مسألة تذوق سمير عبدربه

مسألة تذوق

قصة: أليكس لاجوما

كانت الشمس متألقة باتجاه الغرب، وكانت السحب الرقيقة فوق الأفق تبدو كالبيضة المنشطرة إلى نصفين، ويحدها اللون الأصفر المشرق، كان الولد الصيني واقفا يلهث بجوار الإناء الموضوع فوق النار وهو يقول: كان يجب أن يغلي الآن.
كان الإناء متذبذبا فوق قالبين من الطوب وحجر ناعم، أشعلنا النار بحرص لنصنع القهوة، وها نحن ننتظر غليان الماء ونراقبه باهتمام شديد كما لو أن امرأة تنتظر ميلاد طفل.. امتلأ سطح الماء بالفقاعات وألقى الولد الصيني بعض القهوة في الماء وراح يقلّب الإناء، كان قصيرا ذا شعر رمادي مجعد ووجه كبير هادئ وتعلو ملامح وجهه مسحة من الصبر وكأنه اعتاد أن يفعل الأشياء ببطء وعناية، غير أن عينيه كانتا سوداوين لا تستقران على حال مثل زوج من الصراصير.
قال ناصحا: سنتركها قليلا.
وضع بقية القهوة جانبا وأخرج من جيبه خرقة قديمة لفها حول يده ثم رفع العلبة من فوق النار ووضعها بعناية في الرمل بجوار قالب الطوب.
كنا قد انتهينا لتونا من العمل في خطوط السكة الحديد ومضينا نحو المعسكر على بعد ياردات قليلة من الجسر.. كان الصدأ يغطي حديد المكتب المجعد المليء بخيوط العنكبوت، وكان الرصيف محطما تكسوه الأعشاب الضارة وكانت التدويرة الأسمنتية لا تزال في مكانها لكن الشرخ أصابها فبدت كأنها يافطة للترحيب بزائري مدينة الأشباح. تناول الولد الصيني علبة اللبن النظيفة وقام بترتيبها فتقدمت إلى العارضة الخشبية وانتظرت بداية طقوس صب القهوة.
كان الولد الصيني يلف يده فوق العلبة ويوشك على صب القهوة دون أن يفعل، فقد كان جالسا يراقب شيئا ما خلفنا.
كان مزيج من أصوات الحفيف والخشخشة والطرقعة ينبعث من الأغصان والفروع.. نظرت إلى الخلف وإلى أعلى فتراءى أمامي بوضوح ظل طويل لرجل كان خارجا من المزرعة، وكان نحيلا ومقيدا ذا وجه أبيض شاحب ولحية صفراء بلون الذهب، وكان من اليسير رؤية تلك الخطوط السوداء القذرة حول فمه وتحت عينيه وعلى رقبته، كان شعره متناثرا وغزيرا غير حليق يتساقط من الخلف فوق رقبته وحول صدغيه، وكان يرتدي بذلة من الجينز القديم باهتة اللون وقذرة ومعطفا من الجلد الممزق.
وقف أمامنا في تردد وقد نظر نحوي ثم نحو الولد الصيني وما لبث أن عاودني بنظراته وهو يتحسس فمه بيده، ثم قال في تردد: لقد شممت رائحة القهوة.
أومأ الولد الصيني إلى الرجل الغريب الأبيض، وقال: اجلس، سوف نتناول العشاء.
كشر الأبيض قليلا بحيرة وارتباك وظل يلف حول العارضة الخشبية دافعا الصخرة بحذائه القديم إلى أعلى دون أن يقول شيئا سوى مراقبة ما يحدث بينما تناول الولد الصيني علبة أخرى من علب اللبن النظيفة ورفع الإناء من فوق النار ثم صب القهوة في العلب.
رشف الصيني من فنجانه بصوت واضح وقال:كان يجب أن نتناول بعض الخبز الناشف، فلا شيء يعادل الخبز الناشف مع القهوة.
قال الولد الأبيض: السجق.
- هاآآهـ.
- السجق مع القهوة.
قطب الولد الصيني جبينه وسمعته يقول: أووه. ثم سأل: أذاهب أنت إلى مكان ما أيها الأبيض؟.
- "كيب تاون ".. ربما أحصل على وظيفة هناك.. وظيفة في سفينة، ومن هناك أتوجه إلى أمريكا.
قلت: كثيرون أولئك الذين يرغبون في الذهاب إلى أمريكا!!.
شرب الأبيض قليلا من القهوة، وقال: نعم.. لقد سمعت أن هناك مالا كثيرا وطعاما كثيرا.
قال الولد الصيني: أتتحدث عن الطعام؟ رأيت ذات مرة صورة في كتاب عن الطعام هناك عبارة عن قليل جدا من الدجاج المحمر سهل التفتت يسمونه غلة وبعض الفطائر ومرق اللحم وبطاطس محمرة ونوع جديد من البازلاء الخضراء، كل شيء مصنوع بالألوان.
قلت باستهزاء: ناولني لحم الحمل المشوي.
وقال الولد الأبيض: ليتني أحصل على مثل هذا الطعام فسوف أنقض عليه حتى أنفجر.
