كائنات دقيقة تهدد الآثار الرخامية

افترقوا على الأرض والتقوا في الفضاء

لقد ظل علماء وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا), مشغولين طوال الأعوام الخمسة عشر الأخيرة بوضع تصميم للمحطة المدارية الأمريكية التي انتقوا لها اسم (الحرية) (فريدم). ومن أجل الاستقرار على التصميم المناسب, تعاقدت الوكالة مع ثمان من أكبر الشركات المتخصصة لتصنيع هذه المستعمرة, لتكون مقرا لأفواج يتدرج عددها من 6 إلى 30 رائد فضاء وعالما, ليبقوا داخلها مدة قد تمتد حتى ستة شهور. ولقد شطحت طموحات العلماء لجعل هذه المستعمرة الفضائية رصيفا للقفز إلى القمر, ومرفأ يرسو عليه المكوك في غدوه ورواحه. وطوال هذه السنوات تفنن العلماء في تذليل العقبات أمام تحقيق المشروع العملاق, لتحقيق السلامة لبقاء الرواد داخل هذه المستعمرة. لكن المشروع لاقى صعوبات كثيرة, ولذلك تأجل موعد إطلاقه عدة مرات من عام 1990 حتى 1993 وعندما عرضت ميزانيته على الكونجرس عام 1993, لم يحظ المشروع بتأييد غير صوت واحد فقط, إذ كانت التكاليف قد قفزت من ثلاثة إلى عشرة مليارات من الدولارات. وتوقف بذلك مشروع فريدم العملاق بعد أن كان حلما قوميا. ولكن هذه الوقفة كانت بمنزلة فتح لتعاون دولي جديد في مجال الفضاء, لم يكن يتوقعه أحد.

المحطة الدولية ألفا

في أوائل عام 1994, تفاوضت وكالة ناسا مع المسئولين عن برنامج الفضاء الروسي, على القيام بعمل فضائي مشترك. وذلك تحقيقا لسياسة التقارب التي سادت العلاقات السياسية بين البلدين, بعد تفكك الاتحاد السوفييتي, وانفراط عقده.

ولقد شجع على نجاح المفاوضات تلك الظروف الاقتصادية القاسية التي تردى إليها الروس, والذي انتهى إلى تجمد برنامج الفضاء الروسي, لعدم توافر الميزانيات اللازمة له. ولقد تمثلت قمة المأساة في تعرض بعض رواد الفضاء في المحطة المدارية (مير) للجوع, للعجز عن إمدادهم بالغذاء. وخاصة بعد أن احتدم النزاع بين بعض الجمهوريات الروسية التي استقلت, على مسئولية متابعة رحلات الفضاء والإنفاق عليها. ومن ثم فقد تمت المفاوضات في جو سمح بالاتفاق على وضع برنامج فضائي تستغل فيه أوجه التقدم التكنولوجي في كلتا الدولتين, وأسفرت المفاوضات عن برنامج يتضمن ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى بين 1994 ـ 1997:

لتنفيذ سبع رحلات بالمكوك الأمريكي برواد فضاء من كلتا الدولتين, ويتم خلالها التحام المكوك بالمحطة الروسية (مير), التي تدور في الفضاء منذ عام 1986.

المرحلة الثانية بين 1997ـ 1991:

لإقامة محطة فضائية, دولية تحت مسمى (ألفا) بحيث تقوم سفن الفضاء الروسية (سويوز), والمواكيك الأمريكية بتجميع أجزائها في الفضاء.

المرحلة الثالثة بين 1991ـ 2002:

لزيادة سعة المحطة الدولية ألفا, لاستقبال عدد أكبر من الرواد والعلماء, ولاستقبال المعامل والأجهزة التي ستقوم بتصنيعها اليابان وكندا ووكالة الفضاء الأوربية (إيسا).

ولاشك أن هذا البرنامج قد فتح الباب على مصراعيه لتعاون دولي ستكون له نتائجه الفعالة.

ولذلك فعندما عرضت تفاصيل البرنامج على الكونجرس بمجلسيه النواب والشيوخ, في يونيو 1994 فقد لاقت ترحيبا منقطع النظير, وتمت الموافقة علىه بالإجماع. وتم توقيع الاتفاق بين الدولتين, على إثر ذلك وغدا علماء الدولتين يتطلعون إلى الوقت الذي يتحقق فيه إطلاق المحطة الدولية (ألفا). لأنها ستجمع بين خلاصة ما وصلت إليه الأفكار الأمريكية عن المحطة (الحرية), وما حققه الروس في الفضاء في مجال المحطات المدارية بإطلاق جيل كامل من محطات (ساليوت) عبر عقد السبعينيات, ثم بإطلاق المحطة (مير).

