شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

الخضري.. وسنمار التركي

كان رأسه يدور بشدة، والسلاسل تقيد ساقيه ويديه، وآثار السياط تدمي ظهره وكتفيه. وهو لا يدري سر كل ذلك الذي حدث. لقد فعل كل ما يستطيعه لمساندة الثورة الشعبية على الوالي العثماني خورشيد باشا لينزل من القلعة التي تحصّن بها رافضاً الامتثال لأمر السلطان والإجماع الشعبي على تولي محمد علي أمر الولاية باسم الشعب. وحين استقر الأمر لمحمد علي، وصعد إلى القلعة، بدأت تتكشّف نواياه الغادرة يوماً بعد يوم في سلسلة متلاحقة من المؤامرات التي لا تكتفي بالفتك بخصومه، بل أيضاً بمن ساعدوه وأيّدوه وأعلنوه والياً عليهم بقيادة نقيب الأشراف السيد عمر مكرم، فبعد أن سار حكم الوالي الجديد على طريق غير ما أراده الشعب وضد كل حقوقه، أعلنوا معارضتهم لأطماعه وعدوانه على حريّاتهم. فقد صادر أراضي الشعب وامتلكها ووزعها على أسرته وأتباعه وقوّاده. وتاجر بأقوات الناس واتجه إلى إشباع نزعته التجارية المتأصّلة فيه منذ كان يتاجر في الدخان بمسقط رأسه في قوله. بل وأخذ يبيع الخضار والفاكهة والمأكولات حتى صار من المألوف لدى حجاج الخضري وهو في محبسه أن يسمع الباعة يصيحون (فجل الباشا.. كرنب الباشا.. ملوخية الباشا...!).

التنكـّر للجميع

راح حجاج الخضري يهز رأسه في غضب، وهذه النداءات تملأ أذنيه، ما هذا الذي يفعله الباشا الذي احتكر لنفسه كل شيء وفرض الضرائب الثقال التي تجاوزت ما كان يفعله المماليك، وراح يتذكر كيف عامل الباشا العلماء والتجار وزعماء الشعب الذين كانوا سبباً في توليته حين ذهبوا إليه يطالبونه برفع المظالم عن الشعب، ولم يتردد في التنكـّر حتى للسيد عمر مكرم الذي كان له أكبر الفضل في توليته حاكماً على البلاد. فقد خلعه من منصبه ومن نقابة الأشراف، وأبعده عن القاهرة عشر سنوات، كما فعل مثل ذلك مع كل مَن شاركوا في رفعه إلى المكانة التي وصل إليها حتى لا يكرّروا تمرّدهم عليه كما فعلوا مع خورشيد.

وتذكر حجاج الخضري كيف فعل به الباشا حين أنكر عليه سياسته الباغية، إذ فوجئ بثلة من عسكر الباشا يحوطونه ويلقون به في المحبس الرهيب بدعوى التمرّد.

وفي لحظات، عادت الدوامة تدور في رأس البطل ليتذكر تلك الأيام المتتالية يوم انطلقت الأمواج الشعبية الهادرة تدق طبولها وتتعالى دقّاتها في غضب محموم والبنادق والسيوف والنبابيت تشرئب في توعّد مخيف، وقد جاءت من كل أنحاء القاهرة لتتلاقى في موكب ضخم يتقدمه السيد عمر مكرم نقيب الأشراف، وأخذ صياح الجميع يهدد بين الحين والحين: (يا رب يا متجلي.. اهلك العثمانلي).

وتوقف الموكب أمام القلعة حيث يقيم الوالي العثماني أحمد خورشيد باشا الذي عزله الشعب لبغيه وفساده، فتحصن بالقلعة مع من انضم إليه من جنوده رافضاً الامتثال لإرادة الشعب، قائلاً لمن أبلغه بنبأ عزله من الولاية: (إني مولى من قبل السلطان فلا أعزل بأمر الفلاحين).

وانطلقت الأوامر الحاسمة من السيد عمر مكرم والعلماء بحصار القلعة وبإقامة المتاريس والاستعداد لخوض معارك رهيبة ومجابهة أقسى الظروف. وأمام حيّ الرميلة المواجه للقلعة، وقف حجاج الخضري شيخ طائفة الخضرية وزعيم هذا الحي بجسده الفارع الضخم وقد فتح أبواب دكاكينه لمن يريد مجاناً، وراح يضع الخطط ويوزع رجاله ويأمرهم بإحضار ما يلزم لإقامة المتاريس ومستلزمات الحصار.

ولم تكن هذه أول معركة يخوضها الخضري، فقد كان له أدوار مجيدة في الكفاح ضد الفرنسيين وطغاة العثمانيين والمماليك بجرأة نادرة وبطولة فذّة، وكان مع قوة جثمانه خفيف الحركة، نشيط الساعد يروع أعداءه بسعة أفقه وسلامة خططه كما يروعهم بشجاعته وقوة بأسه.

الردّ على العدوان

أخذ المجاهدون يروحون ويجيئون بمؤنهم وذخائرهم ومشاعلهم ومعدّاتهم، وبالرغم من انطلاق القذائف من فوق أسوار القلعة على أبناء الشعب، إلا أن نشاط حجاج الخضري لم يقف عند حدود حي الرميلة، بل كان يسارع إلى نجدة إخوانه في كل مكان يعلم أن الجنود هاجموه. فعندما علم بأن جنود خورشيد هاجموا حي المظفر واعتدوا على المواطنين وأخذوا أسلحتهم، وأجلوا الثوار عن متاريسهم وأقاموا خلفها، أسرع حجاج بمن معه إلى حي المظفر وهاجم الجنود وفتك بالكثير منهم.

كل هذا ومحمد علي لايزال يرقب الأحداث، وإن كان يسهم بتحريكها من بعيد تاركاً الكفاح على عاتق هذا الشعب الذي قال له زعماؤه: (قد جعلناك والياً علينا بشروطنا لما نتوسمه فيك من العدالة والجد).

غير أن هذا الرجل الداهية الذي ابتلع في أعماقه إلى حين عبارة (بشروطنا) كان حريصاً على ألا يجاهر السلطان العثماني بالعداء ولا يبدد قواته في المعارك التي يخوضها الشعب ضد الوالي المعزول. كما حرص من جانب آخر على أن يشعر العلماء والثوار أنه معهم يعمل لصالحهم. وحين أرسل خورشيد باشا مبعوثاً إلى العلماء يقول لهم: كيف تعزلون مَن ولاّه السلطان عليكم وقد قال تعالى { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}؟ أجاب السيد عمر مكرم: (أولو الأمر هم العلماء وحملة الشريعة والسلطان، وهذا رجل ظالم، وقد جرت العادة من قديم الزمان أن أهل البلد يعزلون الولاة حتى الخليفة والسلطان إذا سار فيهم بالجور والظلم).

وحاول خورشيد باشا تدبير مؤامرة للإيقاع بالثوار وإيصال المؤن والذخائر إلى القلعة بإرسال بعض أعوانه إلى عمر مكرم لمباحثته مع التوقف عن القتال، بينما ينتهز الفرصة بمفاجأته الثائرين لتحطيم الحصار وتمكين القافلة الكبيرة التي جاءته مدداً من دخول القلعة. وكادت المؤامرة أن تتم لولا يقظة بعض المجاهدين الذين جاءوا للسيد عمر عند الفجر وكشفوا اللثام.

ولم يكن حجاج الخضري بمنأى عن الميدان، فقد كان ورجاله ساهرين كعادتهم يراقبون المناطق التي تحيط بالقلعة من جهة الجبل، وفجأة شاهدوا القافلة وانقضّوا عليها وقضوا على الجنود المرافقين لها، كما استولوا على ما معهم من الجمال المحمّلة بالذخائر والبالغ عددها ستين جملاً. وأخيراً أذعن السلطان لإرادة الشعب، واضطر إلى عزل خورشيد وتولية محمد علي والياً على مصر.

ولكن لم تكد تمضي أيام من توليته حتى تذكر حكاية (الشروط) فقرر أن يتخلص من كل مَن كان له فضل الثورة والعمل على توليته. فغدر بمن ولّوه حاكماً عليهم عندما أعلنوا معارضتهم لأطماعه وعدوانه على حرياتهم وحقوقهم، ولم يتردد في التنكّر حتى للسيد عمر مكرم.

وقد كان حجاج الخضري أحد من تنكّر لهم الباشا بدعوى مقدرته على تجميع الشعب لأي تمرّد. فقبض عليه وأرسله إلى الحبس الذي شهد فيه أقسى أنواع المهانة، حتى لقد كان يهتف من أعماقه: (أما لهذا الأمر من نهاية؟!).

وفي ليلة من ليالي أغسطس 1817 دارت الأقفال في ضجة وفتح باب المحبس ودخل عسكر الباشا يتقدمهم المحتسب مصطفى كاشف حاملاً أمراً من الوالي بأن يقود الشيخ حجاج الخضري ليشنقه على السبيل الذي كان يجاور حارة المبيضة بالجمالية، وأمر بأن تظل جثته مدلاة بعد شنقه لمدة ثلاثة أيام...!!.

 

سليمان مظهر