"إكسبو 92" ملتقى الحضارات في أشبيلية طلعت شاهين

جناح الكويت لؤلؤة في عقد "لاكارتوخا"

في العشرين من شهر إبريل 1992 تحتفل مدينة أشبيلية الأندلسية بمرور خمسة قرون على وصول كريستوفو كولومبس إلى أمريكا، وذلك من خلال إقامة معرض عالمي يعتبر أضخم معرض فني عرفته البشرية حتى الآن، ويستمر هذا المعرض لمده ستة أشهر، حيث يفتح أبوابه رسميا أمام الزائرين في العشرين من إبريل وحتى الثاني عشر من أكتوبر من العام نفسه، وهو تاريخ وصول كولومبس إلى العالم الجديد.وهو اليوم الذي تحتفل به أيضا إسبانيا ودول أمريكا اللاتينية احتفالا قوميا يطلق عليه اسم، لا أمريكا اللاتينية احتفالا قوميا يطلق عليه اسم، لا هيسيا نيداد، "HISPANIDAD" أي عيد العرق الإسباني أو الجنس الإسباني.

يقام المعرض على أرض جزيرة "لاكارتوخا" التي تقع على مشارف مدينة أشبيلية التاريخية، ويضمها بين أحضانه نهر الوادي الكبير، واختيار هذا المكان لإقامة المعرض تم لأسباب تاريخية وأسطورية أيضا، فقد كانت هذه الجزيرة تضم ديرا للرهبان الكاثوليك كان يعتبر أضخم دير في إسبانيا حتى سنوات قريبة، حيث تم إغلاقه وتحويله إلى مصنع للسيراميك مازال إنتاجه يعرف باسم الجزيرة ويصدر إلى جميع أنحاء العالم وتديره شركة دولية معروفة، وهناك أساطير كثيرة تدور حول علاقة كولومبس بالراهب غاسبار غوريثو الذي كان يقيم في الدير، وكان صديقا لكولومبس وعالما له باع طويل في علوم البحار والفلك، ويقال إن كولومبس كان قد قصده للتشاور معه حول أمر اعتزامه قطع البحار غربا للوصول إلى جزر الهند بالالتفاف حول الأرض بدلا من الطريق الذي يدور حول إفريقيا- طريق الرجاء الصالح- وكان الراهب غاسبار يؤمن مثل صديقه كولومبس بإمكانية هذه الرحلة وجدواها. إضافة إلى أن هذا الدير ضم رفات كولومبس بعد وفاته، حيث ظل مدفونا هناك لسنوات طويلة إلى أن تم نقله إلى أمريكا اللاتينية وضاع أثره بعد ذلك، وهناك من يؤكد أن جثمان كولومبس مازال يرقد في أحد أركان الدير القديم.

عبور إلى الماضي

وتعود جزيرة "لاكارتوخا" هذا العام لتصبح محط أنظار البشرية وتستعيد مجدها القديم، حيث من المنتظر أن يزور المعرض العالمي "إكسبو 92" أكثر من ستة وثلاثين مليون زائر ليدخلوا في رحلة عبر التاريخ تأخذهم من مرحلة ما قبل الاكتشاف أو الوصول إلى أمريكا ثم إلى المستقبل مرورا بزماننا هذا، من خلال عرض فني شائق، فيتعرف الزائر على المتغيرات التي شهدها العالم خلال هذه القرون الخمسة التي بدأت من يوم وصول كولومبس إلى شوطئ أمريكا اللاتينية في الثاني عشر من أكتوبر عام 1492، وهو الحدث العظيم الذي لم يعرف به كولومبس حتى موته، فقد مات المكتشف المسكين وهو يعتقد أنه وصل إلى جزر الهند، وهنا تكمن الأسطورة الحقيقية، بل إنه مات كمدا بعد أن شكك الكثيرون في اكتشافاته وجدوى رحلته الشاقة.

وإذا كانت أشبيلية هي التي منحت هذا المعرض العالمي اسمها، فإن جزيرة لاكارتوخا ستكون هي الملتقى الذي يجمع الأجناس البشرية في أكبر معرض يفد إليه الجميع بعد سقوط جدران برلين وانتهاء الحرب الباردة التي أحاطت بالمعارض العالمية السابقة. وستكون مئذنة "الخيرالدا" العربية الشهيرة شاهدًا على هذا المعرض من خلال إطلالتها على نهر الوادي الكبير إضافة إلى دير سانتاماريا دي لاس كويباس الذي يعد من أهم المعالم المسيحية في الجزيرة.

