عيسى العصفور.. رحيل متعجل!

عيسى العصفور.. رحيل متعجل!

لم يكن عام 2009 عادياً، فقد واجه العالم فيه مختلف الأزمات، وعانى البشر فيه الكثير من الإخفاقات وعدم تحقيق الأماني البسيطة والمباشرة، وكذلك فقدان الأعزاء، وبالنسبة لي فقد فقدت العديد من الأصدقاء الأحباء في الكويت وخارجها، حيث توفي في العام الماضي الدكتور إبراهيم سعد الدين والأستاذ محمود أمين العالم والدكتور عبدالعظيم أنيس في مصر، وكانوا بالنسبة لي وللعديد من الأصدقاء في الكويت من أهم من تعرفنا عليهم في رحلة الحياة واستفدنا من قراءة إنتاجهم وسماع مداخلاتهم في المحافل الثقافية، وقد تمتعنا باللقاء معهم في الكويت ومصر، وسررنا بتبادل الأحاديث الشائقة معهم، وهم الذين تمتعوا بمزايا شخصية غير عادية وروح مرحة، وغني عن البيان أن الاثنين الأخيرين بالذات (محمود وعبدالعظيم) تركا إنتاجات ثقافية مهمة بعد مسيرة حياة صعبة وشاقة ومعاناة سياسية غير اعتيادية، وقد دشنا مساهماتهما الثقافية بدراسة نقدية حول أدب نجيب محفوظ.

لن ينسى المثقفون العرب دور الراحلين وبصماتهما على الفكر السياسي في الوطن العربي. بيد أننا في الكويت فقدنا كذلك واحدا من أعز الأصدقاء، ومن الذين تميزوا بالثقافة الواسعة، ومن الذين تابعوا مختلف الأعمال الثقافية والأدبية، وحاوروا مختلف المثقفين العرب كلما أتيحت له الفرصة. فقدنا عيسى سابح العصفور، ولم نكن مهيئين لذلك الحدث.

ومن الصدف الغريبة أن وفاة عيسى جاءت في وقت كانت مجلة «العربي» تحتفل بعيدها الذهبي، وقد حضر مثقفون ومفكرون عرب من مختلف البلدان العربية للمشاركة في تلك الاحتفالية. وكعادة عيسى عندما يحل ضيوف في الكويت، فقد كان يحرص على الالتقاء بهم على طريقته من خلال دعوة عشاء لتبادل الرأي والاستماع لهم والتعرف على آخر الطرائف في حياتنا العربية. في ذلك اليوم الاثنين الثاني من شهر مارس 2009 كنت قد حضرت إحدى ندوات «العربي»، وفي المساء هاتفني أخونا العزيز عيسى ليتأكد من أنني قد ذكرت عددا من الزائرين للالتقاء بهم بعد غد، أي يوم الأربعاء 4 مارس في مكان لقائنا المعهود بفندق «شيراتون» على العشاء، وأكدت له أن الأمور قد تم ترتيبها معهم.

في صباح يوم الثلاثاء 3 مارس اتصل بي الصديق محمد المسباح (وهو زوج أخت عيسى) ليعزيني في وفاة عيسى، ولم أصدق الخبر.

كيف جرى ذلك؟ لقد كان عيسى مدعواً في مساء الاثنين لحضور حفل عيد ميلاد لدى أصدقاء له، وكان قد أحضر لهم تورتة «كعكة» ووردا، وركب سيارة أجرة (كعادته منذ سنوات) وتوجه إلى هناك، ما أن وصل وحط رحاله لديهم، ووضع التورتة والورد على الطاولة، حتى سقط دون سابق إنذار ودون حراك، ليلقى وجه ربه، هكذا توفي عيسى عن عمر ناهز الستة والستين عاماً.

منذ أن تخرّج عيسى في جامعة القاهرة (كلية الاقتصاد والعلوم السياسية)، وعمل في مكتب سمو ولي العهد آنذاك في عام 1967، وهو يشارك بشكل أو آخر في تنمية الحياة الثقافية في البلاد، ولقد كان عيسى محظوظاً وسعيداً عندما عيّن في مكتب سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، آنذاك، المغفور له الشيخ جابر الأحمد الصباح والذي كان إنساناً متميزاً في مجالات الحياة العديدة، السياسية والاقتصادية والشخصية، وكان متابعاً جيداً للأحداث، وتمكن من حسن توظيف العاملين معه في مجالات وقطاعات عديدة، وقد كان عيسى يحدثنا بإعجاب كيف أن المرحوم الشيخ جابر يتابع أعمال المؤسسات الجديدة في الكويت في قطاع النفط والقطاعات الاقتصادية الأخرى، وكيف كان يستشرف المستقبل كويتياً وخليجياً، لذلك،فإن المرحوم عيسى العصفور استفاد كثيراً من عمله مع المغفور له الشيخ جابر طيلة عقد من الزمان، حتى تولى الشيخ جابر إمارة البلاد. ثم عمل مع المغفور له الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح بعد أن أصبح ولياً للعهد، والذي يذكره المرحوم عيسى بحسن الخلق والحرص على مصالح الكويت والكويتيين.

إسهامات ثقافية

لم تقتصر أعمال عيسى على متطلبات وظيفته الرسمية فقط، فقد نشط في جمعية الخريجين، وأصبح عضواً في مجلس إدارتها لفترة طويلة، خلال تلك الفترة قام بتنشيط الأعمال الثقافية فيها، والتزم بالإعداد لبرنامج إذاعي باسم «بانوراما» بالتعاون مع الأخ الدكتور صالح الحمدان. كما أنه شارك في الإعداد لبرنامج «قضايا وردود» الذي كان يقدمه الأسير «الشهيد» ناصر الصانع، ثم تولى تقديمه الأخ يوسف عبدالحميد الجاسم. وكان المرحوم عيسى يبحث عن الأفكار والمواضيع التي يمكن تقديمها من خلال البرنامجين، الإذاعي والتلفزيوني.

