تقانة وظائف الأعضاء

 تقانة وظائف الأعضاء

تتكون حفازات الحياة هذه، أو فلنقل الأنزيمات، من بروتينات معقدة وتحرض ـ بدرجة راقية من الانتقائية ـ جميع الوظائف الأحيائية/البيولوجية الضرورية لاستمرار حياة كل من الإنسان، والحيوان، والنبات وحتى وحيدات الخلية، أو تعديلها أو توقفها عند اللزوم.

وعلى سبيل المثال تشطر الأنزيمات في الفم الكربوهيدرات الموجودة في الخبز لتحرر السكر، الذي يعطي الخبز طعما حلو المذاق، وتحول أنزيمات الفطور/الخمائر السكر الموجود في عصير العنب إلى كحول، كما تحول أنزيمات البكتريا الحليب إلى جبن.

وهنا يتكفل كل أنزيم بمهمة متخصصة يمليها شكله الهندسي الفراغي المميز، والذي لايتكامل أو يطبق إطباق القفل على المفتاح إلا مع مادة وحيدة بين آلاف المواد التي تعج بها أخلاط الجسم البشري وخلاياه. وبعد عملية الإطباق هذه على المادة أو الجزىء المستهدف، فقد يحرض الأنزيم عملية هدم شريكه وتفككه كما يحدث أثناء عملية هضم الطعام، أو حثه وحفزه على الاتحاد مع جزيء آخر كما يجري أثناء تركيب الحموض الدسمة.

وبعد انتهاء العملية الوظيفية ينفصل الأنزيم عن شريكه ويحرر نفسه استعداداً للقيام بالمهمة ذاتها مراراً وتكراراً، دون كلل أو ملل. وبذا يسمح التخصص الدقيق أو فلنقل درجة الانتقائية العالية، والعودة الحرة بعد كل دورة إلى الجاهزية الكاملة للانطلاق من جديد، للأنزيمات والقيام بدور كبير بكميات غاية في الصغر.

بيد أن الاستفادة من فضيلة الانتقائية هذه ستعني توفير كم هائل من الأنزيمات المتباينة التي تشغل العدد المذهل من المصانع الكيميائية المتداخلة بعضها ببعض. وبالفعل اكتشف الباحثون أن عدد الأنزيمات الضرورية لحفز التفاعلات الكيميائية في جسم الإنسان وحده يزيد على 2500 أنزيم. فكيف السبيل إلى فهم أدوار هذا العدد الكبير من الأنزيمات المختلفة ووظائفها?

لتسهيل هذه المهمة حاول الباحثون تقسيم الأنزيمات إلى مجموعات من منطلقات مختلفة، فهناك تصنيف ينطلق من أسلوب القيام بالوظيفة، ويقسم الأنزيمات إلى مجموعات تقوم بمهمات محددة، منها:

1 ـ تفكيك الدهون، والبروتينات والحموض النووية من خلال ضمها في الخطوة الأولى إلى الماء الماء في اليونانية هيدرا ومن هنا جاءت تسمية مجموعة الأنزيمات هذه: هيدرولاز Hydrolase ويحدث مثل ذلك في تسمية المجموعات الأخرى ـ من حيث المبدأ.

2 ـ ضم الجزيئات لتركيب البروتينات المعقدة والدنا/الحمضي الريبي النووي منقوص الأكسجين ليغاز.

3 ـ تصنيع مصادر الطاقة بحفز تبادل الإلكترونات بالدرجة الأولى أوكسيدو ربدوكتاز أي الأكسدة والإرجاع.

4 ـ نقل مجموعات كاملة من الجزيئات في التفاعلات الكيميائية الأحيائىة/البيوكيميائية، والتي قد تشارك فيها الفيتامينات بصفة أنزيمات مساعدة ترانسفيراز.

وهناك تصنيف آخر يقسم الأنزيمات (وتسمياتها) وفق المادة التي يستهدفها الأنزيم، مثل:

أ ـ تفكيك الدهون ليباز

ب ـ هضم الكربوهيدرات آميلاز

جـ ـ تفتيت البروتينات بروتاز

د ـ تفكيك مادة بناء النبات/السيلولوز سيلولاز.

وليس غريباً أن يحلم الإنسان بتسخير هذه المواهب الفذة للأنزيمات في تحقيق مايصبو إليه خارج جسمه. بيد أن هذا الطريق مفعم بالعقبات، وفي طليعتها كيفية الحصول على كميات كبيرة من هذه الحافزات الأحيائية ضئيلة الكمية في الكائنات الحية أصلاً.