وللاطلاع على هذا المعرض عن قرب قررت "العربي" أن تقوم بجولة في جزيرة لاكارتوخا التي ستضم المعرض العالمي بأجنحته الدولية المختلفة. ومن بينها الجناح الضخم والمتميز الذي تقيمه دولة الكويت، والذي أصبح محط أنظار الجميع حتى قبل أن يبدأ العمل فيه، لأن قصة الجناح الكويتي تعتبر تحديًا تاريخيًا كبير بسبب الأحداث التي عاشتها دولة الكويت جراء الغزو العراقي وحرب الصمود والتحرير، فقد راهن الكثيرون على غياب الكويت عن "إكسبو 92" ولكن العزيمة والإصرار كانا وراء الجهود التي استطاعت أن تختصر الزمن وتقيم جناحا يفخر به المعرض، ويصبح بحق درة وعلامة على جبين هذه الجزيرة التاريخية.

والطريق إلى أشبيلية يمر بالضرورة عبر العاصمة الإسبانية مدريد، لذلك كان كبد من لقاء السفير الكويتي لدى إسبانيا جاسم الصباغ الذي شهد ولادة هذا الحدث قبل خمس سنوات عندما قررت الكويت المشاركة في المعرض العالمي، ثم عاش اللحظات العصيبة التي مرت بالكويت، فكان يعمل عملا مضاعفا ويكثف جهوده من أجل قضية بلاده، والعمل على ألا تغيب الكويت عن إكسبو 92 مهما كان الثمن، وأكد لي السفير أنه يعرف أن هناك أقوالا متناقضة حول الجناح الكويتي، ولكن الواقع شيء آخر ومؤكد؛ لأن العمل يجري على قدم وساق طوال أربع وعشرين ساعة لإنجاز هذا العمل العظيم، وإقامة جناح يليق بدولة الكويت، وشعبها وتاريخها الحضاري، لأن المسألة كانت تحديا للذين حاولوا طمس معالم وتاريخ الكويت. وأن ما تم إنجازه حتى لحظة هذا اللقاء يعتبر عملا عظيما بكل المقاييس.

ولتأكيد صحة كلامه قدم لي السفير الصباغ شرحا تفصيليا للجناح الكويتي من خلال الماكيت المصغر الذي أعدته شركه سويسرية تقوم حاليا بتصنيع الجزء العلوي المتحرك من أفخم الأخشاب السويسرية . وقال إن الجناح الكويتي سيكون من طابقين متصلين تبلغ مساحتها معا 1429 مترا مربعا، الطابق السفلي سيكون نصفه بارزاً ونصفه الآخر تحت مستوى سطح الأرض ومحاط بالماء والمرايا، والجزء العلوي عبارة عن شكل مستطيل له سقف متحرك يفتح ويغلق بمحركات كهربائية قوية ويمكن أن يصبح على شكل صدقة أو محارة تنغلق على نفسها أو تفتح مشرعة جوانبها إلى السماء، أو كأنها خيمة بدوية مفتوحة أو مركب شراعي، والجناح كله سيصبح كجزيرة عائمة بين الماء والمرايا. وسوف يضم الطابق السفلي معرضا خاصا يطلع فيه الزائر على تاريخ الكويت الحضاري على مر الزمان، وحتى وقتنا الحاضر، وذلك من خلال عرض قطع أثرية تاريخية نادرة تمثل تاريخ شعب الكويت العريق، وأعرب السفير عن أسفه من عدم اكتمال العرض الفني بعد أن تسبب نظام صدام حسين في ضياع آلاف القطع الأثرية النادرة التي تعرضت للسرقة والنهب في أثناء فترة الغزو، ولكنه أكد أن الجهود تبذل حاليا من أجل عرض كل ما أمكن الحفاظ عليه من الآثار الكويتية التاريخية وشرح لي السفير جاسم الصباغ فكرة السقف المتحرك فقال إنها فكرة جمالية من الناحية الشكلية وفي الوقت ذاته تحقق هدفاً آخر وهو أن يكون الجناح في جزئه العلوي مفتوحا على السماء الصافية في ليالي الصيف الحارة، لأن صيف أشبيلية معروف بحرارته، إضافة إلى أن الإضاءة سوف تلعب دورا مهما في إبراز الشكل الجمالي للجناح.

