من المكتبة الأجنبية.. قيمنا المهددة.. أزمة أمريكا الأخلاقية

من المكتبة الأجنبية.. قيمنا المهددة.. أزمة أمريكا الأخلاقية

في كتابه «قيمنا المهددة أزمة أمريكا الأخلاقية» الذي صدر في أمريكا أول مرة عام 2005 وصدرت ترجمته العربية حديثاً بتوقيع حسام الدين خضور, يلامس الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر حقيقةَ الدولة العظمى في العالم أمريكا, ويقسمها إلى «ولايات متحدة حمراء» وأخرى «زرقاء» وذلك استناداً إلى تقسيمه للرأي العام الأمريكي وكيف أن هذا الرأي منقسم أكثر من أي وقت مضى حول مجمل القضايا.

يتحدث كارتر عن قيم أمريكا في العدالة والحرية وحماية البيئة وتخفيف المعاناة البشرية كلها التي باتت في خطر، ويتساءل لماذا هذا الابتعاد عن تلك القيم, معيداً ذلك بالدرجة الأولى إلى أن الأصوليين في أمريكا أصبحوا ذوي نفوذ أكثر ونجحوا في تحويل التمايزات داخل أمريكا إلى مواقف صارمة سوداء وبيضاء، وتأتي أهمية هذا الكتاب وما يطرحه من كون مؤلفه شخصية أمريكية من الوزن الثقيل تعرف «الشعاب» أكثر من غيرها وترى الصورة بمجمل أجزائها لتقدمها لنا كلاً واحداً يفيض فكراً ومعرفة وحكمة.

يتألف الكتاب من سبعة عشر فصلاً تناول كارتر فيها معتقدات أمريكا العامة واختلافاتها الشديدة, ونهوض الأصولية الدينية والنزاعات المتنامية بين المتدينين, وموضوعات أخرى ذات حساسية خاصة من مثل آثام الطلاق والمثلية الجنسية والإعدام، والنزعة الأصولية في الحكومة، وانحراف السياسة الأمريكية الخارجية.

في مستهل كتابه يشير جيمي كارتر إلى اعتزاز الأمريكيين بعظمة وطنهم غير أن كثيرين منهم لا يدركون حجم وعمق التحولات التي تشهدها قيم أمتهم الأخلاقية الأساسية وخطابها العام وفلسفتها السياسية، وإذا كان مبرراً أن يفتخر شعب أمريكا برؤيتها تستخدم قوتها ونفوذها للحفاظ على السلام لأبنائها وللآخرين وتعزيز العدالة الاجتماعية والاقتصادية ورفع راية الحرية وحقوق الإنسان وتخفيف المعاناة الإنسانية كما يقول - فإن هذه الالتزامات التاريخية وغيرها أصبحت في خطر الآن، وطَفتْ على السطح مسائل خلافية أخرى من مثل الإجهاض وعقوبة الإعدام, والمواجهة بين العلم والدين, وحقوق المرأة, والفصل بين السياسة والدين, والمثلية الجنسية ,وخطر الإرهاب, وانتشار الأسلحة النووية والطبيعة البيئية والعدالة للفقراء، وقد تسببت السجالات حول هذه المسائل بانقسامات غير مسبوقة داخل أمريكا في الآونة الأخيرة باعتماد كل من الحزبين الديمقراطي والجمهوري على الإعلانات التي تذم هذا الطرف أو ذاك لكسب الانتخابات، واتصاف المداولات في الكونغرس بالعداء الحزبي أكثر فأكثر وتبني مصطلحي «الأحمر» و«الأزرق» باعتبارهما كلمتين وصفيتين مألوفتين داخل الولايات وبينها، فما الذي بعث هذه السجالات الحادة وما الذي ولّد مثل هذا الانحراف الشديد عن قيم أمريكا التقليدية؟

يرى كارتر أن أحد أهم العوامل في ذلك هو رد فعل الأمريكيين على الهجوم الإرهابي في 11 سبتمبر عام 2001 والتأكد من طبيعة الإرهاب الدولية وقوته وديمومته، وثمة عامل آخر وهو تلك المبالغ الضخمة التي تم ضخها في العملية السياسية، وتأثير المصالح الخاصة غير المسبوق في المداولات السرية داخل الحكومة بصور متزايدة، والعامل الأكثر أهمية - كما يؤكد جيمي كارتر- هو أن الأصوليين أصبحوا ذوي نفوذ في الدولة والدين أكثر فأكثر، ونجحوا في تحويل الفروق والتمايزات الدقيقة في الجدال التاريخي إلى مواقف صارمة سوداء وبيضاء والحط من شأن من يتجرأ على معارضتهم، وفي الوقت نفسه وحّد هؤلاء المحافظون الدينيون والسياسيون جهودهم، وردموا الهوة التي تفصل بين الدولة والكنيسة التي جرى احترامها في الماضي، وجرى تبني تعريف المعتقدات اللاهوتية على نحوٍ ضيق بوصفها أجندة صارمة في الحزب السياسي، وحرَّفت جماعات ضغط قوية في الحكومة وخارجها إيماناً أمريكياً مثيراً للإعجاب في المشروع الحر إلى حق المواطنين الأكثر غنىً بتكديس الثروة وحيازتها أكثر فأكثر ونقلها إلى الأحفاد، واُعطيت أرباح تجارة الأسهم ودخلها وضعاً ضريبياً ممتازاً مقارنة مع الأجور التي يكسبها المعلمون ورجال الإطفاء، فالفلسفة الاقتصادية الجديدة في واشنطن هي أن المد العالي يرفع اليخوت كلها.

وفاقم الاختلافات في الرأي غيرالقابلة للحل في الإجهاض والمثلية الجنسية ومسائل اجتماعية حساسة أخرى إصرار المؤيدين للخط المتشدد على فرض وجهات نظرهم التي تحظى بتأييد الأقلية على الأغلبية الأكثر اعتدالاً.

ولايات «حمراء» و«زرقاء»!

يناقش كارتر بعد ذلك ما يسميها المسائل الخلافية في أمريكا، ويرى أن أغلبية قوية من الحزبين الديمقراطي والجمهوري توافق على أن أمريكا منقسمة سياسياً أكثر من أي وقت في الذاكرة الحية، وهذا واقع تفسره - جزئياً الانتخابات الرئيسية المثيرة للشكوك عام 2000 والانقسام الذي بلغ أشده خلال السنوات التالية بين الولايات «الحمراء» و«الزرقاء»، وقد كانت الفروق الحزبية في تأييد وعدم تأييد الرئيسين الأخيرين واضحة جداً مع شعبية شخصية للرئيس بوش بين الديمقراطيين أقل مما كان للرئيس كلينتون بين الجمهوريين عندما كانت تدابير محاكمته جارية آنذاك، وبالإضافة إلى الحرب العراقية المستمرة حتى الأن ودلالاتها الخاصة بتعارض جدي في الآراء، ويرى كارتر أن هذه الخلافات الحادة يمكن اعتبارها مجرد نزاعات حزبية، غير أن تأثيرها على سياسات أمريكا الدولية والمستقبلية مهم جداً، فالنسبة المئوية التي تفضل العمل الدبلوماسي كوسيلة أنجع لحل النزاعات مقارنة مع العمل العسكري متدنية بين الجمهوريين وعالية بين الديمقراطيين، وفي مقاربة محاربة الإرهاب يعتقد ثلثا الجمهوريين أن استخدام القوة المفرطة هو الأفضل، فيما تعتقد نسبة أعلى من الديمقراطيين أن الإفراط في استخدام العمل العسكري يدفع إلى زيادة العداوة ضد الولايات المتحدة ويولد المزيد من الارهابيين، دون أن تستبعد وجوب استخدام القوة المسلحة عندما يكون ثمة تهديد جدي للأمن الأمريكي، وهذا الخلاف الحاد والمتنامي على مسألة حل النزاعات الدولية بالطرق الدبلوماسية أو العمل العسكري هو الآن كما يقول كارتر المتنبئ الأكثر دقة في تقرير الأصول الحزبية، وما يشجع هو أن أغلبية الأمريكيين تتفق على مسائل مهمة عديدة: مثل قيمة الدين في الحياة الشخصية، وقوة المبادرة الشخصية في تحقيق الإمكانيات الإنسانية، والحاجة إلى حماية البيئة حتى وإن كان الأمر مكلفاً، وعدم الارتياح لاندماج الشركات الكبرى، والرغبة في قوانين فيدرالية ضد الإباحية وتطبيقها بلا تهاون. وهناك خلافات شديدة حول المسائل الاجتماعية، غير أن كثيراً من الآراء يتغير، ويعد تأثيرها ضعيفا على الحلبة السياسية، وعادة ما تعتبر قوة المشاعر إزاء المسائل الخلافية أكثر أهمية من الانقسامات العددية، وهذا واضح وخصوصاً عندما يكون موضوع النزاع هو الإجهاض أو الرقابة على السلاح حيث لرأي الأغلبية الدائمة من الأمريكيين تأثير ضئيل في الشأن السياسي.

والتغيير المزعج في سياسة الحكومة - كما يرى كارتر - شمل صناعة الأسلحة النارية فقد أيد الرؤساء: ريغان وبوش وكلينتون تشريعاً أقرَّه الكونغرس عام 1994 منع عشر سنوات صناعة ونقل وامتلاك 19 سلاحاً حربياً شبه آلي منها ar- 15s ak- 47 s uzis لا يُستخدم أي نوع من تلك الأسلحة للصيد بل لقتل الآخرين، وقد دعا أكثر من 1100 رئيس شرطة وشريف من كل أرجاء البلاد الكونغرس والرئيس بوش لتجديد وتشديد الحظر الفيدرالي على الأسلحة الحربية عام 2004 ولكن بغمزة عين من البيت الأبيض فاز اللوبي المؤيد للسلاح وانتهى الحظر. وبالإضافة إلى الأسلحة الحربية يحمي لوبي السلاح قدرة المجرمين وأفراد العصابات على استخدام الذخيرة التي يمكنها اختراق السترات الواقية من الرصاص التي يرتديها رجال الشرطة أثناء قيامهم بعملهم، ويسوق جيمي كارتر تقريراً عن مركز «جونز هوبكنز» لسياسة الأسلحة والبحث فيها يقول إن معدل القتل بالأسلحة النارية في الولايات المتحدة أعلى بتسع عشرة مرة من تلك الموجودة في 35 بلداً يرتفع فيها متوسط دخل الفرد بشكل كبير مجتمعة، وفي السنة الأخيرة التي توافرت فيها هذه المعلومات جرى قتل 334 شخصاً في استراليا و197 في بريطانيا و183 في السويد و83 في اليابان و54 في ايرلندا و1034 في كندا و30419 في الولايات المتحدة الأمريكية.

الشيطان الأكبر!

ويتوقف جيمي كارتر بعد ذلك عند ما يسميه «نهوض الأصولية الدينية» في الولايات المتحدة الأمريكية ويرى أن ثمة ميلاً ملحوظاً نحو الأصولية في كل الأديان يشمل ذلك الطوائف المسيحية المختلفة بالإضافة إلى الهندوسية واليهودية والإسلام، حيث يميل متدينون حقيقيون أكثر فأكثر إلى البدء بعملية تقرير: مادمت منحازاً إلى الله فأنا متفوق ومعتقداتي يجب أن تسود، وأي شخص لا يتفق معي فهو «مخطئ جوهرياً» والخطوة التالية هي «شرير جوهريا» والخطوة الأخيرة هي «أقل من بشري» ثم حياته غير ذات أهمية.

وقد خلق ذلك الميل في كل أرجاء العالم نزاعات دينية شديدة كما يرى كارتر وكان ثمة ميل مزعج نحو الأصولية في السنوات الأخيرة بين القادة السياسيين وداخل المجموعات الدينية الرئيسة في أمريكا وفي الخارج وغدت العلاقة بينهما متشابكة أكثر فأكثر، وقد تجلت هذه الحركة أول مرة كما يرى كارتر عندما تولى الخميني قيادة إيران ووصم الولايات المتحدة بـ«الشيطان الأكبر» وشجع أتباعه من المقاتلين الشباب على احتجاز 25 شخصاً من طاقم السفارة الأمريكية في طهران أربعة عشر شهراً، وكان هذا العمل انتهاكاً مباشراً للقانون الدولي وتفسيره الأصولي لتعاليم الإسلام التي أسس عليها قيادته الدينية ومعارضته لتعاليم القرآن التقليدية المتعلقة بالسلام والتعاطف ولا سيما المعاملة الكريمة للزوار والدبلوماسيين من الدول الأخرى.

«لا تقتل» ولذلك سنقتلك!

ويتوقف مؤلف الكتاب للحديث عن موضوع عقوبة الإعدام في الولايات المتحدة منطلقاً من تجربته الشخصية عندما كان حاكماً لولاية جورجيا وكانت هناك منافسة شديدة بينه وبين نظرائه في الولايات الأخرى لتقرير من منهم يمكن أن ينجز التخفيض الأكبر في نزلاء السجون، وقد بذلوا - كما يقول - جهوداً كبيرة للإصلاح المؤسساتي مستعينين بخبراء في كل المجالات لتصنيف نزلاء السجن الجدد وإعدادهم لتعليم أساسي وتدريب مهني وإعادة تأهيلهم نفسياً، وتبع ذلك كله إطلاق سراح مبكر وبرامج إطلاق سراح مشروطة بالعمل، فما الذي حصل بعد ذلك؟

يقول كارتر: لقد تم التخلي عن تلك السياسة بالكامل بل أصبح تركيز الولايات المتحدة الآن على العقوبة، وليس إعادة التأهيل، وهذه خاصة من خصائص النزعة الأصولية «أنا على صواب وشريف، وأنت على خطأ وتستحق العقوبة» ونحو سبعة بالألف من الأمريكيين الآن في السجون، معظمهم بسبب جرائم غير عنيفة، وهذه أعلى نسبة احتجاز في العالم، وتتجاوز سجل روسيا السابق الذي بلغ ستة بالألف وغدا بناء زنزانات في السجون أحد أكثر الصناعات الإنشائية عملاً في كثير من الولايات فحلّقت فرص العمل لحراس السجون عالياً، وبالإضافة إلى السجن تقف الولايات المتحدة وحيدة تقريباً في العالم مفتونة بعقوبة الإعدام فـ 90% من كل عقوبات الإعدام المعروفة حيث تُنفذ في أربعة بلدان فقط، والولايات المتحدة والصومال فقط من دول العالم ترفضان التوقيع على ميثاق حقوق الطفل العالمي الذي يحظر حكم الإعدام على الجرائم التي يقترفها أطفال، ومنذ عام 1990 أقدمت سبعة بلدان فقط غير الولايات المتحدة على تنفيذ أحكام إعدام بأشخاص بسبب جرائم اقترفوها وهم فتيان، وحتى تلك البلدان تنصلت من هذه الممارسة، وفي النهاية صوتت المحكمة العليا في الولايات المتحدة بـخمسة ضد أربعة أصوات على إبطال عقوبة الإعدام للأحداث لكن هذا القرار شجبه بقوة عدد كبير من المسيحيين المحافظين، ويبدو بطريقة ما غير منطقي أن نقول (كارتر): «لقد انتُهكت وصية الله «لا تقتل» ولذلك سنقتلك ولسوء الحظ تلك هي فلسفة العدد المتضائل الذي لايزال أغلبية أمريكية ضئيلة».
-------------------------------
* كاتب من سورية.

---------------------------------

نغماً تسكر القلوب حميَّاه
فمنها صُبوحها والغبوق
فيه من يحرك الرفق والعزف
ومن أفقكِ المدى والبريقُ
أنت دنياه رفافة بمعنى
الروح وكونٌ بالمعجزات نطوق
رضى القيد في حماك فؤاد
عاش كالطير دأبه التحليقُ
ما تصبته قبل حبك يا
«جدة» دنيا بقيدها وعشيقُ
حبذا الأسر في هواك حبيساً
بهوى الفكر والمنى ما يضيق
«جدتي» أنت عالم الشعر
والغنوة يروي مشاعري ويروق
تتمشى فيك الخواطر سكرى
ما يحس اللصيق منها اللصيق
«جدتي» لا التي يحب الخليُّون
شقاء عذب وسر أنيق
أنت مرتاد وحدتي إن تبتلـ
ـتُ وإن شنتُ عالمٌ مطروقُ

حمزة شحاتة

 

 

عرض: خالد عواد الأحمد*