اللبنانيون دخلوا بوابة العبور إلى الوطن غسان حبال تصوير: عدنان برجي

الجنون سمة الحرب الأهلية في لبنان، وهي الحرب التي استمرت 15 عاما، وبلغ عدد ضحاياها 165 ألف قتيل ونصف مليون جريح وكما من الدمار بلا حصر، فهل هدأت موجة الجنون قليلا؟، وهل يستطيع اللبنانيون أن يعبروا بوابة الواقع وصولا إلى قلب الوطن؟

يوم الثلاثاء 1/ 9 /1987، أي منذ أكثر من أربع سنوات، أخبار- شائعات تنتشر كالنار في الهشيم: "الليرة اللبنانية المعدنية تباع ب 150 ليرة لبنانية"، حلقات كثيرة في أكثر من شارع في العاصمة اللبنانية، بيروت: في الحمراء، في المزرعة، في البريد، وفي أكثر من منطقة: في الضاحية الجنوبية، في البقاع، في الشمال، وفي الجنوب.

الوقائع تثبت أن الأمر قد حصل وليس شائعة، والروايات تتكاثر حول خلفيات الخبر- الشائعة: مطبعة للتزوير وإعادة سبك الليرة كخمسة فرنكات فرنسية، إعادة سبكها كمارك ألماني، كدينار أردني، إذابتها وإعادة سبكها وبيعها بأسعار مرتفعة، "الكروم" الذي تطلى به الليرة ارتفع ثمنه، الاقتصاد سينهار وستصبح العملة " تذكارية ".

"الجنون" سيصبح جماعيا مع انتشار الخبر: بائع متجول راح يبادل علبة الدخان التي تصل قيمتها إلى 150 ليرة، بليرة معدنية، بائع "السندويتشات" بادل سندويتش الشاورما بليرة معدنية، مواطن انتظر عند محطة الوقود أربع ساعات ليشتري " تنكة بنزين" بادلها بليرة معدنية.

الحوادث الفردية والجماعية كثيرة، وبعضها دموي: رجل ضرب امرأته وهددها بالطلاق لأنها فتحت قبل يومين حصالة طفلها دون علمه واشترت بالليرات المعدنية التي كانت في داخلها حليبا مجففا للطفل.اشتباك في مدينة صيدا الجنوبية بين عناصر مسلحة لخلاف على تبادل البيع، استمر أكثر من ساعة، وأسفر عن سقوط ثمانية جرحى.

في هذا الوقت كان خبراء الاقتصاد والعالمون بنوع المعدن الذي سبكت منه الليرة اللبنانية المعدنية، يؤكدون أن القيمة النقدية لها لا تتعدى 370 قرشا، أما قيمتها كنيكل فتصل إلى 12 ليرة، ولا مبرر لكل الذي حدث.

ومع نهاية ذلك اليوم اتضحت الحقيقة: لا مرجع نهائيا ستباع منه الليرة بالسعر الذي تم تداولها به، والمعلومات تنتشر عن عملاء مزودين. بمبالغ كبيرة اندسوا في أكثر من شارع ومنطقة، وافتعلوا العملية، فتحول جميع الناس إلى أعمال الصرافة، وفي اليوم التالي تكتب الصحف اللبنانية: اللبنانيون بعد أن تحولوا إلى مجتمعات طائفية، مذهبية، قبلية، يتحولون إلى مجتمع مجنون لا ضوابط له.

الناس والشائعات

ويقول علماء النفس في توصيف الظاهرة: الناس متروكون لأمرهم بعد أن فقدوا السلطة المرجعية، فأصبحوا نهبا للشائعات والمفاجآت، الناس فقدوا الأطر والضوابط بشكل شبه كامل، تنتشر الشائعة فيسيطر الانفعال واللامنطق، وبما أن الخلل موجود أصلاً نتيجة غياب السلطة وغياب مصداقية مؤسساتها، فإن الشائعة أتت لاستثمار هذا الخلل وتفعيله، وأصبح المواطن كالطفل الذي فقد والديه، يسير دون هدف!

أما التوصيف السياسي لما حدث فكان: المجتمع اللبناني فقد مناعته، والليرة المعدنية كانت " بالون" الاختبار للدرك الذي وصل إليه المجتمع في عملية بحثه عن سلطة بديلة، ولم يبق سوى الأمل ليحمي الناس من الجنون، الأمل والتمني بعودة الحركة للمؤسسة، وباستعادة المرجع لأطره، لأنه لا بديل للناس عن المرجع، وهو ليس بالضرورة شخصا، بل يمكن أن يكون مؤسسة أو هيئة معنوية.

جنون أمني

بعد ذلك، دخل لبنان مرحلة متطورة من " الجنون الأمني" في غياب. المرجع والمؤسسة ومختلف السلطات بأشكالها التشريعية والتنفيذية.

"جنون" يكاد يلغي اسم "بيروت" العاصمة، ليكرس مكانه مصطلحي "الشرقية" و "الغربية".

و "جنون" كان الشاهد عليه خطوط التماس التي تقطع أوصال الوطن الواحد وتمنع- عنوة- مواطنيه من التلاقي والتواصل.

و "جنون" كاد يحمل اللبنانيين، رغما عن إرادتهم، على الاتفاق على تقسيم بلادهم، وتقاسمها رسميا فيما بينهم.

و "جنون" أعاد إلى الواجهة "السيرة الذاتية" لخطوط التماس التي رسمت معارك العام 1975 معالمها الأولى في أسواق بيروت التجارية، ثم راحت على مر الأيام والأسابيع والأشهر والأعوام، تمتد شرقا وغربا، جنوبا وشمالا، لتحول لبنان الوطن إلى جزر أمنية وطائفية ومذهبية، يصل، لا بل يقطع، فيما بينها "بوابات" كانت تمنع تواصل المواطنين أكثر مما كانت تسمح به، "بوابات" وصل عددها في يوم من الأيام إلى 28 بوابة، قبل أن تتدخل القوى العربية في أواخر العام 1989، وتحدث، في الكويت أولا، ثم في الطائف بالسعودية، الصدمة المطلوبة لوقف "الجنون"، ووقف التوتر على خطوط التماس، وإعادة ترميم المرجعية اللبنانية، وفتح بوابة العبور إلى الوطن أمام اللبنانيين.

ماذا عن الجمهورية الثانية؟

المرحلة الثالثة حملت السؤال: أي حال كان عليها اللبنانيون يوم دخولهم "جمهوريتهم الثانية"؟

قد يضيع أي مراقب في ظل تناقضات شبيهة بقضية لبنان استمرت 15 عاما، كل الفرقاء المحليين يدعي فيها أنه على حق والآخرين على باطل، قضية تم تعريبها، وتدويلها، ولبننتها أكثر من مرة، وبقي النزيف مستمرا، والقاسم المشترك فيها هو الدم والتضحيات التي لم تكن تفرق بين مسلم ومسيحي، أو بين سني وشيعي ودرزي، أو بين كتائبي وشيوعي، ولم يبق في لبنان من عناصر وحدته سوى مأساة الإنسان فيه، أيا كانت هويته المذهبية أو السياسية أو العقائدية.

مواطنون تفرق بينهم " خطوط التماس " و " بوابات العبور" و " الطوائف " و " المذاهب " و " العقائد السياسية "، وتوحد فيما بينهم المأساة الإنسانية والوضع الاجتماعي والمعيشي.

هذا هو الواقع المعنوي الذي كان عليه الناس عشية قيام " الجمهورية الثانية " فأي واقع مادي كان عليه كل لبنان في ذلك اليوم؟

يؤكد مرجع أمني لبناني، أن عدد ضحايا الحرب الأهلية منذ 13 نيسان (إبريل) 1975 حتى وقف العمليات العسكرية في نهاية العام 1990، بلغ حوالي 165 ألف قتيل ونصف مليون جريح، بينهم حوالي 30 ألف معاق، إضافة إلى تهجير مليون مواطن وتركهم لمنازلهم ومناطق إقامتهم.

ضحايا عديدة

وينطلق المرجع في إحصاءاته هذه المرة من التقرير الذي نشرته مجلة " ذي ميدل إيست" في أوائل العام 1986، والذي أوردت فيه أرقاما حول عدد ضحايا الحرب في لبنان، نسبتها إلى سجلات سرية لبعض الأكاديميين اللبنانيين، وقد أظهرت السجلات الأرقام الآتية: *148600 قتيل من النساء والأطفال والرجال، بمن فيهم ضحايا الغزو الإسرائيلي للبنان في صيف العام 1982.

*472500 جريح بمن فيهم جرحى الغزو الإسرائيلي.

*25000 عاجز أو معاق بمن فيهم مصابو الاجتياح الإسرائيلي.

وقد أظهرت السجلات أيضا، أن 700000 شخص أي ثلث سكان لبنان تخلوا عن منازلهم وأصبحوا مهجرين، فيما أدت حرب السنتين (1975 1976) والغزو الإسرائيلي في العام 1982 إلى تدمير أكثر من 13 ألف بناية وإصابة 80 ألف بناء بأضرار متفاوتة.

ويقول المرجع الأمني إن سجلات الشرطة والهيئات الإنسانية والطبية اللبنانية والدولية العاملة في لبنان، تشير إلى أن الحروب الداخلية المتنقلة حصدت بعد الغزو الإسرائيلي أكثر من 16 ألف قتيل، كما أدت إلى إصابة أكثر من خمسة آلاف مواطن بالإعاقة الدائمة، ورفعت عدد المهجرين داخل الوطن الواحد من 700 ألف مهجر إلى مليون مهجر في أبشع صورة من صور الخلل الديمغرافي، وذلك فضلا عن حوالي 350 ألف مهاجر تركوا لبنان نهائيا، خلال جولات العنف المتتالية على مدى 15 عاما.

لعنة الدمار

أما الجانب الآخر من الواقع المادي الذي يعيشه اللبنانيون، فهو يتمثل في الدمار الذي أصاب البنى التحتية، التي لم تكن أصلاً قد شهدت أي نوع من أنواع الصيانة والتطوير منذ 15 عاما.

أكثر من ثلاثة أشهر دون كهرباء بشكل كامل، تبعها برنامج تقنين قاس، وبالتالي لا مياه إلا فيما ندر، أضرار جسيمة في شبكات الهاتف الداخلية، " أما الاتصالات مع الخارج فقد أصبحت بالنسبة لذوي الدخول المتوسطة والمحدودة بالليرة اللبنانية، ذكرى من ذكريات الماضي البعيد، المياه الآسنة "النابعة" من شبكات المجاري المتفجرة لم توفر أي شارع من شوارع العاصمة.

اقتصاد لبناني مستنزف، وجد ذاته بعد 15 عاما من الحرب مفتقدا إلى الإمكانات المادية والبشرية الذاتية الكفيلة بإخراجه من الدمار الذي لحقه.

الإنتاج الصناعي تقلص بمعدل النصف، والصادرات تراجعت بنسبة 70%، ونحو 30% من السكان العاملين عاطلون عن العمل تماما.

والنتيجة اضطراب كبير في الدورة الاقتصادية في البلاد كافة، مما بات يهدد بتوقف الحياة، فالبلاد في حالة عدم اكتفاء مالي ذاتي لإعادة البناء، ويكفي أن نذكر هنا أن التقديرات عشية توقف الأعمال العسكرية كانت تشير إلى الحاجة لمبلغ 8,5 مليار دولار لإعادة تأهيل البنى التحتية، أي المقومات المطلوبة لاستمرار الحياة على أرض لبنان.

هل يعود لبنان القديم؟

وبعد "اتفاق الطائف" أصبح للبنانيين فعلاً "جمهوريتهم الثانية"، وهم التقطوا الفرصة، وإذ تعمل الورش اليوم على إزالة خطوط التماس، وتفتح المعابر وتلغى البوابات، فإن اللبنانيين يسائلون أنفسهم هل يستطيعون فعلا العودة إلى "لبنانهم" القديم، لبنان، سويسرا الشرق؟

هل هذه الهمة في إعادة بناء الأرصفة وإعادة تأهيل شبكات الطرق، تكفي وحدها لإعادة صياغة وطن طالما حلم به اللبنانيون؟

إنهم يجمعون اليوم على أن تنفيذ نصوص "اتفاق الطائف" دون تلبس روحه وإعادة بناء الحجر دون إعادة بناء الإنسان، خطوات منقوصة لا تشيد وحدها الوطن- الحلم.

إنهم اليوم، يبحثون بجد وكد عن المقومات الروحية والسياسية والاجتماعية والحياتية الكفيلة بإزالة "خطوط التماس" من النفوس، لمرة أخيرة ونهائية، لأن هذه المقومات هي وحدها القادرة على تحقيق الحلم، وبناء الواقع النموذجي.