مثلث عربي بلا أضلاع

مثلث عربي بلا أضلاع
        

          العلم, والتكنولوجيا, وإرادة المجتمع لإعلاء شأنيهما, ثلاثة أضلاع رآها العالم العربي الفذ أحمد زويل من لوازم تكوين المثلث الضروري لتحقيق نهضة علمية ومن ثم اقتصادية وسياسية وثقافية. وهي رؤية جديرة بالعرض والمناقشة, خاصة أن هناك فريقين متعارضين حيال هذه الرؤية, أحدهما بالغ التشاؤم ينكر كل إمكانية لبناء هذه الأضلاع من واقع عالمنا العربي المتردي, والآخر لديه بعض التفاؤل يرى أن بناء هذه الأضلاع ليس من المستحيلات لو بدأنا بإرادة وجدية ووفق شروط مناسبة. أما الفريق الثالث الذي يرى أن أحوالنا العربية في هذا الشأن هي على ما يرام, وليس في الإمكان أحسن مما كان, فهو فريق لم يعد جديرًا بأي مناقشة.

  • أخطر ما يعيق النهوض العلمي هو عدم تفهّم المجتمع للعائد الحضاري الضخم من استثمار العلم والتكنولوجيا
  • إسهام الدول العربية في البحث العلمي العالمي يتراوح بين صفر و3 من الألف, وبإجمالي 3 من عشرة آلاف!
  • التعليم المبدع والناقد في جو من الحرية, واستقلال البحث العلمي وحمايته من التعصب والبيروقراطية, من أولويات النهوض

          منذ شهور قليلة حدثت في عالم النشر العربي ظاهرة مدهشة, فقد نشرت دار الشروق في القاهرة كتابًا سرعان ما تبخرت جميع نسخ طبعته الأولى خلال ساعات من طرحها, وعندما طلبت الحصول على نسخة من هذا الكتاب كان عليَّ أن أنتظر أسبوعين حتى تظهر الطبعة الثانية وتصل النسخة المطلوبة إلى الكويت.

          لم يكن الكتاب أحد كتب الفضائح السياسية أو الاجتماعية الرائجة في هذا الزمن, بل كان كتابًا يحمل عنوانًا غير تجاري - بمنطق هذه الأيام - هو (عصر العلم), أما الكاتب فكان الدكتور أحمد زويل العالم العربي الذي فاز بجائزة نوبل عن جدارة شهد بها العالم.

          قد يكون لاسم صاحب الكتاب دخل في هذا الرواج الذي افتقدته الكتب العربية طويلاً, لكن هذا لا يمكن أن يكون كل الحقيقة. فالحقيقة كاملة يمكن العثور عليها عبر صفحات هذا الكتاب الذي يثير قضية من أخطر قضايا الوجود العربي, في الحاضر والمستقبل, وبأسلوب بسيط ودقيق وواضح ومحبب, كشخصية الدكتور زويل نفسه الذي لاحظت حضوره الآسر في لقاء على مأدبة عشاء جمعتنا منذ فترة.

          وتبقى ملاحظة شكلية, لكنها ذات دلالة, فهذا الكتاب ينهج نهج تأليف الكتب في العالم الحديث, حيث يوجد محرّر صحفي محترف - هو الكاتب أحمد المسلماني - يقف وراء المؤلف, لا ليعيد تشكيل أفكاره وأسلوبه, بل ليصون هذه الأفكار ويحافظ على هذا الأسلوب, وفق تقاليد مهنية احترافية لا تقلل أبدًا من أصالة تأليف الكتاب ولا تخفي شخصية صاحبه, وهذا تقليد متبع مع مؤلفين وأدباء كبار في الغرب, وهو تأكيد على احترام المهنية العالية في النشر, واحترام المؤلف والقارئ معا.

          يتكون الكتاب من جزأين أولهما عن رحلة الدكتور زويل منذ نشأته حتى حصوله على جائزة نوبل, وهو سيرة مفعمة بالدلالات العامة والرسائل المدمجة فيما هو خاص ويمكن أن يكون عامًا في الوقت ذاته. أما الجزء الثاني والمكون من نصوص محاضرات ومقالات وحوارات للكاتب في أوقات مختلفة, فهو الجزء الذي يوضح بجلاء أن الدكتور زويل ليس مجرد عالم فذ منغلق على تخصصه العلمي شأن كثير من العلماء, بل هو مفكر عصري صاحب رؤية حضارية تشمل العالم الواسع, وتركز بإخلاص ووفاء على نداء النهوض بعالمنا العربي علميًا في عصر يراه الدكتور زويل عصرًا للعلم, وهو أمر جدير بالعرض المسهب وبعض المناقشة.

ملامح عصر

          لم يعد خافيًا عن أي راصد يتابع أخبار العالم وما وراء هذه الأخبار, حربًا وسلمًا, أن العِلم والتكنولوجيا صارا المكونين الحقيقيين للقوى التي تشكل الوضع العالمي الجديد في هذا القرن, وفي هذا القرن صارت المجتمعات المبنية على العلم تحصد نصيب الأسد من الوضع الاقتصادي العالمي.

          ويمكن أن يتساءل البعض عن شكل العلاقة بين العلم والاقتصاد, والإجابة ببساطة وحسم - كما يسوقها الدكتور زويل في كتابه - هي أن مساهمة الولايات المتحدة في إجمالي ناتج الاقتصاد العالمي تتراوح بين 30و40% وهي نسبة قابلة للمقارنة مع حصتها في الناتج العلمي, كما أن إجمالي الناتج الاقتصادي في أوربا يشكل النسبة نفسها, ومثل الولايات المتحدة فإن مسار أوربا الاقتصادي يوازي مساهمتها في المجالات العلمية والتكنولوجية, إن هذا التوازي والترابط ليس وليد الصدفة. وخلال السنوات الخمسين المقبلة ستستأثر المجتمعات القائمة على المعرفة والمهارات العلمية والتكنولوجية بحصة كبرى من السوق ودور فعال في العالم. وفي المقابل, واستنادًا إلى البيانات المتوافرة عن الحالة الراهنة للعالم العربي, يبدو المستقبل قاتمًا إذا لم تحدث فيه نهضة, ونهضة علمية على وجه التحديد. فمن دون العلم والتكنولوجيا لا يستطيع العرب المساهمة في بحوث العالم الحديث التي تشكل الوضع المستقبلي بكل تداعياته, حربًا وسلمًا, واقتصادًا وسياسة, في مجالات كـ(الخلايا الجذعية), و(محركات الطاقة المتجددة), و(تسلسل الجينوم البشري), و(الذكاء الاصطناعي), و(تحوير المادة), و(الطب الجزيئي), و(عالم الكونيات), وغير ذلك مما تزخر به ترسانة العلوم الجديدة وتطبيقاتها. كما أن العرب من دون العلم والتكنولوجيا, لا يستطيعون المساهمة بفعالية في السوق العالمي في التكنولوجيا مثل الإلكترونيات الدقيقة, والمعلومات والاتصالات, والمواد الجديدة, والتطورات الثورية التي تتم في مضمار التكنولوجيا الحيوية.

          وهذه كلها لم تعد مجرد مبتكرات تمنح أصحابها التميز المعنوي, بل صارت استثمارات اقتصادية جبارة لها عوائد هائلة في رفاهية المجتمعات التي تمتلك أسرارها وفي منح هذه المجتمعات قوة ومكانة في عالم اليوم من كل زواياه, المدنية والعسكرية, المعيشية والثقافية, المادية والمعنوية, وفي كل مناشط الحياة.

أين نحن من هذا العصر?

          من المؤكد أن الوضع العلمي للعالم العربي - في رأي الدكتور زويل ورأي أي مراقب منصف يتابع ما يحدث في العالم في هذا المجال - لم يعد وضعًا مقبولاً. ذلك أن العالم العربي قد بات في أدنى درجات السلّم الدولي للعلوم, ولا تُقارن إسهاماته بأي إسهام لمنطقة أخرى فاعلة في العالم.

