، وكان لا يزال يرى أنها بلهاء بل يقول عنها أحياناً إنها بهيمة.

وعندما أرفع رأسي وأرى خزان ماء الجيران الذي بدأت أطراف الصدأ تسيل منه أتذكر العمال الذين تجمعوا فوق السطح حوله عندما كان جديداً وقد تطامن صوتهم وملكهم الخوف والحيرة حين فاجأهم منظر النار والمرأة..

كان الجرح بارزاً متخشباً تحت يدي وأنا أضع البودرة عليه.

الأصوات وحدها لا تصنع كلمات، لذا يبقى المعنى متوارياً لا نعرفه، غمغمة وعبارات ترددها حين التعرض لالتواء القدم، تردد قائلة إنها عندما كانت في السابعة عشرة من عمرها تهاوى بها الجدار الحامي للسطح والذي تفتتت أطرافه بسبب ديمة مملة، وتضيف في حالة الانفراج أن سقوطها كان إلى الشارع، وأن شخصاً فر منزعجاً عندما رأى جسداً ينحدر عليه من الأعلى بعد أن سبقته قطع الطين، وأن جيراناً كثيرين تقاطروا إليها، وحكت متذكرة (البشت) الذي ألقاه عابر عليها، ووصفت منظره الخجل حين وقف ينتظر استرداد بشته وقد انكشف سره، فقد كان مزقاً مهلهلة يخفي عيوبه بطيه ووضعه تحت إبطه. نوادر تروى أما التفاصيل الأخرى فقد ظلت صفحة مكشوفة عند أناس آخرين إلا أنا، والآخرون يتحدثون عادة عن كل شيء ولكنهم- ولهم الشكر والحمد على هذا الشعور- يتحرجون فيحجبون أخبار الصفحات المطوية للآباء. لقد كان تواطؤا محموداً، فاختفت بعض أطراف حادثة قديمة عادية جداً ولا تستدعي كل هذا. الجارة التي ألقتها مصادفة الطائرات المتكررة استهواها حديث الأمس فغمزت، ملمحة، إلى الشيطنة القديمة، كانت أحاديثها عن أخريات، عن مريوم التي تتخفى بملابس الرجال لتقطع (السكيك) مساء متجولة ومتنقلة من بيت لبيت، فطومة التي امتهنت التنقل بين السطوح مراهنة على أنها تستطيع الوصول إلى السوق من أعلى السطوح، وامتدت مساحة صوتيّ أمي وجارتها عندما استعادا طريقة فطومة وقدرتها على القفز خاطرة السكة من أعلى، ووقفة الفزع التي استولت على مُلاّ علي عندما رفع رأسه وإذا بغمامة حمراء تحدث صوتاً قافزة مسافة الثلاثة أمتار والنصف هي مقدار عرض السكة. وقد ظل زمناً يتحدث عن الساحرة القادمة من الجنوب، لعلها من عمان. ولم تخف تلميحها إلى فعلة أمي فضغطت على فخذها ضغطة ذات معنى مذكرة إياها بأن قصتها مع الحائط لا تقل طرافة عن فعلة فطومة.

حين ألحت عليّ الرغبة باستكمال حلقات هذه الحادثة دعاني الخبث إلى أن استنجد بصديقتي المشاكسة سعاد. وفي لحظة شيطنة وافقتني على أن ما يقال عن أمهاتنا لا يقال لنا، وأنا أحب أن أعرف ما تبقى من أطراف الحقيقة.

كان تحديد أمي لعمرها صحيحاً، فهي كانت فعلاً في السابعة عشرة، وأن جدار السطح الحامي تهاوى بها في الشارع، وحكاية صاحب (البشت) صحيحة، وأن الناس العائدين من السوق، والذي كان بيتنا القديم في بداية الطريق إليه، تجمعوا حولها، ولكن هناك خطوطا أخرى للحادثة.