المفاعل الاحيائي

ولا يصعب على المرء أن يتخيل أن الكائنات الحية: من حيوان ونبات كانت المصدر الوحيد للأنزيمات المتاحة لرواد تقانة /تكنولوجيا الأنزيمات مثل استخلاص أنزيمات الهضم تشيموزين من معدة البقر وباباين من نبات الببايا، وهو شجر أمريكي استوائي ذو ثمر أصفر ضخم مستطيل الشكل.

بيد أن عمليات الاستخلاص هذه مضنية، وباهظة التكاليف وشحيحة المردود/المحصول. إذ ليس في العالم كله العدد الكافي من الأبقار التي تقدر على تقديم الكمية الكافية من الأنزيمات اللازمة لإنتاج الجبن العالمي. فما الحل?

تفصل معظم الأنزيمات في يومنا هذا من الكائنات المجهرية/وحيدة الخلية، ولاسيما من البكتريا أو الخمائر/الفطور. وعلى سبيل المثال يقدم أحد أنواع البكتريا باسيلوس سوبتيليس أنزيماً مفككاً للبروتينات يؤازر إنتاج المرطبات، ويفرز أحد الميكروبات كليبسيلا بلانتيكولا أنزيماً مفككاً للسكر في عسل النحل. وأخيراً يزود أحد أنواع فطر التعفن آسبير غيلوس نيفر مهندسي المواد الغذائية بواحد وعشرين أنزيماً دفعة واحدة.

وفي العادة تحفظ الكائنات المجهرية في ثلاجات لمدة قصيرة نسبياً أو في المجمدات المجففة لمدة طويلة الأمد. وعند الحاجة إليها يتم إيقاظها ووضعها في وسط غني بالغذاء، لتنقل بعد البدء بالتكاثر إلى مخمرات أو مفاعلات أحيائية بيو رأكتور تزايد حجمها ودرجة تعقيدها شيئاً فشيئاً في السنوات الماضية. ففي المفاعلات الأحيائية الحديثة تتكفل نظم تحكم/كونترول إلكترونية معقدة بإمداد هذه المصانع الحية بالكمية المثلى من الغذاء اللازم لنموها وبتثبيت كل من درجة حرارتها ودرجة حموضتها. وفي نهاية المطاف يستعان بالعديد من طرائق الفصل لعزل الأنزيم المستهدف من الحساء النهائى.

ولا يتسع المقام هنا للإسهاب في عرض تفاصيل عمليات الفصل المعقدة هذه. إلا أن ماتجدر الإشارة إليه هو ندرة التوصل إلى عزل كامل 100% للأنزيم المرغوب. وفي العادة يحصل المرء على مزيج يحتوي على بعض من الأنزيمات المرافقة قريبة المواصفات من الأنزيم المرغوب مثل الحجم والبنية الكيميائية.

وكما يقول المثل العربي رب ضارة نافعة. ففي بعض الحالات قد تكون هذه الشوائب مرغوبة وتقوم بوظيفة مشابهة لدور بعض الفيتامينات أو الأنزيمات المرافقة. بيد أن لبعضها الآخر نشاطاً سلبياً لابد من مراعاة تبعاته عند استخدام مايسمى بـ مستحضر الأنزيمات في الصناعة أو في تقانة المواد الغذائى.

وبعد تخطي الباحثين لعقبة الإنتاج بكميات كافية برز التساؤل: كيف السبيل إلى تخزين الأنزيمات الحساسة فترة طويلة من الزمن حتى تبرز الحاجة إلى استعمالها؟

سجن اللؤلؤ

فمن المعروف أن الأنزيمات تشبه السمك الذي لايعيش خارج الماء أو بيئته المألوفة، فهي شديدة التأثر بدرجة الحرارة، ولا تقوم بوظيفتها على الوجه الأمثل إلا في وسط كيميائى محدد يميل إلى الحموضة أو القلوية مثلاً لذا لاتستطيع العيش خارج حدود الخلية الحية. ويبحث الكيميائىون الأحيائيون منذ الستينيات بحثاً مكثفاً عن تكسي/مادة حاملة تحتضن الأنزيمات وتضمن لها الاستقرار خارج بيئتها المألوفة، والمحافظة على نشاطها ومقدرتها على العطاء مدة لاتقل عن بضعة آلاف الساعات على شاكلة تسمح بتسخيرها تسخيراً اقتصادياً.

وأخيراً وجد الكيميائى وعالم الكائنات المجهرية كلاوس زاوبر ومساعدوه في شركة هوكست الألمانية ضالتهم المنشودة باختراع نوع جديد من أنواع البلاستيك يشبه (اللؤلؤ) في مظهره على الأقل، بيد أن قطر حبة اللؤلؤ هذه ضئىلة حيث يقل قطرها عن 1/10 عشر المليمتر، ويقدر المرء بالكاد على رؤيتها بالعين المجردة.

وسجن اللؤلؤ هذا مسامي/مثقب يشفط الأنزيمات إلى زنزاناته المزودة بكابلات كما يشفط الإسفنج السوائل. وبذا يؤمن هذا السجن استقرار الأنزيمات المنشودة على شاكلة تفتح الباب على مصراعيه لمساهمتها في وضع حجر الأساس لفرع جديد من فروع التقانة الأحيائية/التكنولوجية البيولوجية أو البيونيك.

تكنولوجيا فسيولوجية

يميل بعضهم إلى تسمية هذا الفرع الجديد، الذي يسخر الحفازات الأحيائية على هذه الشاكلة اسم تقانة وظائف الأعضاء/أو التكنولوجيا الفسيولوجية وليس غريباً أن يتفاءل المتحمسون لتقانة وظائف الأعضاء هذه بالتمكن من إنتاج الكيماويات النادرة والعقاقير الطبية في ظروف طرية: في درجة حرارة متدنية، ووسط كيمائى معتدل لاحمضي ولاقلوي وتحت الضغط العادي، دون أن تخلف ملوثات للبيئة مثل الكيماويات العضوية المخرشة أو السامة، والتي تفرض الأنظمة والقوانين السارية في الدول الصناعية إزالة شأفتها قبل السماح برميها في ساحة القاذورات. وبعد تجاوز هاتين القضيتين الرئيستين كان من الطبيعي تكثيف الجهود لترجمة الأحلام إلى حقيقة معيشة ومنتجات تغزو الأسواق لتدر الربح الوفير. وبالفعل بدأت الأنزيمات النشطة بشطر البنسلين المعروف على شاكلة تسمح بتطوير أنواع جديدة من المضادات الحيوية/أنتيبيوتك، كما يتم إنتاج المادة الحلوة ـ الخالية من السكر/السكروز ـ آسبارتام عن طريق التركيب الأنزيمي للدهون، كذلك يتحول سكر العنب/الجلوكوز بمساعدة الأنزيمات إلى فيتامين جـ / C

وبعد انتهاء التفاعل الأنزيمي يمر الناتج في كل مرة على مرشح/فلتر يفصل الأنزيمات، لإعادة استخدامها مرارا وتكراراً. ولاتقتصر فائدة هذا الفصل على التوفير الاقتصادي الواضح وحسب، بل تتعداه في مجال الصناعات الغذائية (مثل الخبز أو العسل أو اللبن المخثر) إلى خلو المنتج من أي أثر من آثار الأنزيمات المكونة من بروتينات غريبة عن الجسم الذي قد يتحسس منها. وهنا تشير إحدى الإحصاءات إلى أن عدد المتحسسين على هذه الشاكلة يزيد في ألمانيا وحدها على مليون إنسان.

ولايتسع المقام هنا لعرض تفاصيل عمليات منتجات فرع تقانة وظائف الأعضاء هذا، وأحبذ الاكتفاء بتسليط الأضواء على منتج وحيد عسى أن يسمح كشف أسرار عمله بتخيل عظمة المواهب الكامنة لدى الحافزات الأحيائية، إذ طورت شركة بورنفر مانهايم الألمانية قصاصات/أشرطة تسخر التفاعلات في تشخيص أمراض السكري وارتفاع ضغط الدم في مرحلة مبكرة جداً، وبالتالي التعرف على الأخطار المحيقة بالكلية والبدء باتخاذ الإجراءات الكفيلة بإبطاء تفاقم المرض أو إيقافه.

وهنا قد يعترض المرء مذكراً بأن استخدام قصاصات القياس في تحليل البول ليس بالأمر الجديد، وقد جعلتها سهولة تداولها جعلتها طريقة راسخة في تحديد نسبة تركيز السكر بشكل خاص لتشخيص مرض السكري. وهذا الاعتراض مقبول لو اقتصر الاهتمام على السكر وحده، ولم يتعده إلى تركيز البروتين في البول الذي لم تحقق فيه القصاصات (التقليدية) سوي الجودة الضرورية للتشخيص المبكر. فمن المعروف أن التزايد المفرط لتركيز البروتين في البول يفضح ابعاد الكلية عن ظروف العمل المثلى، هذا الابتعاد الذي قد ينجم عن العديد من الأمراض أو مايسمى بأمراض الحضارة، ومن ضمنها الضغط والسكري. في الماضي كان من الضروري للقصاصات التقليدية ألا يقل تركيز البروتين في البول عن 300 ميليجرام في اللتر حتى تبدي أي تجاوب. بيد أن القصاصات الأنزيمية المعتمدة على مايسمى بـ اختبار ميكرال خفضت هذه العتبة ـ في المختبر على الأقل ـ 15 مرة، وصغرت عتبة التحسس إلى 02 ميليجراماً فقط. ويرجع الفضل الرئيسي في هذا الإنجاز لدرجة التخصص والانتقائية العالية للأنزيم المستخدم غالا كتوسيداز، الذي يسمح بتسخير مبدأ إطباق القفل على المفتاح المألوف في نظام المناعة/الحصانة وبتحرير جزىء صباغ أحمر عند العثور على كل جزىء من جزيئات البروتين ولا أرى المقام مناسباً هنا لعرض الخطوات التفصيلية لهذا الإنجاز الرائع.

آفاق المستقبل

ومع هذا فمازالت تقانة وظائف الأعضاء تحبو في سنوات طفولتها الأولى. فعند التعامل مع الأنزيمات الجديدة يصعب على الباحثين في كثير من الحالات التعرف إلى الظروف المثلى للوسط الذي يطيب للأنزيمات العمل فيه، كما يجهل المرء في حالات أخرى (الأنزيمات المرافقة) الضرورية. كما لايجوز أن نسمح لإعجابنا بروعة سجن اللؤلؤ البلاستيكي بأن يحجب أنظارنا عن حقيقة فقدان السجناء لجزء من نشاطهم الأصلي أو درجة الانتقائىة بمرور الزمن. وبرغم ذلك يتفاءل العديد من الباحثين بأن التجارب المخبرية الناجحة في تسخير الأنزيمات لصنع الكيماويات الخاصة والعقاقير الدوائىة، والتي تجرى حالياً لابد أن تترك بصمات أصابعها في سائر وجوه حياتنا اليومية، وأن تجتاح حتى منازلنا، ومازال بعضهم يعلق آمالاً عريضة على (المنظفات) المستخدمة مراراً وتكراراً في دورة بلا نهاية أو إرهاق للبيئة.

بيد أن أيا منا يعلم من خبرته الشخصية أن هذا الحلم لم ينطلق من فراغ، ففي يومنا هذا يجد المرء على عبوات العديد من أصناف المنظفات عبارة بالأنزيم.

فلو سجن المرء جزيئات المنظفات، التي تكمن مهمتها في إذابة الأوساخ والدهون، في سجون من اللؤلؤ أو البلاستيك، لأصبح في مقدور المرء استرجاع السجن والأنزيم من الماء الفضال عن الغسيل ـ باستخدام مرشح / فلتر مثلاً. وبذا يتحقق حلم إعادة دورة الأنزيمات وبالتالي خفض التكلفة، وتقليل كمية المرهقات للبيئة.

وحسب اعتقادي المتواضع ماهذا الحلم بالأمر المستحيل المنال، فمن خبرتي الشخصية في مجال إزالة عسرة/تحلية المياه المستخدمة في المراجل الصناعية ـ مثلاً ـ باستخدام الراتنجات/الريزينات دقيقة الحبيبات تبينت لجوء العديد من محطات معالجة المياه في العالم إلى تركيب (مصيدة ريزين) منذ أمد غير قصير، تتجمع فيها حبيبات الريزين المتسللة مع المياه الفضالة. بعدها تسحب هذه الحبيبات من مصيدة الريزين وتعاد إلى برج التنقية مرة أخرى. ولست أرى عائقاً جوهرياً يحول دون تسخير (المبدأ) عينه في إعادة دورة سجون اللؤلؤ، وربما ترجمة هذا الحلم إلى واقع قبل أن يرى هذا المقال النور.

 

سمير صلاح الدين شعبان