من المكتبة العربية.. من حديث المجالس الأدبية والمنتديات الثقافية في بغداد

من المكتبة العربية.. من حديث المجالس الأدبية والمنتديات الثقافية في بغداد

تعد المجالس الثقافية من الظواهر العريقة في مجتمعاتنا العربية، فقد عرفها العرب منذ زمن بعيد، إذ كانت في البدء أسواقاً ثقافية ترتبط بأوقات معينة من العام حيث يتبارى فيها الحضور ببضاعتهم الأدبية، ولعل أشهرها على الإطلاق «سوق عكاظ» ملتقى الشعراء قبل ظهور الإسلام، والذي كان نواة لما صارت إليه الحال فيما بعد مع عجلة التطور عبر عصور متعاقبة، لنصل إلى ما يعرف الآن بالمجالس الأدبية والثقافية المعاصرة في أرجاء الوطن العربي.

ليس أدل على وجود المجالس الثقافية هنا وهناك من مقولة العلامة حسين علي محفوظ والملقب بـ «شيخ بغداد» عن الأحاسن والأمناء «.. (الأحاسن) هم أصدقاء حسين على محفوظ وتلاميذه وهم في العراق بمنزلة (الأمناء) جماعة المرحوم أمين الخولي في مصر».

وكما كانت «عكاظ» في الجزيرة العربية قبل الإسلام فقد جاءت «المربد» ببصرة العراق في الإسلام، وقد ازدهرت هذه المجالس في عهد هارون الرشيد والمأمون وما بعدهما.

وها هي بغداد تتبوأ دورها التاريخي فتزخر بالعديد من المجالس الأدبية والمنتديات الثقافية بما لها من أهمية.. يقول المؤلف: «المجالس هي الرئة التي يتنفس من خلالها الأدباء والمثقفون هواء نقيًا، وبغداد منذ تأسيسها كانت مجلساً أدبياً عامراً دائماً بالأدب والعلم والمعرفة والبحث بمدارسها ومعاهدها وجامعاتها العلمية المنتشرة في كل أرجائها وطوال مئات السنين»، «وبعد تأسيس الدولة العراقية في سنة 1921م وبداية النهضة الفكرية آنذاك، بدأت بعض المجالس الأدبية والثقافية تنتشر بين بعض البيوتات البغدادية المعروفة بالعلم والمعرفة وكانت تجمع الأدباء والشعراء والمثقفين وحتى السياسيين، حيث كانت دورية وفي أيام محددة واستمرت بالانتشار وأصبحت لها تقاليدها الخاصة وروادها الذين هم صفوة المجتمع.

كانت هذه المجالس بالنسبة لنا، نبض الحياة، ننتقل من واحدة إلى أخرى كانتقال الفراشة بين الزهور، طوال أماسي الأسبوع، مساء الخميس كان مخصصاً لمجلس آل الشعر باف والجمعة لمنتدى أبي حنيفة والسبت لمكتبة الحاج حمدي الأعظمي والأحد لمجلس الخزومي والاثنين لمجلس آل خاقاني والثلاثاء لمجلس محيي الدين ومجلس الربيعي ومنتدى بغداد، وهكذا كنا نتسابق ونتواعد مع أطيب الأحبة لحضور المجالس».

ومن هنا يحلق بنا المؤلف في سماوات الحياة الثقافية في بغداد منتقلاً من زهرة إلى أخرى ناثراً عبير تلك الزهور وعبق تاريخها في آن، والمجال لا يتسع هنا لنطوف بكل هذه المجالس، ولكن ولأن ما لا يدرك كله لا يترك كله سنحاول قدر المستطاع إلقاء الضوء على بعض هذه المجالس الثرية وذلك بعرض مقتطفات مما ذكر الأستاذ المؤلف.

نشأة المجالس وتطورها

كانت النواة الأولى لهذه المجالس لقاء الناس بعضهم بعضا في المساجد ثم «مقاهي الطرف» والديوخانات ومجالس القبول حتى انبرى بعض المفكرين والباحثين والساسة والوجهاء إلى فتح أبوابهم لاستقبال الأصدقاء من العلماء والمثقفين، وأصبح لدى البعض منهم تقليد أسبوعي أو شهري . تتضح أهمية المقاهي حيث بدأت بها بعض المجالس الثقافية واستمرت وقتاً طويلاً ولعل بعضها مازال يمارس دوره حتى الآن، ولذا فقد استهل المؤلف عرضه للمجالس بالحديث عن مقهى شهير ثم اتبعه بعدة حلقات تحت عنوان «المجالس مدارس».

مقهى الزهاوي

يتحدث المؤلف عن هذا المقهى فيذكر نشأته وتاريخه وموقعه وأهم رواده.

يعد مقهى الزهاوي مركزاً أدبياً وثقافياً اجتماعياً إذ كان يرتاده الشعراء والمثقفون والمفكرون من نخبة المجتمع خلال تاريخه، وعلى مر السنين احتضن الأدباء والسياسيين، وكان المقهى يسمى في بادئ الأمر مقهى الحاج أمين.