أكسبو: قارب النجاة السياسي

غادرت مدريد وهي تعيش تحت طقس شهر يناير البارد ودرجة الحرارة في العاشرة صباحا تشير إلى خمس درجات تحت الصفر، وهي ظاهرة جديدة لا تحدث كثيرا في العاصمة الإسبانية، وحاولت أن أغزي نفسي بالوصول مبكرا إلى أشبيلية لأستمتع بدف شمسها الشتوية الساطعة. وبالفعل عندما وصلت الطائرة بعد ساعة من الطيران كانت درجة الحرارة في المطار الجديد تزيد على عشر درجات فوق الصفر، وبدت مدينة أشبيلية التاريخية بأسطحها اللامعة وكأنها ربوة صغيرة تطل عليها شمس الصباح. وكأن المدينة استيقظت فجأة على أصوات المطارق والناقلات الثقيلة التي تعمل ليل نهار في أرض المعارض بجزيرة لاكارتوخا، طلبت من سائق التاكسي أن يوصلني إلى فندق قريب يقع في قلب المدينة العربية القديمة، فهذه ليست المرة الأولى التي أزور فيها تلك المدينة التاريخية، بل لا أستطيع أن أحصي عدد المرات التي زرتها فيها طوال سنوات إقامتي فيها.. في إسبانيا، ولكنها تفاجئني في كل مرة، وأدخلها وكأنني لا أعرفها من قبل، إنها مدينة ساحرة ومن يرد أن يكتشف سحرها فعليه أن يلقي بجميع خرائطها جانبا ويتصعلك في شوارعها العربية الضيقة، ويتطلع إلى شبابيكها وشرفاتها التي تزينها الزهور صيفا وشتاء. ولكن هذه المرة فاجأني السائق بسؤال غريب "هل تعرف هذا الفندق؟" فقلت له إنني نزلت فيه عدة مرات وهو يتميز بفنائه الداخلي الذي يشبه بيت جدي، فقال: أقصد أسعار الفندق، لقد تضاعفت الأسعار هذا العام بسبب " إكسبو 92" . وفهمت منه أن الحس التجاري تجاوز كل حد في استغلال هذا العام للخروج بمكاسب تعوض الكساد الذي سيطر على المدينة في السنوات الأخيرة، وأكد في حديث شبه سياسي أن هذا المعرض من عمل الاشتراكيين للحفاظ على الحكم بعد أن وصلوا إليه عام 1982، وأنهم اختاروا أشبيلية لهذا الغرض فرئيس الوزارة فيليب غونثالث ونائبه السابق ألفونسو غيرا وأبرز أعضاء الحزب والوزارة هم من أبناء أشبيلية. وحاولت أن أواجهه بالأسباب التاريخية التي أعرفها، ولكنه ظل على موقفه، وانتهى الحديث بيننا بإعلانه أنه سوف يصوت لصالح الاشتراكيين في الانتخابات المقبلة فسألته بدهشة عن السبب، فقال إن اليمين حكم إسبانيا أربعين عاما، وأنه لا يريد للأندلس أن يعود إلى فقره ا لقديم الذي عاش فيه أيام فرانكو.

غابات الأسمنت.. والرجال

مع أشعة الصباح الأولى اخترقت بي سيارة التاكسي شوارع أشبيلية القديمة الضيقة، التفت حول الخيرالدا الشاهقة الشاهدة على عظمة المعمار الإسلامي، ثم اتجهت نحو شاطئ نهر الوادي الكبير، وعبرت أحد الجسور السبعة الجديدة التي تربط المدينة بجزيرة لاكارتوخا، كل شيء مقلوب رأسا على عقب، الكراكات والرافعات وقلابات الأتربة والمسلح تسير في كل اتجاه ما أن اقتربنا من البوابة الحديدية حتى طالعتنا وجوه عليها علامات الحزم، كان رجال البوليس يفتشون السيارات، طلبوا الاطلاع على بطاقتي الصحافية ثم قارنوا الاسم بقائمة الصحافيين، 250 صحافيا من جميع أنحاء العالم كانوا اليوم على موعد مع المفوض العام للمعرض العالمي "اكسبو 92" السنيور كاسيونيو، وبعد أن سمحوا للسيارة بالمرور اخترقنا أكواما من الأتربة، وفي كل اتجاه دعامات وقوائم حديدية، المشهد لا يدل على أن افتتاح المعرض سيتم خلال أسابيع قليلة، ودارت في رأسي أسئلة كثيرة، مؤكد أنها ستجد إجاباتها في المركز الصحافي المؤقت.

بعد قليل تقدمت فتاة ضئيلة الحجم ترتدي زيا خاصا وتحمل على صدرها بطاقة "مضيفة صحافية" بعد أن تفحصت أوراقي قالت إن اسمها كارمن، وإنها سترافقني في جولة بأرض الجزيرة وستقدم لي شرحا وافيا، تطلعت من حولي، فوجدت غابة من الصواري تحمل أعلام الدول المشاركة في المعرض العالمي، وعلى مدى البصر عمال يتحركون في كل اتجاه، انتزعتني كارمن من تأملي لتدعوني إلى سيارة كهربائية مكشوفة مثل تلك السيارات الصغيرة التي يستخدمها لاعبو الغولف، كانت نسمات الصباح الباردة تهب من اتجاه نهر الوادي الكبير، ولكنها أكدت أنه خلال ساعات قليلة سترتفع درجة الحرارة إلى معدلها العادي 15 درجة مئوية، سألتها عن مدة الجولة، فأجابت بأنها حسب رغبتي وأنها يمكن أن تمتد طوال النهار، لكنها ذكرتني بالمؤتمر الصحافي الذي سيعقده المفوض العام للمعرض في الثانية ظهرا لشرح آخر تطورات العمل في الجزيرة.

