أعضاء صناعية لكنها.. حية عزت عامر

أعضاء صناعية لكنها.. حية

العلاج الجيني (بالمورّثات) ليس جديدا، لكن أحدث الأبحاث في المختبرات البيولوجية العالمية، تجري الآن تجارب متقدمة لاستبدال عضو مصاب بالتلف بعضو صناعي حي في جسد المريض. وهذا الإجراء يفتح طريقا جديدا في مجال علوم العلاج بالجينات.

بملقط، يمسك الجراح بكرة صغيرة جدا مائلة إلى البياض، تستقر في عمق إناء زجاجي ضيق العنق، ويضعها برقة داخل معدة فأر مخدر، مع جعلها تتلامس مباشرة بالمساريقة (غشاء يغلف الأمعاء ويربطها بالجدار البطني)، وذلك قبل إغلاق وخياطة البطن. هكذا تكون بذرة عضو جديد، (شبه عضو في حقيقة الأمر) قد زرعت في هذا الفأر وهذه البذرة تحتوي على خلايا جينية معدلة مخصصة لنشر أنزيم غير موجود بجسم الفأر المتقبل، وليس لهذا علاقة بمضخة ميكانيكية أو حتى أي عضو صناعي: فشبه العضو هذا أو العضو- الجديد، تم تكوينه في بيئة اصطناعية (في المعمل) انطلاقا من الخلايا الحية التي أخذت كعينة من عدة أسابيع سابقة من الفأر الذي يجب أن يستقبله.
وهذه التكنولوجيا في سبيلها للتطبيق في مختبر معهد باستير، ويعتبر هذا الأسلوب أحد الطرق الأكثر أصالة في مجال علوم العلاج الجينية، وربما واحدا من أكثرها أملا.
غالبية علوم العلاج الجينية (ما يقرب من عشرين تجربة يجرى تطبيقها الآن، على الإنسان في العالم) تشتمل على اقتطاع الخلايا من داخل المريض، وجعلها تتكاثر في المعمل بإضافة جين جديد إليها، وإعادة زرعها في الجسم! هذه الخلايا- باستثناء الخلايا الأصلية للكريات الدموية- لا تحمل على سطحها العناصر التي تتيح لها أن تجد موقعها الأصلي بنفسها، الموقع الوحيد الذي يمكنها أن تعمل فيه بشكل طبيعي، ولاحتياجها إلى بيئة خاصة لتستمر في الحياة، يجب إعادة زرعها مباشرة داخل العضو المناظر، كذلك تم النجاح بما يكفي لزراعة خلايا معدلة في الكبد أو حتى في المخ حيث يمكنها أن تبقى لعدة أسابيع. لكن هذه الخلايا تنقسم بطريقة منتشرة ولا يمكن التحكم فيها، فهي ترحل في قلب النسيج المضيف، فيصبح من المستحيل تقريبا معرفة إذا كانت تعمل أيضا أو حتى إذا كانت لاتزال باقية. وبالإضافة إلى ذلك، لا يمكن نزعها في حالة وجود مشكلة ما. وعقبة أخرى في التقنية التقليدية: غالبا ما يكون من الضروري تدمير جزء من النسيج المضيف حتى يصبح تحسينه ملائما لزرع خلايا معدلة.
في مواجهة كل هذه المصاعب، يستكشف علماء البيولوجيا طرقا متنوعة بهدف تحسين بقاء ونشاط الخلايا المزروعة. وأحد المساعي الأولى تشتمل على اقتطاع الخلايا من الحيوان، وإدخال الجين المطلوب فيها وجعلها تتكاثر في المعمل في وجود ركيزة اصطناعية. فمثلا حبيبات الدكستران (مركب سكري مقبول من الأجهزة العضوية) تقوم الخلايا بالالتصاق بشكل طبيعي تماما على سطح الحبيبات. وما إن يتم إعادة زرعها، حتى يزداد وجودها بوفرة. ولكن هذا لا يحل مشاكل الانتشار لما تزرعه داخل النسيج المضيف، ولا يحل عدم انعكاس الطريقة. ورغب باحثون آخرون في استخدام مجمعات اصطناعية. لكن التكوينات المزروعة يتم تقبلها غالبا بشكل سيئ بواسطة الأجهزة العضوية، وتحدث ردود فعل التهابية خطيرة.

نسيج عضوي متجانس

قد يكون حلا لائقا أن تشكل هذه الخلايا المعدلة هي نفسها عضوا كاملا بشكل منفصل، نسيجا متجانسا مركزا تماما ومرتبطا بالدورة الدموية. وهكذا يمكن التحكم في تطور الخلايا وعملها مع الاحتفاظ باحتمال نزعها إذا احتاج الأمر. وهذا ما يحاول إنجازه فريق معهد باستير بواسطة "أشباه الأعضاء"، تحت إدارة أوليفيير دانوس وجان- ميشيل هيرد.
"الفكرة جذابة، وأسرع عديد من الباحثين منذ الآن في هذا الاتجاه"، هكذا يقول فيليب مويير، المشارك الثالث في الفريق. وقد أوضحت أعمالهم إمكانيتين تمهيديتين، فمن جانب تكوين نسيج بيولوجي متجانس التركيب، ومن جانب آخر انتظام الأوعية في هذا النسيج. وكان الأمريكي إندرفيرما ومساعدوه في معهد "سالك" بالولايات المتحدة هم الذين فتحوا الثغرة في أواسط الثمانينيات باستعمالهم الخلايا الليفية- الفيبروبلاستات في تجاربهم. وخلايا الجلد هذه معروفة تماما بالنسبة لعلماء البيولوجي. إنها من الخلايا الأكثر سهولة في تنميتها ومزجها في المعمل، وأدخل إليها "إندر قيرمي" المورث رقم "4" بتخثر الدم الذي يتسبب غيابه في النعورية (مرض النزف) من النوع
B، وزرع إحدى هذه الخلايا المعدلة تحت جلد حيوانات المختبر حيث تنتج هذه الخلايا عامل "4" خلال زمن طويل نسبيا. لكن ما يتم زراعته لا يكون فعالا بما فيه الكفاية وتتحقق التجربة في شروط خاصة جدا: مثال لذلك، الفئران التي زرعت فيها خلايا معدلة كانت محرومة من الحماية المناعية. ووجب إجراء التجربة في حيوانات نعورية، ويمكن لبعض الكلاب أن تكون من هذا النوع، لكنها نادرة جدا. ولم يتم إنجاز التجربة.
ثم فتحت الثغرة الثانية في نهاية الثمانينيات بواسطة فريق أمريكي آخر، فريق "توماس ماكياج" في المعهد القومي للصحة، علماء شغفوا بتكوين وتكاثر الأوعية الدموية، أوعية النشوء، فوضعوا في الحاجز البطني للجرذان إسفنجة من الكولاجين (مادة بين الخلايا) مشربة بعامل نماء الفيبروبلاستات. وخلال عدة أسابيع نمت فيبروبلاستات في الإسفنجة ومهدت شعرات صغيرة جدا لنفسها طريقا عبر الكولاجين، رابطة ما تم زرعه بالدورة الدموية العامة. وعندئذ فكر فريق توماس ماكياج بحقن خلايا كبد داخل هذا التكوين المزود بالأوعية، والتي بدا عليها أنها بقيت هناك بدون مشاكل كبيرة.
وعندئذ قرر علماء البيولوجيا استعمال ألياف اصطناعية متوافقة حيويا كركيزة للكولاجين ولعامل النمو. وما إن تتم زراعة هذه الألياف، حتى تتغطى بسرعة بواسطة الفيبروبلاستات وتتزود المجموعة بالأوعية بوفرة، ويبدو أن هذا التكوين قد اندمج تماما في الأجهزة العضوية، متميزا بوضوح عن الأنسجة الأخرى، ويشبه هذا التكوين عضوا قائما بذاته، وقاموا بتدشينه باسم شبه عضو، مضيفين قليلا من عبير الخيال- العلمي على أعمالهم الواقعية تماما.

أعضاء صناعية حية

فيم يمكن أن يفيد شبه العضو، غير أن ينجز وظيفة ليس الجهاز العضوي نفسه قادرا على أدائها؟ جرب نفس الفريق الأمريكي عندئذ زرع شبه عضو عند جرذان مصابة بمرض في الكبد- عجز نظام استبعاد مكون الصفراء، ناتج من تضاؤل الهيموجلوبين (يحدث هذا العجز تراكما لمكون الصفراء السام بالنسبة للمخ).
وما إن يتم استقرار انتظام الأوعية الدموية حتى يحقن الباحثون خلايا كبدية طبيعية داخل شبه العضو ويعلنوا تسجيل انخفاض معلوم في النسبة المئوية لمكون الصفراء. لكنهم يعلنون النصر مبكرين بعض الشيء: فبعد ثلاث سنوات، لم ينجحوا في إعادة إجراء تجربتهم. فأشباه العضو لم تكن تدوم طويلا بما فيه الكفاية، ورد الفعل الالتهابي يكون كبيرا، وسريعا جدا، ويتليف شبه العضو ويتوقف عن العمل. ويجب على واضعي التجربة أن يعترفوا بفشلهم. هل هذا الطريق مسدود؟ فيما يخص التفاصيل، هذا ممكن. لكن فيليب مويير وزملاءه في معهد باستير مصممون بحزم على إيجاد وسيلة للالتفاف حول هذه العقبات. إذا كان باستطاعة أشباه الأعضاء البقاء مدة كافية بدون حدوث التهابات، وأن تكتسب طاقة إنتاجية، فهنا ستجد العلاجات الجينية نفحة ثانية. وفريق الباحثين الفرنسيين قريب تماما من الهدف، ففي وقت سابق، بحثوا في تحسين تمويه الألياف الاصطناعية بواسطة مواد تتيح إبقاء عامل النمو في مكانه بشكل أفضل. وبعكس ما يتم إنتاجه عادة عند إدخال مادة غريبة، لم تحدث في هذه الحالة ردود فعل التهابية تقريبا، والألياف الواجب تحريرها تكون فعلا مغلفة بالكولاجين وبعامل النمو. ويحصل الباحثون بهذه الطريقة على أشباه أعضاء تبقى مستقرة ستة أشهر على الأقل.
عندما اجتذبتهم فائدة أعمال فريق إندرفيرما، قام فريق معهد باستير بحقن فيبروبلاستات معدلة جينيا داخل أشباه الأعضاء: فظلت فعالة خلال عدة أشهر! ويستخدم الفرنسيون فيبروبلاستات المتقبل التي يقتطعونها من جلده قبل العملية. واختلاف آخر، أنهم يقومون بتقديم جين أحد الأنزيمات الخاصة إلى الخلايا، أنزيم يسهل وضعه بلا شك، هو البيتا- جلوكورونيداس الإنساني. وعندما يكون جين هذا الأنزيم ناقصا، تطفح الأجهزة العضوية الجلوسيدات (مادة سكرية)، التي يجب تهبيطها عادة.
"النتائج مشجعة تماما- هكذا يلاحظ أوليفيير دانوس- لكن يجب العمل مرتين، المرة الأولى لوضع العضو الجديد، والثانية لحقن الخلايا المعدلة. ولا يخلو الأمر من العقبات، حيث توجد دائما المجازفة بالتسرب، وتظل كمية الخلايا التي تم حقنها ضعيفة. مما اقتضى مدخلا جديدا". وشرعوا بعدئذ في اقتطاع فيبروبلاستات من فأر مصاب بمرض ووضعوها في مزرعة. وتم نقل العدوى إليها بمساعدة الفيروس الذي ينقل إليها جين.
beta - glucuronidase وتم تغطيس الفيبروبلاستات في الكولاجين ومعها الألياف الاصطناعية. وتلقائيا، توجهت الخلايا وكونت شبكة تنكمش بسرعة، لتعطي كرة صغيرة قطرها يضعه ملليمترات. وبعد عملية الزرع، ينجز انتظام الأوعية الدموية نفسه دون إزعاج. وشبه العضو، المكون أساسا من خلايا معدلة، يكون عمليا في هذه الحالة.
وبهذه الطريقة الجديدة، يكفي تدخل وحيد يعبر عنه أحد الباحثين بقوله: هذه المرة، لم نعد نلجأ إلى خدمات عدة ملايين من الخلايا المعدلة، إنها عشرات الملايين. ويبدو أنها جميعا تبقى برصانة في موضعها. ولم يعثر أبدا على ما هو أفضل من شبه العضو، حيث تكون النتائج مدهشة. ويتم إنتاج الأنزيم باستمرار وتعود ليزوسومات الخلايا الكبدية، أو خلايا الطحال أو الرئات إلى وضعها الطبيعي.

تطبيقات في العلاج

كم من الوقت يمكن لمثل أشباه الأعضاء هذه أن تبقى؟ يقول أوليفييردانوس: "من الصعب الإعلان عن ذلك في الوقت الراهن، لكن عندما تؤخذ الأعضاء الجديدة بعد ستة أشهر، فإنها تكون نشطة أيضا. ويجب الآن الانتقال إلى دراسة طويلة الأجل ومن خلال حيوان أكبر".
ولقد اختاروا الكلب، حيث عنده يمكن وضع عدة أشباه أعضاء ذات قطر يبلغ عدة سنتيمترات. ويختص الأمر هنا بزراعة عدة مليارات من الخلايا المعدلة. ولم يتم معرفة النتيجة بعد، لكن الباحثين واثقون من أنفسهم. ولدى الكلب يتم الاعتماد على وجود حاجز دهني مزود تماما بالأوعية وهو الذي يكسو المعى، والترب، ويعتبر عمليا جدا لزراعة أشباه الأعضاء. وهذه تفصيلة تشريحية تم تطويرها ويسهل الوصول إليها أيضا لدى الإنسان. ومن جهة أخرى، إذا سارت الأمور بهذه الجودة، لماذا لا يتم التجريب مباشرة في الإنسان؟ على كل حال، كما قام بتوضيحه أوليفيير دانوس، باستثناء قليل، فقد تمت تجربة العلاجات الجينية الأولى بلا مرور على الحيوان! ولن تكون الحالة مماثلة هنا. يجب القول بأنه يبقى عدة تفاصيل تقنية يجري تنظيمها قبل الوصول إلى هذا الأمر.
"توجد فرصة مع أنزيم بيتا جلوكو يورونيداز" - يعترف فيليب مويير- "فيكفي القليل منه للحصول على نتيجة. وكذلك هل يجب زرع شبه العضو مبكرا بما يكفي للسماح بتخفيف القصور في العظام وفي المخ". في الحقيقة، يمكن أن يكون لأنزيم السكربات العديدة نتائج خطيرة في المراكز الحيوية كلها تقريبا. والأسلوب الوحيد لعلاج الإصابات العظمية والدماغية قد يكون زراعة أشباه الأعضاء منذ سن مبكرة، قبل أن يكون المخ أصعب منالا ومعزولا بواسطة الغشاء السحائي، ولا تكون الوصلات بعيدة عن متناول الأنزيم. والتجارب على الفأر المولود حديثا قد بدأت في هذه الحالة أخيرا في معهد باستير بتمرس صائب في الجراحة الدقيقة والتي يتوقع الفريق الكثير من خلالها.
تحسين آخر ممكن: الحصول على قدرة أقوى للجين الذي يتم إدخاله في خلايا شبه العضو. فالجين يكون مصحوبا بجزء من معزز المادة الحفازة، متضمنا في كل المراحل الأولى في استنساخ د. ن. أ، وإلى هنا يتم استعمال معزز يعمل داخل كثير من الخلايا المختلفة. ربما عند ربط هذا الجين بمعزز أكثر قوة وأكثر استقرارا سنجد أن قدرته صارت أقوى. ومن جهة أخرى، لا يكون من الممكن دائما قياس جرعة الأنزيم في الدم. يظل من الصعب إذن الحصول على فكرة دقيقة عما ينتجه شبه العضو. ويفكر فيليب مويير أيضا أنه قد يكون جديرا بالاهتمام صنع أشباه أعضاء انطلاقا من خلايا أخرى، غير الفيبروبلاستات، فالميوبلاستات مثلا، (من الخلايا العضلية الصغيرة التي يمكنها أن تظهر استقرارا أكثر). وهنا أيضا، فقط التجريب على الإنسان هو الذي سيسمح بالحسم.
وأيا كان التحفظ على نوع الخلية والمعزز، يمكن لأشباه الأعضاء أن تجد تطبيقات عديدة ويقول أوليفرنومي: "لقد بدأ إمداد الأجهزة العضوية بعوامل لتخثر الدم، وبتطعيمات لبعض الفيروسات مثل الإيدز، وبالهرمونات". والهرمونات تخلق مشكلة أكثر دقة، تلك الخاصة بالتنظيم الجيني، فالهرمونات تفرز بطريقة متقطعة. بينما تبث أشباه الأعضاء نتاجها باستمرار. فيجب بناء على ذلك العثور على طريقة لتنظيم قدرة الجينات التي يتم زرعها في أشباه الأعضاء.
الإنترفيرون مثلا (وهو بروتين تنتجه الخلايا ضد الإصابة الفيروسية)، يمكنه أن يحث قدرة الجين. وهو منتج غير مستقر يمكن استخدامه لإثارة النشاط لأجل قصير، وبالعكس، فمع تدبير تسلسلات قصيرة من د. ن. أ السابق الصنع، ومن أوليجونيكليوتيدات، ربما يتم التوصل إلى وقف نسخ جين خاص لمدة محددة.
لا يزال هناك الكثير أمام الأبحاث في مجال التطبيقات العلاجية، وليس من شيمة العلماء الجري وراء الأمنيات الخاطئة، لكن الوصول إلى حقائق مهما كان حجمها، يعتبر خطوة واثقة نحو مزيد من الإنجازات.

 

عزت عامر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




بعد عدة أسابيع من عملية الزرع يتزود شبه العضو بالأوعية تلقائيا





بعد عدة أسابيع من عملية الزرع يتزود شبه العضو بالأوعية تلقائيا





األشكال باتجاه الأسهم تبين كيف أن الفيروس المحمل بالموروثات العلاجية المطلوبة يعدي خلية فيغير شفرتها وتركيبها البروتيني





في بيئة مزرعة تتكاثر الخلايا المعدلة في كولاجين وألياف نسيج متوافق حيويا