يعود تأسيس المقهى الواقع في شارع الرشيد من جهة الميدان إلى ما قبل عام 1917 م، وقد كان ملتقى من أدوا دوراً وطنياً في تاريخ البلاد منهم محمد مهدي الجواهري في كتابة قصائده الوطنية في الخمسينيات، فضلاً عن أبرز أفراد النخبة الثقافية الوطنية العراقية آنذاك أمثال الدكتور علي الوردي ومحمد بهجت الأثري وعلي الشرقي وبدر شاكر السياب ونوري ثابت وعدل عوني وتوفيق السمعاني وإسماعيل الصفار، ومن الساسة من رجال الدولة : فاضل الجمالي وعبدالمسيح وزير وعبدالكريم قاسم وآخرون، وللمقهى ذكريات وحكايات كثيرة منها استقبال شاعر الهند الكبير طاغور، وفيه كانت الردود اللاذعة على الأديب المصري عباس محمود العقاد، كما كانت فيه احتفالات الرصافي الشعرية التي تتحول إلى مظاهرات وطنية.

المجالس مدارس

نظرا لما وصلت إليه هذه المجالس من رفعة ومكانة نتيجة لاتجاه الكثير منها لتقديم محاضرات ذات وزن رفيع وعمق فكري أشبه بالدراسات الأكاديمية، ونتيجة للتفاعل المحمود بين الرواد والمحدثين وما أعقبه من إفادة للجميع، فقد صارت هذه المجالس أشبه بالمدارس ولذا فقد شاع عنها تعبير «المجالس مدارس» وارتبط بها ارتباطاً وثيقاً على اختلاف أغراضها، ثقافية كانت أم غير ذلك.

مجلس الشهرستاني

كانت لسماحة الحجة السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني مكتبة خاصة في منزله ببغداد وكان يقصده كثير من العلماء والأدباء لغرض الإفادة من محضره وعلمه في مختلف المسائل، ومن أهم المستشرقين الأجانب الذين قصدوه أثناء زيارتهم لبغداد في القرن الماضي السنيور كارلونالينو الإيطالي، أستاذ علم الفلك يومها بجامعة القاهرة، والمستشرق الفرنسي لويس ماسنيون أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة السوربون، والبروفسور الألماني الهر يوسف شاخت أستاذ الأدب العربي بجامعة برلين وغيرهم، ولما أعلنت الحرب العالمية الأولى عام 1939 فضل السيد هبة الدين الانتقال مع مكتبته وعائلته إلى الكاظمية، حيث اتخذ قاعة كبيرة في ركن الصحن الشرقي (بعد ترميمها) مجلساً علمياً له ولإلقاء دروسه ومحاضراته على طلبته.

وفي عام 1940 نقل مكتبته الخاصة حيث أشرف عليها نجله الأكبر السيد جواد، وشرع السيد هبة الدين في إلقاء دروس منتظمة في التفسير، حيث كان يحضر دروسه علماء بغداد والكاظمية أمثال العلامة السيد محمد الحيدري الخلاني والعلامة نقي الحيدري والعلامة السيد طاهر الحيدري وغيرهم، ولأهمية هذه الدروس قامت إذاعة بغداد بنقل محاضراته مباشرة من المكتبة إلى العالم عبر الأثير، وفي إحدى المرات حضر رئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني وبصحبته الحاج محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين.

وفي عام 1943 فضل السيد هبة الدين تحويل مكتبته إلى مكتبة عامة واختار لها اسم «مكتبة الجوادين العامة» تيمناً بالإمامين الجوادين.

وبعد ربع قرن من المحاضرات وتقديم الخدمات لطلاب العلم والمعرفة انتقل إلى رحاب الله في عام 1967، ورقد في وسط مكتبته بعد تشييع رسمي، وتولى ابنه الأكبر السيد جواد إدارة المكتبة ومجلسها الأسبوعي أماسي الخميس، ومن الشخصيات التي كانت تحضر الدكتور علي الوردي رحمه الله والدكتور حسين علي محفوظ والدكتور شادمان البرزنجي والدكتور حميد مجيد والأستاذ عبدالأمير الطائي وغيرهم.

شيخ بغداد « ندوة الثلاثاء»

يواصل د.القيسي سرده, وهذه المرة عن شيخ بغداد ويسمونه الأب الروحي ويسمونه أستاذ الأجيال، وهناك أسماء وألقاب كثيرة يلقبون بها هذا الشيخ الجليل رائد الفكر وعمود الأدب وعلامة العراق الموسوعي الدكتور حسين علي محفوظ.

ولد في الكاظمية عام 1926، ولأنه من بيت علم عربي عراقي قديم فلم يكن مختصاً بعلم واحد، إذ ان المكتبة التي نشأ في أحضانها في البيت الذي ولد فيه والمدينة وهي الكاظمية، وهي من مدن العلم في العراق، كل ذلك هيأه ليكون ملماً بكل المعارف والفنون.