أكثر من ذلك ساهم المرحوم عيسى في الإعداد والتحضير لندوات «الخطة الشاملة للثقافة العربية» والتي أقيمت في الكويت على مدى ثلاث سنوات في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، تلك الندوات تعيدنا للمرحوم الأستاذ محمود أمين العالم، والذي ساهم مع عيسى في الإعداد لها وشارك فيها بفاعلية.. ومن الأمور التي يتعين عليّ ذكرها أن عيسى ظل دءوبا على متابعة ما يتعلق بتلك الندوات، وحتى بعد مرور سنوات طويلة على عقدها، حيث كان يسعى لإعادة نشر الكتاب الذي حوى وثائقها ودراساتها ومداخلات المشاركين فيها، ويعلم الأستاذ الدكتور سليمان العسكري تلك المتابعات الحثيثة من خلال دوره كأمين عام سابق للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب وكرئيس تحرير لمجلة العربي.

لم تكن تلك المتابعة تقليدية، بل كانت ناتجة عن حرص غير اعتيادي على إبراز دور الكويت في التنمية الثقافية والحضارية العربية، وهذه المتابعة الثقافية ظلت متابعة الإصدارات الثقافية، واللقاءات مع المثقفين في الكويت، حتى بعد أن اعتزل الحياة العامة، واقتصرت لقاءاته على عدد محدود من الأصدقاء. في السنوات الأخيرة ظل عيسى العصفور يتابع الأحداث من المنزل، بعد أن اعتاد على مشاهدة القنوات الفضائية وقراءة الصحف والدوريات، كان دوماً يتصل بي وبأصدقاء آخرين طالباً قراءة مقال محدد، أو متابعة برنامج أو فيلم سينمائي أو حوار تلفزيوني، في أوقات قد لا تسعفنا للقيام بما كان يطلبه منا.

رحيل اضطراري

لم يسافر عيسى إلى خارج الكويت كثيراً في عقد الثمانينيات، بعد أن جال العالم في سنوات السبعينيات من القرن الماضي، لكنه اضطر للرحيل عن البلاد في نوفمبر 1990 بعد احتلال البلاد من قوات صدام حسين، وقد توجه إلى البحرين آنذاك، وكنت قد سبقته مع أسرتي إلى هناك في سبتمبر من ذلك العام بعد أن اضطررت أنا، أيضاً، للرحيل القسري، في نوفمبر 1990 كنت في واشنطن في الولايات المتحدة ضمن الوفد الشعبي الذي تشكّل لزيارة الولايات المتحدة وكندا، لعرض أوضاع الكويت في ظل الاحتلال، وللعمل من أجل إقناع المجتمع الدولي بأهمية تحرير الكويت من ذلك الاحتلال الغاشم، عندئذ تلقيت مكالمة من زوجتي (مي) تخبرني بأن عيسى ووالدته وأخواته قد وصلوا البحرين وهو يسأل عني، وما أن انتهت مهمتي وعدت إلى البحرين، حتى التقيت مع عيسى حيث استأنفنا نشاطنا والالتقاء مع الأصدقاء في سهرات وندوات، وكان لنا الكثير من هؤلاء الأصدقاء هناك، ولابد أن أشير إلى أن تلك اللقاءات لم تخل من الجدل والحوار الملتهب حول الغزو الغاشم وأهمية التحرير والتصدي لمواقف المعترضين على آليات التحرير من أصحاب الفكر القومي والديني.

ما يهمني في هذه العجالة أن أشير إلى أن المرحوم عيسى العصفور لم يكن يهتم كثيراً بتحسين أوضاعه المالية، أو الوصول إلى مواقع متقدمة في السلك الوظيفي، بالرغم من أنه كان يملك القدرات والصلات التي تؤهله لشغل مناصب عالية، كان يسعى للارتقاء بالثقافة والدور السياسي للكويت في محيطها (الخليجي وإطارها العربي). وكان له دور مهم في تأسيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب مع الموحوم أحمد مشاري العدواني.

ولابد أن نذكر أن عيسى شارك معنا في تأسيس نادي الكويت للسينما في عام 1976، وأصبح عضواً في مجلس الإدارة لفترة معقولة، وكان من المهتمين بالثقافة السينمائية ومتابعة إنتاجاتها المتميزة. وبالرغم من الثقافة الغزيرة والقراءة النهمة التي تمتع بهما عيسى، فإنه لم يكتب، وكان يرد على تساؤلات مَن كان يستغرب من عدم كتابته بأنه يقوم بالكتابة الشفهية، بيد أنه لم يترك مجالاً في الثقافة والفنون والآداب دون أن يتابعه، ومنها السينما والمسرح والموسيقى والفنون التشكيلية، والرياضة أيضاً، ولذلك فإنه يمكن أن تجد أصدقاء ومعارف لعيسى في مختلف هذه المجالات والفعاليات. أكثر من ذلك كان المرحوم عيسى إنساناً مرهفاً وعاطفياً، ووظف إمكاناته المحدودة لمساعدة أصدقاء له في الكويت وخارجها، هؤلاء فجعوا بفقدان عيسى، ولم يصدقوا وفاته المتعجلة.

وفي ذكرى مرور سنة على وفاة صديقنا العزيز عيسى العصفور، لابد أن نتذكر أنه كان مثال الإنسان المتألق، في عمله، وثقافته، وقدراته على التواصل الإنساني مع الجميع.

 

 

عامر ذياب التميمي 





عيسى العصفور





عيسى العصفور وسط زملائه في البعثة إلى القاهرة (1963)