انتبهت الصبية إلى جمالها المتميز، قامتها تقطعت تقطيعاً أنثوياً متكاملاً يملك قابلية جذب الرأس إليها، رأته في عين (الحمّار) الذي لم يكن يعير أحداً أي اهتمام، وفي وقفة مساعد الملا الخجول الذي لم يقاوم رغبة إعادة النظر إليها أكثر من مرة ومن يومها تعمدت أن تشد العباءة إلى جسدها فتكور الأجزاء البارزة فيه، وتحرص أن تبعد طرفيها من أعلى فتتضح مساحة من الجسم البشري المنتشر خارج العباءة. فرحها بهذا الشباب وانفتاحها على الآخرين جعلها حمامة يشيع في داخلها أمن وإقبال على كل ما حولها، كأنها تريد أن توزع شبابها على كل أجزاء الطريق، وأصبح الشارع محلاً لأكثر من قادم يتلكأ في انتظار هذه التي تتبختر بين البيوت. تفتح على الدنيا لم يخلق كي يستمر، فقد كان هناك ثلاثة بالمرصاد، جدي طيب ولكنه غير متراخ، أما أخوها فلا يحسن إلا استعمال يده، وتتجسد كل الشراسة في الخال. بعد ثلاثة شهور سُكب (الجاز) على العباءة وأشعلوا فيها النار. واختفت طلعتها من الطريق.

بعد أقل من شهر عادت الرءوس المتلكئة مرة أخرى وأخذت الأعين ترتفع إلى أعلى الحائط حيث السطح، فقد استعاضت عن الشارع بعشق هواء السطوح المنعش، فتلازم ظهورها مع العصر حتى المغرب. وبعد شهرين، مع أول الظلام، ارتفع صراخها وكان هناك شبحان متقابلان يميلان بعصبية منظمة على جسدها المتكوم، ضرباتهما متناغمة مثل حركة (دق الهريس)، فعليها أن تدفع ثمن الجمال المقبل على الحياة عندما تكون بين ثلاثة رجال يحفظون التاريخ المحلي ومقولات المجتمع المنظم.

انصلح الحال وانعدل الضلع الأعوج، ومضت سنة أخرى أو أكثر، ووجد النسيان طريقه، فلم يعد أحد يذكر الجميلة التي هجم عليها الشباب فانبلج الجمال فظنت أن حقاً عليه للآخرين، ولكن التفتح سنة الحياة وغيرها كثيرات، الأرض تطرح الجميل المبدع، أما هي فقد عرفت حدودها. تآلفت مع الحذر، واعتادت الانحناء عندما تصعد للسطح لحاجة ما، منكبها، حين تتحرك، أعلى من رأسها، ولم تكن تفارقها ارتعاشة خفيفة في قدميها.

بعد سنتين عاد يحيى من مقر دراسته، والده الميسور حرص على إرساله إلى بيروت للدراسة، تغيُر كبير طرأ عليه ولكن اهتمام الآخرين به لم يمنعه من أن يخص أمي بسؤال عنها حملته أخته إليها، هذا السؤال أطلق الأفكار التي شدت العزيمة، كلاهما كان يتوقع شيئاً، فوجد شيئاً آخر، فشخصية يحيى الشرسة العابثة التي اضطرت والده إلى انتشاله من ميول الضياع ودروب الشيطنة تحولت إلى الهدوء، استطال جسمه، بانت عليه الأناقة الجاذبة للأنظار، ارتفع صدره وأصبحت خطواته مستقيمة ثابتة، أما هي النمرة الشرسة القوية الواثقة من نفسها والتي أطاحت به أرضاً مرتين، وسخرت منه بعد ذلك عشرات المرات تحولت إلى عين خجلة تصادق الأرض وتحسن قراءة التراب وفي صوتها تأتي وصوصة لا حروف لها.