وقد أجاز الدكتور محفوظ للرواية عنه فطاحل العلماء والمعروفين، والإجازة هي أن يروي الشخص عن غيره من العلوم أو ما عنده من الكتب التي يرويها عن مشايخه، وهناك رواية الأقران وهي أن يروي الإنسان عن نظيره ومثله وقرينه، وهناك رواية الأكابر عن الأصاغر وهي ان يروي الكبير عن الصغير، ورواية الأصاغر عن الأكابر وهي ان يروي الشخص عمن فوقه، وشيخ بغداد روى عن كثير من العلماء في المشرق والمغرب يزيدون على (90) من مختلف البلاد والرواية عنده أمر مهم وإجازاتهم بخطوط أيديهم وهي تعد من الوثائق المهمة.

وقد كان لشيخ بغداد مجلس يعقد كل مساء ثلاثاء في داره يحضره عدد من الأدباء والأفاضل والعلماء تدور فيه شتى الموضوعات الفكرية والتراثية يفتتحها العلامة محفوظ بنفسه وتدور المداخلات والمناقشات حولها، وقد بدأ هذا المجلس في عام 1969 واستمر عاماً واحداً فقط.

وقد حضر هذا المجلس بالإضافة إلى مرتاديه من العراق الدكتور شوقي ضيف رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة والأستاذ نزار الزين صاحب العرفان والمستشرق ريجارد نلسن فراي (أستاذ أغا خان) في جامعة هارفارد وغيرهم.

سيدة في مجالس بغداد

يعد مجلس شرقية الراوي أول مجلس تديره سيدة في إطار مجالس بغداد الثقافية، والمجلس يقع في دارها في حي البنوك، ودعت جمهرة من الأدباء والشعراء وأهل المعرفة للمشاركة في افتتاحه سنة 1991م.

المجالس عقب سقوط الديكتاتورية

استمرت بعض المجالس في ممارسة دورها في الحقبة الديكتاتورية برغم الضغوط التي كانت تمارس بحق مرتاديها والرقابة الشديدة عليهم، وممارسات تهدف إلى توجيهها في غير المسار المراد منها، ومن هذه المجالس مجلس الشعر باف ومجلس الخاقاني ومجلس الربيعي ومجلس محيي الدين ومجلس وداد الورفة لي ومجلس شرقية الراوي وغيرها، وقد استمرت هذه المجالس كل حسب يومه المحدد، ولكن بعد انهيار النظام في 9 / 4 / 2003 ومع تصاعد وتيرة العنف الجماعي وضياع الأمن وتغلغل الإرهاب الشرس اضطر أغلب المثقفين إلى التزام بيوتهم ليأمنوا شر الظروف مما سبب تجميد أنشطة كل المجالس.

مجلس الصفار الثقافي

بعد أربع سنوات عجاف وفي تلك الظروف الصعبة أقدم الأستاذ المحامي رؤوف الصفار وهو أحد رواد المجالس الثقافية المعروفين في الكاظمية على خطوة شجاعة جريئة تدل على ثبات المبدأ ونكران الذات والمجازفة والمخاطرة بكيانه الاجتماعي، حيث أبدى استعداده التام لتحمل مسئولية إقامة مجلس ثقافي في داره الكائنة في مدينة الكاظمية، وبعد مشاورة العديد من المثقفين وخاصة العلامة حسين علي محفوظ شيخ بغداد وأحد أهم أركان المجالس البغدادية، تم بالفعل تأسيس وافتتاح المجلس في 7 / 7 / 2007 واختير يوم السبت مرة كل أول شهر موعداً له، وكان افتتاح المجلس حدثاً مشهوداً وسعيداً لدى المثقفين والأدباء، وقد غطت الحدث وسائل الإعلام والقنوات الفضائية تغطية متميزة، وقد اكتملت سعادة الحاضرين باعتلاء الدكتور العلامة حسين علي محفوظ المنصة معلناً الافتتاح الرسمي بمحاضرة رائعة عن المجالس البغدادية.
----------------------------------
* طبيب أسنان وأديب وأحد أهم رواد المجالس الأدبية وعضو في الكثير منها وهو من جماعة الأحاسن (أصدقاء العلامة د.حسين علي محفوظ وتلاميذه).
** كاتب من مصر مقيم في الكويت.

-----------------------------------

النُّهى بين شاطئيك غريقُ
والهوى فيك حالمٌ ما يفيق
ورؤى الحبِّ في رحابك شتَّى
يستفز الأسير منها الطليقُ
ومغانيك في النفوس الصديا
ت إلى ريِّها المنيع رحيقُ
إيه يا فتنة الحياة لصبِّ
عهده في هواك عهد وثيق
سحرته مشابه منك للخلد
ومعنى من حسنه مسروق
كم يكر الزمان متئد الخط
وغصن الصبا عليك وريق
ويذوب الجمال في لهب الحب
إذا اعتيد وهو فيك غريقُ
تتصبيني به في دجا الليل
وقد هفهف النسيم الرقيقُ
مقبلاً كالمحب يدفعه الشوق
فيثنيه عن مناه خفوق
حملته الأمواج أغنية الشط
فأفضى بها الأداء الرشيقُ

حمزة شحاتة

 

 

 

سلمان عبدالجليل القيسي*