وجزيرة لاكارتوخا تقع على مساحة 500 هكتار يحتل المعرض منها 215 هكتارا، ويقطعها طريق بطول 2,3 كيلو متر، وتضم 300 ألف متر مربع من الحدائق العامة التي غرست بما يزيد على 350 ألف شجرة من أنواع مختلفة تزيد على الألف نوع وشكل، وإضافة بلى مساحة الأجنحة الخاصة بالدول والشركات فهناك 96 مطعما متكاملا و 70 مشربا و150 محلا تجاريا و 16 فرعا للبنوك المختلفة و 11 مكتب استعلامات و 200 شاشة استعلامات إليكترونية، إضافة إلى محطات إطفاء ومراكز للبوليس والحراسة ونقاط إسعاف سريعة، كلها لخدمة 250 ألف زائر يوميا وعلى مدى 17 ساعة يفتح فيها المعرض أبوابه أمام الجمهور.

وتشارك 112 دولة بأجنحة خاصة بها، إضافة إلى 24 منظمة دولية، و17 جناحا لأقاليم ومقاطعات إسبانيا المختلفة وعدد كبير من الشركات الكبرى الدولية والوطنية، وهذه الأجنحة تقوم على مساحة 420 ألف متر مربع تحيط بها 26 ألف متر مربع من البحيرات والقنوات المائية الهدف منها تلطيف درجة الحرارة الصيفية في فترة المعرض.

وتتم تغذية أرض المعارض بالكهرباء عن طريق محطتين تعملان بالتبادل، إضافة إلى أجهزة إليكترونية لمراقبة التيار الكهربائي تقوم بتبديل التيار من محطة إلى أخرى في حالة إصابة إحداهما بعطل فني مفاجئ. وهناك شبكة من الغاز الطبيعي تمتد تحت الأرض لتغطي جميع النقاط التي تستخدم هذه الطاقة. وللخدمات الإعلامية أقامت إدارة المعرض مركزا صحافيا ضخما مجهزا بأحدث وسائل الاتصال للبث التليفزيوني المباشر عبر الأقمار الصناعية، إضافة إلى سنترالين يضمان عشرة آلاف خط تليفوني، ويمكن أن تزداد إلى أربعين ألف خط، إضافة إلى شبكة حديثة للبث بالصوت والرموز الرقمية.

وأول ما يشاهده الزائر هو تمثال الطائر الذي اتخذ رمزا للمعرض العالمي "إكسبو 92 لما ويطلق عليه اسم "كورو" وهو طائر له قدما فيل وعلى رأسه سبع ريشات بألوان قوس قزح.

اكتشاف أمريكا: المحور والأطراف

وتمرق بنا السيارة الكهربائية عبر طريق أسفلتي تحيط به الأشجار القصيرة حديثة العهد بأرض الجزيرة يقع فيه الجزء الأكثر اكتمالا من الناحية المعمارية الخارجية، ويضم أجنحة خاصة يطلق عليها أجنحة الاكتشاف، أولها يضم معرضا عن "العالم قبل اكتشاف أمريكا" يليه جناح "تأثير الاكتشاف" ثم ينتهي بالجناح الثالث "المستقبل". وتقول كارمن إن هذه الأجنحة ستعرض هذه الموضوعات باستخدام أحدث ما توصلت إليه تكنولوجيا العرض، حيث لا يقف الزائر متفرحا، بل سيجد نفسه مشاركا في العرض ويدخل جزءًا فيه، ويتنقل مع التاريخ لحظة بلحظة، وفي هذا العرض سيمثل الدير القديم فنون العالم قبل عام 1492، ويضم عرضا عن حياة الشعوب في فترة ما قبل الاكتشاف. ولذلك ستكون ديكورات هذا الجناح جزءا من العرض ليعيش المشاهد موضوع العرض بكل تفاصيله. وهكذا سيكون الأمر بالنسبة للأجنحة الأخرى التي تمثل هذا الجانب من المعرض العالمي "إكسبو 92".

بينما لا يعرف أحد على وجه التقريب ما يمكن أن تضمه أجنحة الدول والمنظمات العالمية والمؤسسات، وممنوع على أي شخص أن يدخل أي جناح حتى يوم الافتتاح في العشرين من إبريل 1992، بل إن بعض الدول تعتبر موضوع الجناح وديكوراته من الأسرار الخاصة جدا والتي لا يمكن الإفصاح عنها، مثل جناح الولايات المتحدة الذي يضع حراسة خاصة ولا يسمح ولو بمجرد الاقتراب من البوابة الخارجية والتصوير ممنوع.