شهور الصيف الطويلة صنعت شيئاً بينهما لا أحد يعرفه. سافر ليعود على غير توقع بعد أربعة أشهر، وفي يوم عودته حدث الحادث. كـان ربيعا جميلا. ديمة استمرت أياماً، قطرات مائها المتوالية خلخلت جدران وأسطح البيوت الطينية، وعندما سطعت الشمس كانت الحجة قاطعة ومقنعة للبقاء في السطح مع الضحى لنشر كل مبتل، تفتح استقبالُها للسماء، واقتربت من الحائط محافظة على المسافة بينه وبينها، أطل يحيى من آخر الشارع مقبلاً، مالت وحاولت أن ترفع جسدها أكثر فأكثر منتظرة ارتفاع عينيه المتوقع، كانت المرة الأولى التي تصادف خروجه الذي توقعته بعد سؤاله. وعندما رفع رأسه انقطع حذرها فضغطت على الجدار أكثر فأكثر، حواسها انصهرت متكورة شوقاً. تلكأ أمام باب المنزل المقابل، كانت هناك طلعة ترابية مرتفعة عن مستوى الشارع فاعتلاها، أرادت أن تطلق صوتا فخرج هواء مندفعا من الصدر يحمل معنى دون كلمات. ارتفعت يده بإشارة لها معنى، هزت رأسها كي تستكمل فك الشفرة، كل وجدانها وحيويتها مركزة لتفسير الإشارات السريعة، كان من الممكن أن تتكامل الرسالة.. لولا.. صوت خالها الجهوري المشرشر، ارتفع فجأة ليقول شيئاً، تجسم، تعملق تحول دوياً تفجر الخوف فالتهم ذُعرها شوقها، ودفعت رجلها لتنطلق ولكن حركتها تحولت إلى قوة ضاغطة على الحائط الطيني الذي اهترأ من المياه وقد جففت الشمس بعض أطراف وتهاوى جسدها على مقربة من الحبيب القادم الذي لم تشفع له الجروح التي أصيب بها من تصاعد اللمز والغمز.

للحب ثمن محفور باق في القدم.

إحساسها بالصيف يأتي مبكرا، تستعد له بشراء القماش الأبيض (الدشاديش) أخي الذي يَعدُها بقضاء الصيف كله معها ولكنه كان يتأخر دائما. تدس القماش تحت سريرها لا تخرجه إلا بعد أن يتحدد وصوله، عاد هذا حيا في ذاكرتي عندما وضح لي أن أخي لم يتقيد بقوله لي من أن القبول بالواقع هو إيمان بالحياة، أحس بارتعاشة كتفه التي كشفت عن غصة وهزة بكاء مرير، قميصه الأبيض الفضفاض يتموج من عنف حركته، عصرني تذكر حركتها المنكبة على الأرض وهي تلملم القماش، وجاءت صورة الجارة الطيبة التي حملت معي أيام المحنة، فعندما انْشَلّت مقدرة التصرف عندي كانت أم سالم تدس يدها تحت السرير لتخرج القماش، تطويه ثم تدسه معها في العباءة وقد حملت بيدها عدة الجسد الميت.

ينكمش تجلدي عندما أرى منتصف غرفتها خاليا منها وأفتقد يدها المتحسسة الأرض من حولها باحثة عن دلة قهوتها اليومية، فمنذ أن تقاصر نظر عينيها أصبحت تستعين بحركتها الدائرية الحذرة المستعينة بسمعها الذي بقي قويا. كلُّ ما حولها محدد مكانه فلم تعتد في حياتها أن يكون أحد معينا لها. إن جزءا من الصورة المطمئنة التي كنت أتزود منها مع كل صباح قد طواه الفراغ الأسود، أصبح ظهري يستند إلى هواء، لم تبرد جروحي بعد، أصبح خط النفس منفتحاً على الأحزان بعد شهور الموت التي عشت ثوانيها السوداء.

تسعة شهور مضت على الفرقعة التي توالى بعدها الهول وكان للذهول زيارة ثقيلة، وفي الخامسة صباحاً توالت الفرقعات، هي وحدها التي لم تتأخر عندها ردة الفعل، فعندما انحدرت من السطح وقد حطمت صور الطائرات الحربية الشك وجاء يقين محزن، هربت رجلاي بي إلى غرفتها فوجدت الجسد طريحا. العينان نصف مفتوحتين في تشنج واضح، والشفتان نصفان: حي وآخر ميت. ساق تتحرك وأخرى كومة من اللحم المتثاقل، أيقنت أن الخبر المفزع قد انحدر في أذنيها، فليست هي من النوع الذي تغيب عنه مثل هذه الأصوات.

عندما حملتها إلى المستشفى كنت أقوم بعملية فيها الكثير من السخرية، فحين يقتحم الجنود الغرباء المدينة لا يبقى لامرأة عجوز مشلولة مكان، وطرح جسدها في جانب من غرفة متسعة غادرها المرضى ودخلها الجرحى، تقلبت بين الوعي والغيبوبة وبعد ساعات دوى انفجار كبير، اهتزت الجدران فانتفض الجسد المسجى، تولدت قوة فيه فانقذف فإذا هو على الأرض، تناثرت أوعية وانسكبت محاليل وتدلت أنابيب.

رحمها الله!.

 

سليمان الشطي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات