من ذكريات الغوص.. إلى ذكريات الغزو سيد هويدي

من ذكريات الغوص.. إلى ذكريات الغزو

متى يرتفع النصب التذكاري للكويت؟

النصب التذكاري هو تجسيد لتطلعات الشعوب، وعندما تستعد الكويت لرفع نصبها على شاطئ الخليج فإنها تجسد خلاله كل رموز تاريخها الماضي، وتتطلع إلى انطلاقة المستقبل.

جاءت فكرة إنشاء نصب تذكاري لدولة الكويت في وقت كانت مؤسساتها تستكمل دعائم نهضتها الحديثة في كل المجالات، فقد كانت الفكرة ماثلة باستمرار في فكر صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد الصباح أمير البلاد، لذلك ترجع فكرة مشروع إقامة النصب التذكاري بشكل فعلي إلى العام 1989، عندما استدعى سمو الأمير الهيئة الإدارية لجمعية المهندسين الكويتية بكامل أعضائها، حيث كلف سموه الجمعية بإعداد دراسة تهدف إلى تطوير فكرة إقامة النصب التذكاري، مع توجيهاته بأن تكون دلالاته الرمزية تعكس حاضر الأمة وماضيها وتستشرف مستقبلها.

وقد كان، فتشكلت فرق عمل داخل جمعية المهندسين تسعى إلى تأدية الواجب الوطني، من أجل الإسهام في ظهور هذه الرغبة السامية إلى حيز الوجود، لذلك كانت أولى خطوات فرق العمل، القيام بعمل دراسة حول بلورة المفهوم المبدئي للنصب التذكاري، حيث ضم فريق العمل كلا من مؤيد عبدالعزيز عبدالرشيد رئيسا، سعود عبدالعزيز الصقر مقررا واثنين من الأعضاء محمود عبدالمجيد الزبيد، ومحمد عبدالخضر إبراهيم.

وفي يناير من العام 1990 قام فريق العمل باعتماد المراحل التالية للدراسة، والتي تمثلت في الاطلاع على التجارب السابقة للدول الأخرى في هذا المجال، كذلك عرض بعض الموضوعات المهمة في الكويت والتي بإمكانها أن تمثل فكرا للنصب التذكاري، ومن ثم وضع الإطار العام للخطوات الأولية للتنفيذ. وإيمانا بمبدأ المشاركة وتبادل الرأي مع كل من بإمكانه الإسهام في هذا المجال، فتحت جمعية المهندسين بابا للحوار من خلال تنظيم حلقتي عمل للمناقشة، ضمت أربعة وأربعين مشاركا من مهندسين ومعماريين وفنانين ومؤرخين وغيرهم. حيث تم استعراض ومناقشة عدد من الأفكار والمتطلبات الأساسية، التي يمكن الانطلاق من خلالها، ومنها ظهور النفط في الكويت، وخصوصية الشعب الكويتي التي تتمثل في روح الإصرار والمغامرة، واستمرارية البقاء رغم كل الظروف الصعبة التي مر بها، وثقافة المجتمع الكويتي وانفتاحه على العالم والإيمان بالديمقراطية، ثم طرحت فكرة الاستقلال كأهم أحداث ماضي الكويت ذلك الحدث الذي كان له أكبر الأثر في تغيير مجريات الحياة للشعب الكويتي، من ثم فكرة كويت الحاضر والمدنية، وكذلك كويت المستقبل.. الرؤى والغايات والأهداف والتطلعات. ومن المعروف أن النصب التذكاري يأتي في الغالب تعبيرا عن ذكرى حادثة ما سواء كانت معركة حربية، أو كارثة طبيعية، أو فحوى دينية أو سياسية مهمة كان لها أثر كبير في تغيير مجرى حياة أمة أو دولة، والأمثلة عديدة على هذا النوع منها: نصب الحرب الفيتنامية، فعلى الرغم من تجاهل الولايات المتحدة الأمريكية لجنودها الذين راحوا ضحية هذه الحرب، إلا أن الجنود بأنفسهم جمعوا الأموال لبناء نصب جنود فيتنام، والمدهش هو فوز طالبة في السنة الأخيرة في دراستها الجامعية، بتصميم النصب. أيضا يمكن أن يأتي النصب تعبيرا عن ذكرى شخصية مهمة بارزة في عهدها أو تكتسب الأهمية في عهد لاحق، كموقع "جفرسون" التذكاري للتوسع الوطني على نهر الميسيسبي في مدينة سانت لويس بولاية ميزوري بأمريكا، أو برج واشنطن في مدينة واشنطن.

وعلى الرغم من أن جميع الأنصاب التذكارية مهما اختلفت وتباينت أنواعها، لابد أن يكون مصدرها في الأساس فكريا وفلسفيا، إلا أن هناك أنصابا شيدت لتكون رمزا صريحا لفكرة أو مبدأ أو محملة بمضامين فلسفية كبرج إيفل الحديدي الذي يعتبر رمزا لتقدم العلم والثورة الصناعية في ذلك القرن، وبداية عهد استخدام الحديد كمادة إنشائية جديدة، أو كتمثال الحرية النحاسي على جزيرة في نيويورك، الذي أصبح رمزا للحرية في العالم الجديد.

وقد تتدخل الطبيعة والجغرافيا لتصنع أحد المعالم الطبيعية الفريدة، التي تميز المكان أو البلد الذي تقع فيه، متفاعلة مع الناس، بحيث تسمو برمزية هذه المعالم لتصبح نصبا تذكاريا كشلالات نياغرا، التي تقع على نهر نياغرا غربي ولاية نيويورك، وجنوب شرق مقاطعة انتاريو في كندا، أو يصنع موقع تاريخي من ذاته نصبا تذكاريا، كمدينة البتراء القديمة في وادي موسى بالأردن، والتي كانت في القرن الرابع قبل الميلاد عاصمة مملكة الأنباط، إلى أن فتحها المسلمون في القرن السابع الميلادي.

عودة الروح

وفي الوقت الذي توصل فيه فريق العمل إلى توصيات كثيرة تم عرضها على صاحب السمو أمير البلاد، فأشار إلى الدعوة لإقامة مسابقة لتصميم النصب التذكاري للدولة، يفاجئنا زلزال الثاني من أغسطس 1990 بل يفاجأ العالم كله، بالغزو العراقي الغاشم، وعاشت الكويت محنة الاحتلال لفترة سبعة شهور توقفت خلالها أغلب مناحي الحياة، وبالتالي توقف المشروع، لكن مع بشائر التحرير في السادس والعشرين من فبراير العام 1991، تقدم بطلب المشاركة في مسابقة تصميم النصب التذكاري التي توقفت قسرا، 44 مهندسا معماريا، 51 فنانا، 5 مهندسي ديكور، 6 طلاب، وحـدد تاريخ 15/ 1/ 1992 كآخر موعد لتسلم الأعمال المقدمة.

ومن بين 42 عملا فنيا معماريا تقدم بها 27 متسابقا، أرتأت هيئة التحكيم من خلال اجتماعات ولقاءات امتدت من 18/ 1/ 1992 إلى 27/ 1/ 1992، اختيار ثلاثة أعمال فنية جاءت أصدق تعبير عن هذا المشروع الرمز، حيث جاء في المرتبة الأولى عمل من تصميم الفنان التشكيلي "مساعد فهد"، نظرا لبساطة شكله المستمد من الشراع، الذي يرمز للكويت وشعبها.

وتتعهد المشروع الآن وزارة الأشغال العامة بعد أن صدر قرار وزاري بتشكيل لجنة برئاسة الوزير، وعضوية كل من رئيس مهندسي المشاريع الخاصة، مدير المشروع، ويشارك من الديوان الأميري في عضوية اللجنة مدير الإدارة الهندسية، ومن بلدية الكويت يشارك رئيس مهندسي البلدية، وكذلك رئيس جمعية المهندسين الكويتية وأمين السر، وتتولى هذه اللجنة متابعة التصميم والتنفيذ والإشراف ودراسة المواقع المقترحة وتكاليف إنشاء النصب التذكاري.

ويكشف العمل الفائز عن أن صاحبه خاض في سبيل ظهور هذا التصميم، تجارب معملية كثيرة مضنية وشاقة، جاءت تجسيدا لشحنة تختلج في نفسه.. أعطاها من روحه.. حيث يقول الفنان "مساعد فهد": "منذ الإعلان عن مسابقة النصب التذكاري، أصبح معدل العمل اليومي داخل الاستديو يتجاوز العشرين ساعة يوميا".

كانت الشهور السبعة الأولى التي قضاها الفنان مساعد فهد تحت وطأة وسطوة الاحتلال البغيض، كفيلة بأن تفجر تلك الشحنة الإبداعية التعبيرية الصادقة، فقد كانت المحنة هي الدافع الأساسي لخروج هذا العمل إلى الوجود، خاصة في ظل معايشته اليومية لممارسات الجنود العراقيين، وتشييعه لثلاثة شهداء من أسرته، كانوا من أعز الناس إلى نفسه، ضحوا في سبيل أن تبقى الكويت، فمن رحم معاناة شهور الاحتلال، ظهرت فكرة النصب التذكاري.. حيث يقول الفنان صاحب المشروع الفائز، فور سماعه خبر الفوز: "209 أيام عشتها ومرارة الاحتلال لا تفارق حلقي، كنت أعتصر ألما، بعد أن خيم الحزن على كل شيء، ومع ذلك أصبح المرسم ملاذي، ووسيلتي للتعبير عن كل معاني التضحية، والقوة والصبر، وصلابة الموقف، حيث جاءت فكرة النصب التذكاري في يوم فقدنا فيه الوطن، لكن لم نفقد أنفسنا، شهد مرسمي أيام الاحتلال ميلاد إشارات هذا العمل في شكل ومضات ودلالات".

اتكأ الفنان مساعد فهد في رؤاه على وشائج حب قوية، تربطه بكل رموز الكويت، بحرا، وبرا، حياة وكفاحا، تاريخا وتراثا، ماضيا وحاضرا، رجالا ونساء، لذلك جاء اختياره للشراع الأبيض، شكلا ورمزا يجمع كل الكويتيين في حبهم للبحر كمصدر للرزق والخير والمغامرة، وكأنه لواء ينطوي تحت كفاح وآمال وتطلعات هذا الشعب، ثم في دلالة إلى شهور الاحتلال السبعة يقسم الفنان الشراع إلى سبعة أعمدة متراصة منفصلة متصلة، إلا أن أحد الأعمدة السبعة مكسور للتدليل على هذا الفراغ الذي تركه الشهداء، في الوقت الذي تظهر فيه مقدمة النصب على شكل يدين تبتهلان بالدعاء والحمد لله عز وجل على نعمة التحرير، فقد تعمد الفنان أن تكون اليدان متجهتين إلى القبلة.

وفي إشارة إلى العطاء يضم مشروع النصب التذكاري سبع نوافير تمثل شهور الغزو السبعة وعلى شكل خلية النحل، جاءت النافورة الرئيسية للفنان "مساعد فهد" رمزا لتكاتف أهل الكويت وتلاحمهم في محنتهم، ودفاعهم المستميت عنها وعملهم الجاد لتحريرها، وهذه النوافير محاطة بإضاءة حمراء وأخرى بيضاء محدثة إضاءة متتابعة، للدلالة على نور العودة، بعد بحور الدم.

مجداف الغوص المربع

كل هذه العناصر جاءت على أرضية سوداء تمثل قاعدة النصب التذكاري في دلالة لونية إيحائية إلى الأيام السوداء التي أخلت فيها أرض الكويت، بينما جاءت الأدراج باللون الأحمر إشارة لدماء الشهداء.

أما النصب التذكاري ككل فقد جاء محمولا على أرضية تمتد في عمق البحر أكثر من كيلو متر بمثابة جزيرة على هيئة مجداف للغوص مربع الشكل، حيث اختار الفنان مجداف الغوص بالذات للتدليل على كفاح أهل الكويت ومعاناتهم مع البحر والغوص والمخاطر، التي كانوا يتعرضون لها سواء فوق سطح البحر أو في أعماقه.

وبالقرب من النافورة اختط الفنان ثلاثة خطوط، تعبر عن قضبان السجن الذي حاول الغزاة أن يضعوا الكويت فيه، ومع تقاطع الطريق المؤدي إلى النصب تشكلت دمعة، تمثل دمعة سمو الأمير التي سالت خلال إلقائه خطابه في الأمم المتحدة إبان الاحتلال، والتي هزت ضمير العالم في ذلك اليوم.

وعن تصور الفنان لمكان إقامة النصب التذكاري وقع اختياره على منطقة الواجهة البحرية الواقعة بين أبراج الكويت، وحتى نهاية منطقة الشعب، باعتبار أن يكون اتجاه النصب واليدين المرفوعتين باتجاه القبلة، بالإضافة إلى أن هذه المنطقة مفتوحة تسمح بامتداد المجداف داخل البحر، علاوة على أنها منطقة جذب مأهولة يتردد عليها الناس بصورة مستمرة وعلى مدار الساعة ليصبح مصدر إشعاع ثقافي ووطني، وجزءا من الحياة اليومية.

وكأنه أراد لأشعة الشمس الذهبية على صفحة الخليج العربي أن تصافح الشراع يوميا مع أول خيط من نور الصباح وشروق الشمس بهدف غسل كل ما اعتلق بالشراع من هموم حياتية في اليوم السابق.

لم تتفاعل قضية فنية بقدر بروز قضية النصب التذكاري للكويت، فقد عكس هذا الأمر رغبة شعبية حارة لاستكمال هذا المشروع الرمز الذي يجمع ماضي الكويت وتطلعها إلى المستقبل في تعبير فني واحد. ومثلما يؤيد الحس الشعبي هذا المشروع تتصاعد الجهود الرسمية من أجل دعم هذا المشروع الرائد الذي يجمع بين الفن ومغزى التاريخ.

 

سيد هويدي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




النصب التذكاري لدولة الكويت





يدان تبتهلان بالدعاء





الفنان مساعد فهد في مرسمه





الشراع الأبيض





مجداف الغوص المربع





الطريق إلى النصب