          فنسبة الأمية تزيد على 50% وتزيد النسبة بين النساء إلى أكثر من 60% في بعض البلدان وهي من أعلى النسب في العالم. ولقد أوضح الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان أخيرًا أن 95% من العلم الحديث في العالم موجود في مجتمعات تشكل 20% من سكانه, وهي مجتمعات يمكننا أن نتصور بديهيًا أن عالمنا العربي يقع خارجها بهذه النسبة المخيفة من الأميّة.

          ووفقًا لمعهد المعلومات العلمية, بلغ مجموع الأوراق العلمية التي نُشرت في كل أنحاء العالم خلال السنوات الخمس الأخيرة 3.5 مليون ورقة كان توزيعها بالنسب المئوية كما يلي: الاتحاد الأوربي 37%, والولايات المتحدة الأمريكية 34%, ودول آسيا المحيط الهادئ 21%, والهند 2.2%, وإسرائيل 1.3%. أما مساهمة العالم العربي الذي يبلغ مجموع سكانه 280 مليون نسمة فهي تتراوح بين صفر%, و0.3% وبمجموع 0.03% في معظم البلدان. وإذا قورنت هذه الأرقام بغيرها من دول أخرى, نجد أن وضعنا في مجال العلم والتكنولوجيا أصبح يماثل وضع أنجولا ونيكاراجوا والصومال كما يذهب الدكتور زويل في كتابه. وهو أمر منطقي إذا كان بيننا من يحصل على الصفر, وإذا كنا مجتمعين لا نحصل على أكثر من ثلاثة من مائة في المائة, وهي نسبة مخجلة مقارنة بمن هم أدنى منّا عددًا وعدة!

إما أن ندخل أو نخرج إلى العراء

          عن العلاقة الوثيقة بين حالة العلم والتكنولوجيا والتقدم الاقتصادي والرخاء في العالم يذكّر الدكتور زويل بأمور ثلاثة:

          1 - تنتج أمريكا 34% من مجموع الأبحاث العلمية والتكنولوجية في العالم وتتراوح نسبة مساهمتها في الاقتصاد العالمي بين 30و40%.

          2 - ترتقي البلدان النامية إلى مصاف الدول المتقدمة بفضل استثمارها في العلم والتكنولوجيا (بما في ذلك التعليم). وقد حصلت زيادة هائلة في عدد الأبحاث العلمية والتكنولوجية التي نُشرت في دول جنوب شرق آسيا خلال السنوات العشر الأخيرة.

          3 - العالم العربي غني لكنه ليس متقدمًا, إذ تتوافر لديه الموارد والسلع, لكنه لا يملك قاعدة علمية وتكنولوجية متينة لتوليد المعارف الجديدة.

          إن تكنولوجيا القرن الواحد والعشرين قائمة على المعرفة, وبالنسبة للعمالة الرخيصة غير المؤهلة والتي كانت تعمل في الدول النامية في الماضي فلن تجد لها عملا فعالاً في آفاق هذا القرن. الكمبيوترات الصغيرة, الهندسة الوراثية, التكنولوجيا الحيوية, تكنولوجيا المعلومات, وتكنولوجيا الفمتو متناهية الصغر من حيث الزمن, وتكنولوجيا النانو متناهية الصغر من حيث الحجم, كيف يمكن للدول النامية أن تستوعب تكنولوجيا التحول الاقتصادي دون مؤسسة علمية قوية? هل العالم النامي دائمًا عليه أن ينتظر عقودًا قبل المشاركة في العلم والتكنولوجيا العالمية? هل باستطاعة الأمم النامية أن تصبح جزءًا من العالم الحديث دون أن تفقد هويتها? يتساءل زويل, ويستطرد كأنما يجيب: (إن القرن الجديد يعدنا بفرص غير محدودة في العلم والتكنولوجيا, وأعتقد أن العالم النامي يستطيع - بل يجب عليه - أن يكون شريكًا أو جزءًا من هذا التطور. وسوف تختلف لغة الحروب, فجرثومة واحدة صغيرة لا ترى بالعين المجردة كافية لتغيير الجينات البشرية, أي أن الأسلحة الثقيلة قد لا يكون لها مكان في المستقبل).

          إنه علم مختلف ينتظر وراء الباب, ولو لم نقطع الخطوة الأولى مبكرًا, فربما نتأخر كثيرًا, وقد ينغلق هذا الباب دوننا ونظل مستقبليًا في العراء. فهل من سبيل?

أعذار لم تعد مقبولة

          إنه لمن المدهش أن يبرر البعض ذلك التخلف  العلمي الشديد بنقص الموارد في العالم العربي, ولا يستطيع المراقب أن يفهم كيف يرى ذلك الثراء في الحياة اليومية للناس وذلك الاستخدام الواسع للسلع الاستهلاكية الحديثة تكنولوجيًا, ثم يجد ذلك الحديث الأيديولوجي الثابت والمكرر حول نقص الموارد.

          المؤكد أن العالم العربي يصنَّف من بين مناطق العالم الثرية أو غير الفقيرة, كما أن هناك دولاً تفتقد الموارد إلى حد كبير, وبعضها يفتقدها تمامًا لكنها أنجزت وتجاوزت فقر مواردها, ولعل المثالين الكوري والماليزي هما الأكثر حضورًا في هذا السياق, مما يجعل الحديث عن أسطورة نقص الموارد ضربًا من الاسترخاء.

          وثمة أسطورة أخرى حول أن التقدم العلمي يحتاج إلى قرون, وهي أسطورة لا تحتاج إلى جهد كبير للمناقشة, فالكثير من دول العالم المتقدم حققت انطلاقتها الراهنة في غضون سنوات أو عقود قليلة, وليس في خلال قرن أو نصف قرن. إن التجربة الماليزية, بقيادة مهاتير محمد, هي نتاج حوالي عشر سنوات. كما أن التجربة الصينية نفسها لا يزيد عمر تألقها وامتيازها على العشرين عامًا. وكوريا الجنوبية صعدت من التخلف إلى صدارة الصناعات في آسيا وإلى موقع بارز في العالم في غضون سنوات, وليست شركة سامسونج إلا نموذجًا لذلك الصعود القوي والسريع إلى حد المفاجأة, واليوم يعمل معهد كوريا للعلم والتكنولوجيا (كايست) في تطوير صناعة الإنسان الآلي ليسبق العالم.

          وفي الهند يندهش المرء من القلاع الصناعية العملاقة التي تنتج (السوفت وير) في بنجالور. وفي سنغافورة التي تخطو إلى أفق غير منظور, وفي سؤال من الدكتور زويل لأحد الوزراء هناك قال: إلى أين أنتم ذاهبون? وكان الرد:  (عندنا الآن الأسواق العالمية الرئيسية للإلكترونيات الدقيقة, وقد خصصنا (40) مليار دولار للتركيز على (البيوتكنولوجي) في السنوات العشر المقبلة, وتحاول سنغافورة عقد اتفاقية مع مراكز البحث العلمي المتقدم في (كالتك) و(م إي تي) لأجل هذه الأغراض).

          مثل هذه التجارب المضيئة تشكلت في سنوات. وأيضا عندما ننظر إلى تجربة إيرلندا الحالية نجد نهضة وتقدمًا. في حوالي عشر سنوات أصبحت إيرلندا, وعدد أفرادها 4 ملايين, من أكبر بلاد العالم تصديرًا للتكنولوجيا الحديثة.

          ومن هذه النماذج استخلص الدكتور زويل أن ادعاء نقص الموارد, والقول بأن النهضة العلمية تتطلب مدى زمنيًا طويلاً, ليسا إلا نوعًا من الأعذار التي لم تعد مقبولة إذا أردنا أن نلحق بغيرنا في مضمار التقدم العلمي. لكن هذا اللحاق لا يمكن أن يكون مجانيًا, فلابد له أن يرتبط بإرادة قوية وعمل جاد, وسط مناخ يدعم الابتكار وحرية الإبداع...كيف?

شروط ذاتية

          إن نقص القاعدة العلمية والتكنولوجية في أي دولة ليس دائمًا ناتجًا عن فقر المصادر أو الثروة البشرية, ولكنها أحيانًا تنبع من غياب الإرادة في تقدير الدور الحيوي, الذي تلعبه العلوم والتكنولوجيا في التنمية, فضلاً عن عدم وجود سياسة واضحة للتعرّف على الاحتياجات القومية الحقيقية, وبعض البلدان تعتبر التقدم العلمي مجرد رفاهية مقارنة بالاهتمامات الأخرى, والبعض الآخر يعتقد أن القاعدة العلمية يمكن أن تتوافر عن طريق شراء تكنولوجيا من الدول المتقدمة. مثل هذه المعتقدات تتحول وتترجم إلى تخلف أو على الأقل إلى تقدم ضعيف وبطيء.

          والعرب تتوافر لديهم الموارد البشرية والمادية اللازمة للنهوض بالعلم والتكنولوجيا, والشيء الأول الذي يفتقرون إليه في الوقت الراهن هو نظام منطقي وفكري واضح يلبي الاحتياجات الجماعية للسكان, ويقوم على أساس المعرفة والحرية, على اعتبار أن البشر يختصون بميزة التفكير. وبالتالي يجب إصلاح التعليم في كل مستوياته في العالم العربي لتحويله من عملية تلقين للمعلومات إلى عملية تعلم التلميذ كيفية تشغيل عقله بصورة ناقدة, وتوفر له خبرة عملية مباشرة.

          كما ينبغي إنشاء نظام قانوني جديد يعين بوضوح الحدود بين المجالات المدنية والثقافية, وينطبق على جميع المواطنين دون استثناء. وينبغي أن تكون الأهداف الرئيسية لهذا النظام ضمان حرية التفكير والقضاء على البيروقراطية, التي تعيق التقدم في جميع المجالات. والشعوب العربية لا تقل ذكاء وكفاءة عن شعوب جنوب شرق آسيا, وأعتقد أن الانتقال إلى مصاف الدول المتقدمة أمر ممكن, شريطة أن تعالج هذه القضايا بشكل فكري ومتناسق بروح الفريق. ويرتبط بإطلاق حرية الفكر, وتقليل حجم البيروقراطية, والقضاء على الفساد أو تقليصه وتطوير نظام من الحوافز والترقيات في إطار لوائح وقوانين متزنة وقابلة للتطبيق, ثم بناء قاعدة علمية تعمل على الاستثمار في الموهوبين, وإقامة مراكز للتميز وتلاحم المعرفة مع القاعدة الصناعية.

          إن الشعارات الجوفاء أو انتظار الدول المتقدمة لكي تحل المشاكل, أو حتى لوم شعوب العالم المتقدم بتكريس نظرية المؤامرة, لن يمد بالوسائل أو يسبب التطور. نعم للسياسة الدولية دور ولكن إرادة الشعوب أقوى من أي قوة, بشرط أن تكون متماسكة ولا تمزقها السياسات الداخلية وضعف العقيدة في النظام الوطني.

          إن الخيار أمام الدول المتقدمة واضح, والخيار أمام الدول النامية واضح أيضًا, فبالنسبة للدول النامية, يجب أولاً ترتيب البيت الداخلي والعمل على حيازة مكان في النظام العالمي, كما يجب بناء الثقة من أجل التحول إلى وضع الدول المتقدمة. التحول ممكن, والنموذج الماليزي الذي قاده مهاتير محمد يوضح الدور الخطير لنظام التعليم الجديد الذي تم تطبيقه, خلال التحول السريع لماليزيا من اقتصاد يعتمد على العمالة الرخيصة إلى اقتصاد قائم على المعرفة, ومساير لمعطيات العالم. إنه التحول الذي دفعه وموّله وجود الرؤية والإرادة.

          لقد ركز هذا الجزء من الكتاب على الإرادة والرؤية لدى المجتمعات التي نهضت, كأنما لينبه إلى خطورة وأولية هذه الإرادة في بناء مثلث النهوض العلمي, لكنه لم يترك الأمور خالية من روح الوضوح العملي الذي يتسم به, فأورد خطة موجزة لخطوات عملية تتوخى النهوض, هي:

          1- إنشاء نظام تعليمي جديد يرتكز على التفكير الناقد والمنطقي لإيجاد قوة عاملة متعلمة مؤهلة تتمتع بالمهارات, التي يتطلبها القرن الواحد والعشرون, وتلتزم بالأخلاق الاجتماعية وبالعمل الجماعي. وذلك أمر لا يمكن إنجازه دون تغيير وضع المعلمين وتحسين تعليمهم.

          2- إنشاء مراكز تفوق تكون في نفس مستوى نظيراتها في العالم المتقدم, وأن تركز على المجالات المهمة للمنطقة, والمشاركة العالمية, برؤية واضحة, ونظام مؤسسي, ولا ينبغي اعتبارها مشاريع تجارية.

          3- إنشاء صناعات جديدة تستند إلى العلم والتكنولوجيا المستحدثة والمتطورة محليًا, وتشجيع نقل التكنولوجيا, وإشراك الأجيال الجديدة في هذه الصناعات الجديدة التي يشارك فيها القطاع الخاص بلا معوقات بيروقراطية.

          4- إنشاء مؤسسة وطنية للعلم والتكنولوجيا لدعم البحث والتطوير على أساس التميز العلمي دون سواه, لمساعدة البلدان العربية في التعرف على أفضل الباحثين ودعمهم وتشجيع شتى المؤسسات على المشاركة الجادة في حل المشاكل الوطنية المهمة.

          5- إنشاء الأكاديمية العربية للعلوم لتضم أفضل الخبراء العلميين والتقنيين العرب, وتتيح لهم تبادل المعلومات والخبرات مع نظرائهم في شتى أنحاء العالم, لتكون بمنزلة بيت خبرة يقترح على الحكومات طرح حل المشاكل الوطنية, ولابد أن تتمتع الأكاديمية باستقلال كامل.

قبل فوات الأوان

          لقد أفردت أقصى ما تحتمله مقالة من تداخل النصوص, لأبيّن رؤية عالم عربي عالمي مهموم بشئون وشجون أمته الأصل والجذور, وبقدر وضوح هذه الرؤية وموضوعية التفاؤل فيها, إلا أن الواقع العربي من داخله يبدو أكثر إعتامًا, ومع ذلك, فالتفاؤل واجب استمرار وحياة, ومبادرة هذه الرؤية العالمة, هي جرس تنبيه وإنذار, يقول للعرب جميعًا ابدأوا قبل فوات الأوان, فالعلم والتكنولوجيا يقفزان في آفاق هذا العصر قفزات جبارة, والفجوة بيننا وبين غيرنا تتسع, ومن لا يشارك في هذه القفزات, سيظل في حضيض البشرية اقتصاديًا واجتماعيًا لأن العلم والتكنولوجيا باتا طريقًا إلى المكانة الدولية اقتصاديًا وسياسيًا, ولا توجد هناك أعذار حقيقية من قلة الموارد, أو ندرة اللائقين من البشر, والأخذ من الآخرين ممكن في إطار أخلاقيات التبادل التاريخي أو برجماتية تبادل المصالح. ولدينا الموارد والبشر والإسهام التاريخي, والكثير مما يمكن تبادله مع العالم. وتبقى إرادة النهوض.

 

سليمان إبراهيم العسكري