أولى الخطوات.. نظرة فابتسامة

في أوائل فبراير 1995 تمت أولى الخطوات في برنامج التعاون الأمريكي ـ الروسي الجديد, بانطلاق المكوك (ديسكفري) في رحلة دامت ثمانية أيام, وحمل على متنه طاقما مشتركا من الدولتين, فقد ضم الطاقم رائد الفضاء الروسي (فلاديمير تيتوف), وكان الهدف الرئيسي من الرحلة هو اقتراب المكوك من المحطة الروسية (مير), إلى مسافة لاتتجاوز بضعة أمتار, كخطوة أولى للتدريب على عملية الالتحام. ولقد حدث عطل فني عارض بتسرب بعض الغاز من محركات دفع المكوك, عندما كان المكوك على مسافة 210 مترا من (مير).

وانزعج العلماء الروس لهذا التسرب الذي خشوا أن يكون سببا في حدوث تلوث للمحطة التي كان على متنها ثلاثة رواد روس. غير أنه تم التغلب على هذا العطل, وأمكن الاقتراب من (مير) حتى مسافة أحد عشر مترا فقط, واستمر هذا الوضع لمدة عشر دقائق. كما سبح الرواد الأمريكيون لمدة خمس ساعات حول المحطة (مير) لدراسة منافذها. وتبادل رواد الطرفين الابتسامات والتحيات عبر الاتصال اللاسلكي. وقال قائد المكوك لزملائه الروس (في المرة القادمة سوف نتصافح بالأيدي). وكان ذلك بمنزلة تنفيذ أولى الخطوات فيما سبق الاتفاق عليه بين الدولتين من القيام بتدريب مشترك في مراكز التدريب الفضائىة لكل منهما. وفي إطار خطة التدريب المتفق عليها فإن الخطوة التالية تمت بعد ذلك في مارس 1995, بصعود رائدي فضاء أمريكيين على متن سفينة فضاء روسية من طراز (سويوز) ليستقرا داخل المحطة (مير), بعد إخلاء الرواد الروس الثلاثة وقد بقي الرائدان الأمريكيان داخل (مير) لمدة ثلاثة شهور, مع زملاء روس سبق لهم التدريب معهم في مركز التدريب الروسي (مدينة النجم) (ستار سيتي). وفي يونيو 1995 عاد الرائدان الأمريكيان إلى الأرض على متن المكوك الأمريكي (أتلانتس) بعد أن التحم بـ (مير).

ثمن الصفقة

لعل السؤال المنطقي الذي يطرأ على الذهن, هو عن ثمن هذه الصفقة, وسر هذا التحول المفاجىء في الخطة الأمريكية. والسبب في العدول عن مشروع المحطة (الحرية) الذي ظل حلما خلال مدة طويلة. والحق يقال إن الثمن الذي دفعته أمريكا لهذا التحول لايعدو 400 مليون دولار. ولكنها نظير هذا الثمن البخس استحوذت على تكنولوجيا متفوقة أحرزها الروس, ونالت إعجاب كثير من المحللين الأمريكيين.

وعلى رأس هؤلاء رائدة الفضاء الأمريكية الأولى الدكتورة (سالي رايد) التي صرحت في عام 1986 بقولها (إن التفوق السوفييتي في الفضاء, أخطر مما هو ظاهر ومعروف لنا. وأخشى أنه عندما سنصل إلى أعماق الفضاء, سنجد أن السوفييت قد استعمروه بالكامل قبلنا).

والحق يقال إن ملامح التفوق السوفييتي في الفضاء, متعددة وغزيرة ومتشعبة. ففي أوائل السبعينيات أطلقوا أولى المحطات المدارية (ساليوت) أي (التحية). والتحمت بها عدة سفن فضاء من طراز (سويوز) في رحلات متعاقبة. وكما تعددت الرحلات تعددت المحطات أيضا, فقد أطلق منها جيل يتألف من سبع محطات, آخرها كان في عام1984. وبعد أن تطورت تصميماتها بدأت المحطة المدارية (مير) تستوي على مدارها منذ عام 1986.

ولقد سجل الرواد السوفييت في المحطات المدارية مدد بقاء قياسية, تدرجت مع الوقت حتى بلغت 366 يوما في نهاية عام 1988. ولقد ضرب هذا الرقم القياسي الرائد الروسي (رومانيتكو) الذي خرج من سفينة الفضاء بعد رسوها على الأرض وهو يركض, دون أن يصيبه أي دوار أو تعب, بينما أطول مدة بقاء بلغها الرواد الأمريكيون لم تتجاوز (48) يوما. وحققها ثلاثة رواد عام 1974.

ومن ملامح التفوق الفضائي السوفييتي أيضا, تصميمهم للصاروخ (إنيرجيا) الذي فاق أقوى الصواريخ الأمريكية (ساترن ـ 5) الذي رفع كل سفن برنامج ابوللو إلى الفضاء. فقد انطلق إنيرجيا في نوفمبر 1988, وذهل العلماء الأمريكيون لقوته الكبيرة حتى أن أحدهم قال متهكما (لقد تحرك السوفييت بقوة شديدة, بينما اكتفينا نحن بوضع نموذج لساترن في المتحف!).

وبمقارنة (إنيرجيا) الروسي, بـ(ساترن ـ 5) الأمريكي نجد أن الأول يتميز بأن عدد مراحله أقل, فهما مرحلتان, بينما (ساترن) له ثلاث مراحل. وبرغم أن طول الأخير يبلغ 108 أمتار فإنه لايستطيع رفع غير 54 طنا إلى المدارات البعيدة عن الأرض. بينما يقل الصاروخ السوفييتي عنه في الطول, إذ لايتجاوز 70 مترا, ويستطيع رفع أكثر من 110 أطنان, الأمر الذي يشير إلى أن (إنيرجيا) يصلح ليس لرفع أجيال المكوك السوفييتي وحدها, ولكن أيضا لرفع ما هو أثقل مثل المحطات المدارية (مير).

ولعل النكبة التي أصابت الأمريكيين باحتراق (تشالنجر) في 28 يناير 1986 تعتبر خطوة إلى الوراء, وقد ورثت بحوث الفضاء الأمريكية عقدة ذنب. ولكن بعد وقفة دامت 32 شهرا عاود المكوك رحلاته من جديد. وخلال حقبة التوقف هذه التي أطلق عليها البعض الحقبة السوداء, خطت بحوث الفضاء السوفييتية خطوات كبيرة إلى الأمام, وتميزت بالبرامج المكثفة. وعلى سبيل المثال, فإن السوفييت خلال عام 1986 قاموا بعدد 19 عملية إطلاق للصواريخ أمام 5 عمليات أمريكية فقط. واستخدام السوفييت أكثر من 800 نوع من الصواريخ لها 20 نوعا مختلفا من أجهزة الدفع.

ناهيك عما اشتهروا به من إطلاق سيل منهمر من الأقمار الصناعية, في سلسلة (كوزموس), والتي يعمل بعضها للتجسس ويسير بمحركات نووية.

وقد قام القمر الصناعي الفرنسي للتصوير الدقيق (سبوت), في عام 1987 بتصوير نشاط سوفييتي مكثف فوق جبال الأورال متعلق بإشعاعات الليزر. كما قام الأمريكيون خلال رحلات المكوك المتعاقبة وبأقمار التجسس بالتقاط صور دقيقة للمكوك السوفييتي فوق منصة الإطلاق في قاعدة (بايكونور) الفضائىة, الذي بدأ العمل فيها منذ عام 1948 وسط سرية تامة وتعتيم إعلامي. الأمر الذي جعل الولايات المتحدة الأمريكية على يقين من أن البحوث التي تبنتها بشأن عسكرة الفضاء, والتي أطلقوا عليها اسم (حرب النجوم) ليست مقصورة عليها وحدها. وأن السوفييت ليسوا في وقفة سكون بالنسبة لها.

لكن بعد انفراط عقد الاتحاد السوفييتي تحول هذا التفوق الفضائي, إلى تجمد, لأنه أصبح يفتقر إلى الاعتمادات المالية. ولذلك فقد اغتنمت الولايات المتحدة الأمريكية الفرصة, وسارعت إلى احتواء هذه التكنولوجيا بثمن زهيد, بهذه الصفقة التي ارتدت ثياب التعاون الدولي.

نظرة إلى الماضي

هذا التعاون الفضائى الجديد, يعيد إلى الأذهان ما تحقق في عهد الرئيس الأمريكي الراحل نيكسون, والذي أسفر في يوليو 5791 عن القيام برحلة فضائىة أمريكية سوفييتية مشتركة. وقد تمت بالتحام سفينة فضاء سوفييتية من طراز سويوز, بأخرى أمريكية من طراز أبوللو. وكان التحامهما عبر وحدة ربط أو مهيئة صممت خصيصا لهذا الغرض. وقد دارت السفينتان في وضع الالتحام (25) دورة حول الأرض خلال 48 ساعة.

ولكن ما تم في عام 1975, اقتصر على التعاون في رحلة واحدة, وعاد الفريقان بعدها إلى حلبة المنافسة. ولكن الاتفاق الجديد يمتد إلى مطلع القرن القادم وتتعدد فيه الرحلات, وتتطور الخطط لمزيد من التعديلات. ولاشك أن دولا أخرى ستدخل في إطاره.

ولاشك أن ثمار هذا التعاون ستتعدد, لأن تصميم المحطة الروسية (مير) يسمح بذلك. وأكثر المجالات المحتملة هو الانطلاق لوضع مستعمرات على القمر, والتخطيط لغزو كوكب المريخ, وكشف مزيد من أسرار الكون.

 

 

سعد شعبان

 
  




التدريب على تركيب الهياكل المعدنية في الفضاء





تصور مبكر للمحطة المدراية الحرارية





تصور مبكر للمحطة المدراية الحرارية





تصور مبكر للمحطة المدراية الحرارية





المكوك الأمريكي ملتحما بالمحطة الروسية