وفيما تتجمع أجنحة دول أمريكا اللاتينية معًا، فإن مجموعة الدول الأوربية تفرقت، ولكنها خصصت طريقا يقع في وسط الجزيرة يطلق عليه اسم المجموعة الأوربية وعلى جانبيه 12 برجا بارتفاع 30 مترا وهي عبارة عن هوايات عالية تقوم بما يشبه عمل جهاز تكييف الهواء، وليست هذه التكييفات الهوائية الأولى من نوعها في أرض المعارض، بل إن هناك كرة ضخمة يطلق عليها اسم "لا إسفيرا" تمت صناعتها بأحدث تكنولوجيا تكييف الهواء لترطب حرارة الهواء في محيط دائري يزيد على 500 متر، وذلك عن طريق إطلاق ذرات مائية صغيرة جدا لا ترى بالعين المجردة وتستردها مرة أخرى، فتسهم بذلك في خلق مساحة من الهواء الرطب في أوقات ارتفاع درجة الحرارة.

المشاركة العربية

أما الدول العربية المشاركة في المعرض فقد تجمعت على جانبي الطريق الخامس، حيث توجد أجنحة الكويت والمغرب وعمان وجامعة الدول العربية وتقابلها أجنحة مصر وسوريا والأردن في مبنى واحد، أعدته إدارة المعرض عندما علمت بعدم وجود ميزانيات لمعرضي مصر وسوريا، بل إن إدارة المعرض قررت أن تقوم بتنفيذ ديكورات جناح مصر مقابل السماح بعرض بعض القطع الأثرية المصرية النادرة اجتذابا للزائرين. في أثناء زيارتنا كان العمال يقومون بإنهاء الطابق الخرساني من جناح الكويت، والذي سيستخدم كقاعدة للطابق العلوي المتحرك، بينما الجناح المغربي وكذلك العماني قد انتهى بناؤهما الخارجي وتجري فيهما أعمال الديكور الداخلي.

أما الجناح السعودي فقد ابتعد قليلا عن الأجنحة العربية نظرا لضخامة حجمه، وتقول المرافقة الصحافية إنه من المتوقع أن يكون الجناح السعودي من أبرز الأجنحة في الجانب الذي أقيم فيه، وأكدت أنه لا يعلم أحد ما يمكن أن يعرض فيه لأن محتوياته لا يعرفها إلا المفوض العام للمعرض.

ومن أجمل الأبنية الخارجية للأجنحة الأجنبية يبدو جناح المجر الذي بني علي هيئة طائر خشبي على ظهره سبعة أبراج على هيئة مسلات، وهو من الخشب وتمت صناعته في المجر ويقوم على تجهيزه عمال مجريون، وفي داخله شجرة ضخمة تم جلبها من المجر وهو الجناح الوحيد الذي سمح لنا بالاقتراب منه والدخول إليه لمشاهدة الديكور الداخلي.

برامج فنية وترفيهية

إسبانيا عقلية مختلفة عن باقي دول أوربا، لذلك فإن إدارة المعرض تريد أن تكون أشبيلية مركز العالم طوال فترة العرض، إضافة إلى أن إسبانيا دولة سياحية من الطراز الأول، لذلك فقد أعدت منظمة المعرض برامج ترفيهية وفنية لجذب مختلف الأذواق والعقليات البشرية، فقد أعدت الإدارة 21 مسرحا مفتوحا سوف تقدم 55 ألف عرض فني مختلف من الأوبرا والموسيقى السيمفونية إلى المسرح الكلاسيكي وموسيقى الجاز والروك آند رول والاستعراضات الفولكلورية التي تقدم فولكلور شعوب إسبانيا المختلفة ويشارك في كل هذه التظاهرة الفنية أكثر من 50 ألف فنان.

والليل في جزيرة لاكارتوخا ستكون له مكانة خاصة في هذه الأنشطة الفنية التي تمتد حتى الفجر، فقد أعدت إدارة المعرض مهرجانا خاصا للصوت والضوء يشارك فيه أكثر من 300 فنان ينطلقون في موكب عربات تجرها الخيول ومزينة بالأضواء والزهور، يسير الموكب في شوارع أرض المعارض ليعلن بداية ليل المعرض أو كما يطلق عليه المفوض العام السنيور كاسينيو "إكسبو نوتشي" ويؤكد أن ليل أشبيلية الرطب سوف يساعد الزائرين على الاستمتاع بالطقوس الاحتفالية للمعرض. إضافة إلى أن قاعات السينما في الهواء الطلق والمسارح سوف تجذب الرواد، فيمر الوقت ويشرق فجر اليوم التالي والجميع مستمتعون.

حكاية مدينة أشبيلية التاريخية تختلف كثيرا عن الأساطير التي حاكتها أغنيات أشهر مطربي المدينة قديما وحديثا، فهناك من يعهد بتاريخها إلى هرقل والقرطاجيين وهناك من يعزو فضل بنائها إلى العهد الروماني، أو كما يقول أشهر مطربي الفلامنكو رودريغو كارو:

" آه أيتها الأسطورة
آه أيها الألم،
مما تراه العيون
حقول وحيدة، صامتة حزينة
كانت يوما إتياليكا الشهيرة"

فيعود بأهل أشبيلية إلى أسطورة قديمة تشير إلى قيام مدينة رومانية يطلق عليها اسم "إيتاليكا" والتي يقول الفنان الأشبيلي المعاصر خوليو رومير، إنها كانت تقع إلى الشمال من أشبيلية الحالية والتي كشف الأثريون عن بعض أجزائها على بعد ثمانية كيلو مترات من نهر الوادي الكبير.

أشبيلية الشجن التاريخي العربي

لكن المؤكد أن مدينة أشبيلية بلغت قمة مجدها وعظمتها على عهد الملك الشاعر "المعتمد بن عباد" الذي أقام فيها الحدائق والقصور التي تقع اليوم إلى جنوب مئذنة الخيرالدا الشهيرة، والتي يطلق عليها اسم "رياليس الكاثاريس". أي القصور الملكية.

وأبناء أشبيلية المعاصرون لاينكرون فضل المعتمد بن عباد، وأعربوا عن امتنانهم له بإقامة "عمود" مرمري في حدائق القصر الملكي لإحياء ذكراه المئوية التاسعة عام 1991 وقد كتبوا عليه باللغة الإسبانية:

"من مدينة أشبيلي إلى مليكها المعتمد بن عباد في ذكراه المئوية التاسعة ... 7 سبتمبر 1091- رجب 384 هجرية.
أشبيلية 1991"

وتعتبر القصور الملكية من أفخم المباني التي خلفتها دولة الموحدين في المدينة، وأقام فيها الملوك الكاثوليك بعد سقوط الأندلس في أيديهم وحافظوا على عمارتها، ورغم تعصبهم الديني ضد الإسلام في ذلك الوقت، إلا أنهم حافظوا على الآيات القرآنية الكريمة التي زينت جدران وأعمدة وأسقف القصور، بل إنهم عندما فكروا في توسيع هذه القصور استقدموا البنائين العرب المسلمين الذين زينوا جدران القصور الجديدة بالزخارف والآيات القرآنية ذاتها.

مدينة الجن

أما المدينة العربية القديم التي يطلق عليها اليوم اسم حي "سانتا كروث" وتعتبر من أنظف وأجمل المدن في العالم، وقبل الدخول إلى هذا الحي لابد من المرور على مئذنة الخيرالدا، ذلك البناء العجيب الذي تدور حوله الأساطير أكثر من الحقائق مثل كل شيء في تلك المدينة الساحرة التي يقول عنها خوسيه مانويل أو "مانولو" كما يطلقون عليه وهو أقدم "عربجي" يقود عربته التي يجرها حصان عربي أصيل إنها مدينة بناها الجن وسكنها العرب. وعندما أخبرته أن التاريخ يقول إن تلك المئذنة قد بدأ بناؤها عام 712 في ظل الحكم العربي وإن مصممها هو معماري عربي عاش في مدينة أشبيلية اسمه جعفر ويطلق عليه آخرون اسم ابن يعقوب يوسف، وإن الملك العربي عهد بالإشراف على البناء إلى شاعر معروف اسمه "أبوبكر" ابتسم مانولو وقال: ألم أقل لك إن من بناها جني، ألا تعرف أن الجني هو قرين الشاعر. والحقيقة أن من يرى هذا البناء العجيب لا يستطيع أن يجد تفسير السبب البناء ولا المهمة التي يمكن ان تؤديها " الخيرالدا " سوى إبراز عظمة الحاكم وعصره تماما كما يبدع الشاعر بيتا من الشعر يتباهى به على غيره من أقرانه الشعراء.

والصعود إلى قمة الخيرالدا يتم عن طريق دائري يبدأ من أسفلها وينتهي عند قمتها، وهو منحدر مستدير لا توجد به سلالم ولا درجات، ويقال إن المؤذن الذي كان يصعد إلى قمتها كان يمتطي جوادا ليصعد به، وبعد أن ينتهي من أداء مهمته الدينية يهبط به من جديد. فارتفاع برج الخيرالدا يبلغ 250 قدما (93 مترا) وكان قديما ينتهي بأربع كرات تقف على أركانه الأربعة، أضاف إليها "هيرنان رويث" أربعة تماثيل تمثل عصر النهضة، وذلك عام 1568 قربانا كان قد نذره، إضافة بلى وضع قطعة متحركة على قمة المئذنة تدور مع الريح، مما أعطاها اسمها الحالي "الخيرالدا" أي التي تدور.

شاهد على التاريخ

وتعتبر مئذنة الخيرالدا علامة من علامات أشبيلية ونظرا لارتفاعها يمكن مشاهدتها من أي ركن من آركان المدينة العريقة، وعمارتها لها تأثير قوي على العمارة في أنحاء المنطقة، لأنها أصبحت الملهم لكل عباقرة العمارة في مختلف العصور وتأثيرها على العمارة الحديثة في أشبيلية لا ينكر.

والملوك الكاثوليك لم يحاولوا هدم هذه المئذنة الرائعة بل استغلوا وجودها ليقيموا إلى جوارها أكبر كاتدرائية في إسبانيا. ويؤكد مانولو في خبث أن الملوك الكاثوليك عندما عجزوا عن هدمها قرروا منافستها بالكاتدرائية، ويحمد الله أنهم أصيبوا بهذه اللوثة في المماثلة لا الهدم، وإلا لكانوا حرمونا من رؤية هذا الأثر الإسلامي العظيم.

تركت الخيرالدا من خلفي والقصور الملكية عن يميني وتوغلت في الحي العربي القديم، الشوارع ضيقة وبلا أرصفة، وبالكاد تسمح لمرور سيارة صغيرة، لذلك فإن أكثر شوارعها بلا ضجيج ولفت انتباهي الهدوء العجيب الذي تنعم به هذه الشوارع نهارًا، فكان يصل إلى سمعي خرير المياه المتساقطة، سألت صاحب حانوت صغير في أحد هذه الشوارع عن صوت الماء المتساقط فقال: إنها النوافير في الأفنية الداخلية.

لا يخلو بيت واحد من نافورة ماء في فنائه الداخلي، وقفت أمام بوابة حديدية صغيرة أتنصت على صوت الماء المتساقط فشاهدت امرأة في خريف العمر تجلس في الفناء الداخلي، أشارت بما معناه أن الباب مفتوح، دفعته، وحاولت هى أن تتفاهم معى بالإشارات، بما يعني أنه يمكنني أن اتجول في الفناء والتقط ما أشاء من الصور، يبدو أنها اعتادت على فضول السائحين، أخبرتها أنني أفهم اللغة الإسبانية فسألتني باللهجة الأندلسية عن جنسيتي، فأجبت محاولا تقليد تلك اللهجة المحببة التي تقلب حرفي " السين" و"الخاء" إلى "هاء" قوية وقلت إننى عربي. ابتسمت وقالت: أنت لست غريبا عن هذه الجدران. وكعادة الإسبان بدأت تقص حكايات أعلم تماما أنها غير صحيحة، فقد أكدت أن جدة لها قصت حكايات عاشتها في زمن "العرب" أو " المورو" كما يطلق علينا أبناء إسبانيا اليوم، وعندما حاولت أن أخبرها بأدب بأن أكثر من خمسة قرون مرت منذ أن غادر العرب بلاد الأندلس، كانت إجابتها قاطعة: القرن يمر في غمضة عين.

بقايا المجد العربي

تطلعت من حولي فوجدت الجدران لا تزال تحمل نقوشا عربية منقولة بأشكالها التجريدية المعروفة في القصور والمساجد العربية القديمة، وأكثرها يكرر جملة "لا غالب إلا الله". هدوء الشوارع يملأ القلوب طمأنينة غريبة، وخرير الماء ينساب إلى القلوب ويروي الروح العطشى في عالم فقد الهدوء، حقا إنها الأندلس قرينة الجنة في الأشعار العربية.

شوارع الحي القديم مشبعة بعبق الماضي، فهذا اسمه طريق المورو "العربي" وذاك اسمه " المجد" إنها أسماء لا تزال تحافظ على التاريخ اسما، وبعضها ما زال يحفظ لملوك الموحدين عظمتهم، اعترافا بمجد أشبيلية في زمانهم، وقليل امتدت إليه يد التغيير، ويقال إن أبناء أشبيلية أفاقوا من الفتح المسيحي ليعترفوا بعظمة أشبيلية الأندلسية التي كانت عاصمة الملك، وتحولت في زمن المسيحية إلى مدينة إقليمية صغيرة.

التعمق في شوارع الحي القديم هو انتقال إلى عالم لا ينتمي إلى الحقيقة، إنه خيال، عالم من الهدوء والرهبة متعة للأذن والعين والإحساس، بل إنها متعة للحواس جميعا. شوارع ضيقة ملتوية، نظافة فائقة، رائحة الزهور تخترق الحواس إلى الروح، الجدران مغطاة بطبقة كلسية بيضاء ناصعة تنتشر على رقعتها النوافذ والشرفات الصغيرة بألوانها الخضراء، والزهور تتدلى منها بألوان وأشكال رائعة، إنها سيمفونية بصرية رائعة، يلعب فيها نغم الياسمين الدور الرئيسي، إنه ملك الزهور في أشبيلية.

ما أجمل أن تترك نفسك تهيم في تلك الشوارع، لا تنظر إلى خارطة أو تسأل عن الطريق، الانزلاق صعودا وهبوطا متعة لا تتاح كثيرا في مدن مثل أشبيلية، فمن حارة الماء إلى شارع الفلفل، إلى ميدان السيدة ألبيره، الواجهات بيضاء حقا ولكن إطارات الأبواب والنوافذ من السيراميك المزين بالرسوم الهندسية العربية، ومن وقت لآخر تجد من يحاول أن يتذكر التاريخ، وأبرز هؤلاء الفنان "أماليو" الذي كتب بالإسبانية والعربية والعبرية على البيت الذي يتخذه مرسما له: "هذا البيت أقيم قربانا للخيرالدا العظيمة" إنهم يعيشون ذكريات التاريخ بعد أن عجزوا عن استعادته، مثلنا نحن العرب.

الوادي الكبير: نهر الذكريات

حاولت الهروب من الذكريات فاتجهت إلى شاطئ نهر الوادي الكبير لتواجهني ذكريات أكثر حضورا، رأيته يسير في هدوء ظاهري لكنه يطوي ماءه على قرون كان فيها عربيا اسما ومضمونا، لكنه يبدو سعيدا باحتفاظه باسمه "الوادي الكبير" أو كما ينطقه الإسبان المعاصرون "غواد الكبير" إنه لن يتخلى عن اسمه كما تخلى عنه العرب وتركوا شواطئه الغناء وهربوا عائدين إلى الصحراء، بل يفخر أنه صار علما وملهما لشعراء إسبانيا المعاصرين، لوركا، ما تشادو، خيراردو دييغو، إنه أسطورة هؤلاء الشعراء وذاكرة تاريخهم العريق.

جلست على شاطئه أتأمل تلك الجنان التي ضاعت من أجدادنا، أو قل ضيعوها، حاولت أن أعيش لحظات مع ذلك الماضي، أصابني الدوار من أحداث التاريخ، وقعت عيناي على الطرف الآخر من الشاطئ، شاهدت "برج الذهب" يلمع تحت شفق الشمس الغاربة وهي تلقي عليه بآخر أشعة النهار، فتحوله إلى مشهد دموي، وكأنها تعيد عليه المشاهد التي شهد فيها قبل قرون القتال الدامي بين المسلمين والمسيحيين من أجل البقاء والسيطرة. فقد كان برج الذهب يقف في مقابل آخر مماثل له على الشاطئ القريب من المدينة، ولا يعرف أحد من الذي بناهما، لكن المؤكد أن المؤكد أن الموحدين قاموا بتقويتهما في القرن الثالث عشر، وكانت ترتبط البرجين سلسة حديدة ضخمة تمنع السفن من المرور ليلا في مهر الوادي الكبير، لحماية المدينة من التسلل عبر النهر. ويقال إن إطلاق اسم برج الذهب جاء من أنه كان مغطى بطبقة من السيراميك المذهب، وهناك قصص أخرى أسطورية تربط هذا الاسم بأحداث أقرب إلى العصر المسيحي، فيقال إنه بعد فتح أمريكا، كانت السفن المحملة بالذهب تفرغ حمولتها فيه، وكان ملوك إسبانيا يستخدمونه كمخزن للذهب الذي نهبوه من بلاد العالم الجديد.

لكن المؤكد أن برج الذهب ظل شاهدا على معارك دامية سقط فيها الآلاف دفاعاً عنه وللاحتفاظ به، إلى أن استطاع الملك الكاثوليكي فرناندو فتح أشبيلية، فتحول منذ ذلك الوقت إلى شاهد أخرس، مصدر وحي وإلهام للعديد من عباقرة الشعراء، وأبرز ما قيل فيه، تلك الأبيات التي خلدها خيرارد ودييغو:

"رملة أشبيلية،
برج الذهب
قيشاني على شاطئ
النهر العربي"

كانت لحظات عميقة من التأمل في تاريخ هذا النهر وذلك البرج،أفقت منها على صوت آلة تصوير يابانية بين يدي رجل قصير القامة، وقف في صمت ليلتقط صورا تذكارية لزوجته في لحظة الغروب، مستخدماً برج الذهب خلفية وشاهدا على مجد زال ولن يعود.