رشف الولد الصيني من قهوته قائلا: عملت ذات مرة وأنا صغير جرسونا في أحد المقاهي الكبيرة فرأيت ما كانوا يأكلون من طعام مغشوش.
قلت: أتذكر حين ذهبنا للشراب وتناولنا أكواز الذرة والفول حتى انتفخنا؟.
قال الولد الصيني بطريقة غريبة: أتمنى أن أجلس يوما ما في أحد المقاهي الكبيرة والتهم بطة كاملة وبطاطس محمرة وسلاطة البنجر وطعام الملائكة وكعكة من المربى والفاكهة، ثم أشعل سيجارا في النهاية.
قال الولد الأبيض: إنها مسألة تذوق، فبعض الناس يحب الدجاج وبعضهم الآخر يحب رءوس الأغنام وحبات الفول.
تجهم الولد الصيني، وقال: مسألة تذوق؟! إنها مسألة نقود يا صديقي.. لقد عملت ستة أشهر في ذلك المقهى ولم أر أبدا أن أحدهم طلب رءوس الأغنام أو حبات الفول.
سأل الأبيض: هل سمعت عن الذين كانوا يدخلون تلك المقاهي الكبيرة؟ كان أحدهم يسكب آخر ما تبقى من القهوة في كوب الفنجان ثم يخرج " سندويتشا" ويستدعي الجرسون طالبا منه كوبا من الماء وعندما يأتي الجرسون بكوب الماء يقول: لماذا لا تعزف الفرقة الموسيقية؟.
ضحكنا ضحكات خافتة فقال الولد الصيني وهو يسعل ويتمتم: وطلب آخر السجق والعصيدة، وعندما جاء له الجرسون بطلبه قال له: أيها الرجل.. لقد أحضرت لي طبقا مكسورا!. فقال له الجرسون: أوه.. إنه ليس مكسورا.. إنه السجق.
ضحكنا كثيرا، ونظر الولد الصيني إلى السماء في اتجاه الغرب، كانت الشمس تقترب من الغروب وعبر الأفق كانت السحب معلقة كالخرقة البالية الملطخة بالدم.
كانت الأغصان تتحرك من هبات النسيم، ومن خلف خط السكة الحديد كان أحد الطلاب يزعق بصوت عال.
قال الولد الصيني: توجد عربات بضائع فارغة تمضي من هنا إلى ما حولنا وسوف نساعد الأبيض، فربما يستطيع الذهاب إلى "كيب تاون". نظر إلى الأبيض مستطردا: هناك منحنى يمكنك من خلاله القفز إلى القطار وسوف نجعلك تراه.
ثم لوح لي قائلا: جون.. عليك بالاهتمام بالبط.
أفرغت ما تبقى من القهوة وكانت النار قد خمدت وصارت كومة من الرماد.. فتش الأبيض في جيب معطفه الجلدي فوجد ثلاث سجائر فقط، قدم لكل منا واحدة فرفع الولد الصيني غصنا من النار أشعلنا به سجائرنا وقال متفحصا طرف السيجارة المتأجج: سيجار طيب جدا.
عندما انتهت القهوة والسجائر كانت الشمس في طريقها للغروب، فاكتست الأرض بظلال سوداء وتلونت باللون الأرجواني وبدت ظلال الأغصان كالتنين.
سرنا عبر الجسر في المساء بجوار الخراب وبدا لنا هيكل المحطة كالضريح الذي انتهكوا قدسيته ومن بعيد سمعنا صفارة القطار.
قال الولد الصيني للأبيض: ها هو المكان المناسب للقفز فعندما يأخذ القطار دورته لا يستطيع السائق أن يراك ولا حتى حارس العربة.. يجب أن تقفز عندما تكون العربة بعيدة عن الأنظار.. أصعد التل ببطء وستكون فرصتك عظيمة وانتظر حتى أقول لك متى تقفز.
قال الأبيض: أشكركم على العشاء يا أولاد.
قلت: تعال مرة ثانية وفي أي وقت.. يمكننا تدبير بعض الملابس.
انتظرنا في جانب الطريق وكان قطار البضائع يصدر صفيرا، انطلقا بسرعة متراجعين حين مرت القاطرة بجوارنا تتبعها عربة المؤن وشاحنتان ثم بعض عربات الفحم وعربة مسطحة وشاحنة أخرى.
أصبحت القاطرة بعيدة عن الأنظار فقال الولد الصيني: ها هي.. ثم دفع الولد بعيدا.
وقفنا نستمع إلى أصوات ارتطام العربات بعضها بالبعض.
قال الولد الصيني: خذ صندوق الفحم هذا وحظا سعيدا أيها الصديق.
مضى الأبيض نحو عربة الفحم وهو يراقب قبضة الحديد في نهاية العربة التي كانت تسير ببطء حتى وصل إليها وثبت قدميه.
شاهدناه معلقا عند حافة العربة.. كان يشد نفسه إلى أعلى وكنا نسمع طرقعات القطار من بعيد.
لوّح لنا بيديه من بعيد وهو يفتح باب العربة فرفعنا أيادينا نرد التحية، قال الولد الصيني: لماذا لا تعزف الفرقة الموسيقية.. يا للجحيم!!.

 

سمير عبدربه

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات