الاستنساخ البشري من وجهة نظر شرعية

الاستنساخ البشري من وجهة نظر شرعية

عندما أثيرت مسألة الاستنساخ بعد (دوللي) وتوجهت الأنظار نحو البشر.. بدأت الآراء تتوالى، وكان للشريعة والفقه الإسلامي رؤية وهذه محاولة لاستجلائها.

الأصل الذي يقوم عليه النظر الشرعي في المسائل أو النوازل المتجددة التي لم ترد نصا في كتاب الله ـ تعالى ـ أو سنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم تسبق لها نظائر تقاس عليها، هوالمصلحة الإنسانية، فقد استقر رأى فقهاء المسلمين جميعا أن الشريعة جاءت لحفظ مصالح العباد في حياتهم الدنيوية وحياتهم الأخروية. وهذه المصالح هي موضع رعاية الشرع واعتداده بمستوياتها المختلفة: الضرورية والحاجية والتحسينية، أي ما كان منها ضروريا لقيام الحياة الإنسانية واستمرارها، أو لازما لتيسيرها ودفع المشقة والحرج عن سبيلها، أو مؤديا إلى تجميلها وتكميلها. وتتمثل المصالح الضرورية فيما عرف بالمقاصد الشرعية الخمسة. حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال. وهي أمور تتوقف عليها حياة الناس ـ من وجهة النظر الشرعية ـ في دنياهم وفي أخراهم على حد سواء، بحيث لو فقدت كلها أو بعضها اختلت حياة البشر في الدنيا، وفاتهم النعيم والسعادة في الآخرة أو اكتمالها.وهذا الأصل قد تكفل ببيانه والاستشهاد له علماء (أصول الفقه الإسلامي) بما لا يحوج إلى الإفاضة فيه، وقد بلغ الإمام أبو إسحق الشاطبي (790 هـ) في ذلك شأوا عاليا في الجزء الثاني من كتابه العظيم (الموافقات).

ويتصل بهذا الأصل، أو ينبثق منه في حقيقة الأمر، مبدأ شرعي وثيق الصلة بالمسألة التي نتعرض لها في هذا المقال ـ كما تظهر من العنوان ـ وهو مبدأ (تكريم الإنسان) الذي تشهد له نصوص واضحة في كتاب الله تعالى ـ وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم، لعل من أجمعها وأظهرها قوله ـ سبحانه ـ في سورة الإسراء (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) ـ الآية 07. وهو مبدأ تشهد له أحكام شرعية، اعتقادية وعملية، عديدة:

أ ـ منها أن الله ـ سبحانه ـ خلقه بيديه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين) الحجر 29 ـ 31. وفي سورة ص (الآية 75) يقول الله تعالى مخاطبا إبليس: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي..)?.

ب ـ ومنها أنه سبحانه خصّه بعلم لم يُفضه على ملائكته المقربين، كما يقول ـ تعالى ـ في سورة البقرة (31 ـ 32): [وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون].

ج ـ ومنها أنه ـ سبحانه ـ سخر له كل ما في السموات وما في الأرض من مخلوقات [وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه] الجاثية 31، [هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا..] البقرة 92.

د ـ ومنها أنه عظّم حرمة الحياة الإنسانية، وشدد النكير والعقاب على منتهكيها، فعن الترمذي والنسائي عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ مرفوعا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم) وفي رواية أخرى لابن ماجة عن البراء بن عازب: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق). وفي سورة المائدة، بعد ذكر قصة هابيل وقابيل، يقول الله.. عز من قائل: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون) الآية رقم 32.

هـ ـ ومن ذلك أيضا أن الشرع الشريف عظم حرمة الإنسان المؤمن، ما له ودمه وعرضه، حتى ليقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يرويه ابن ماجة في سننه (الحديث رقم 3932): (ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك ـ يعني الكعبة ـ والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه وأن يظن به إلا خيرا).

تكريم الإنسان

ومن هذا وغيره، يظهر أن تكريم الإنسان مبدأ أو قاعدة شرعية، لا حكم مفرد، ومن ثم عني به علماء المسلمين من كل طائفة، فقهاؤهم ونظارهم ورجال الدعوة والتربية منهم، فقرر الفقهاء والمتكلمون ـ كما ظهر مما سبق ـ حرمة الإنسان في كيانه المادي المتمثل في بدنه وحياته ونفسه، وفي كيانه المعنوي المتمثل في كرامته وحريته، وعرضه وسمعته، وحقوقه المختلفة. بل طرح المتكلمون سؤلا: أيهما أفضل البشر أم الملائكة: وحال جهودهم إلى أن البشر جملة أفضل من الملائكة جملة، وإن كان بعض الملائكة يفضل بعض البشر. وقرر علماء التربية الروحية أن التجلي التام للقدرة الإلهية إنما يتمثل في الإنسان، وأن لكل فرد من أفراد النوع الإنساني وجها خاصا وطريقا خاصا يصله بربه ـ عز وجل ـ الذي لا يشغله شأن عن شأن، مما عرف لديهم بنظرية (الوجه الخاص).

ربما كان من المناسب استكمالا لهذا المدخل الذي بدا لي مطلوبا للدخول في الموضوع أن نذكر أن كلمة (الخلق) تستعمل في اللغة العربية استعمالا لغويا عاما فتسند عندئذ إلى الله ـ تعالى ـ وتسند أيضا إلى المخلوقين، وهذا المعنى اللغوي العام يدور على أمرين ـ إذا اكتفينا بالإجمال دون التفصيل: أولهما التقدير والقياس لما يراد إنقاذه أو إنجازه من عمل، فيقال: فلان يخلق ثم يغري، أي يقرر الأمر ثم يمضيه والآخر: هو التهيئة والتشكيل للمادة المخلوقة لله سبحانه بما يعطيها هيئة مخلوق آخر وشكله دون إيجاد الحياة أو النفس ومنحها له، إلا بإذن الله وخلقه، ومنه ما جاء في كتاب الله ـ تعالى ـ بشأن عيسى ـ عليه السلام: (قد جئتكم بآية من ربكم أن أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله..) آل عمران 49

وهو ما تؤكده آية سورة المائدة (.. وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذنى وتبرىء الأكمة والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني..) الآية 110.

أما المعنى الاعتقادي الاصطلاحي للخلق وهو أيضا أمران: إبداع الأشياء من العدم المحض دون حاجة إلى مادة سابقة أو آلة معاونة، بل بالأمر المطلق كما في قوله تعالى : (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون)، (البقرة 117) وكذا خلق الحياة والنفس وبثهما في الكائنات ـ سواء كان ذلك بطريق مباشر كما في الدم، أو عن طريق ملك كجبريل مع مريم، أو بني مكرم كعيسى عليه السلام والطير ـ فكلا هذين المعنيين للخلق تفرد بهما الله عز وجل، وأدلة الكتاب والسنة متضافرة على ذلك، ومنها قوله ـ سبحانه ـ عن خلق الإنسان في سورة المؤمنون: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) إلى قوله سبحانه: (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين) المؤمنون 12 ـ 17. بل نفى الخلق بهذين المعنيين عن سواه (نحن خلقناكم فلولا تصدقون. أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) الواقعة 57 ـ 59 وتؤكد ذلك آية الحج ـ وغيرها: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنفذوه منه ضعف الطالب والمطلوب) الآية رقم 73 ومن ثم جاء القول الفصل في هذا الصدد (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) (النحل 17)، وقال ـ سبحانه ـ : (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل) سورة الزمر 62. فالقدرة على الخلق بهذين المعنيين وصف الله الخالق وحده (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذن لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون) المؤمنون 91، (قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار) الرعد 16.

وقد أكدت السنة المطهرة هذا المعنى بنصوص عدة، منها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: قال الله تعالى: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبة، وليخلقوا ذرة) رواه البخاري ومسلم. (اللؤلؤ والمرجان ـ الحديث رقم 1370). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله) متفق عليه ـ اللؤلؤ والمرجان 1365، وفي هذا المرجع نفسه في الحديث التالي مباشرة أن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون، فيقال لهم: (أحيوا ما عبدتم).

لعلنا الآن بعد هذا المدخل ـ بعناصره الثلاثة ـ نستطيع أن ننظر فيما أعلن عنه الباحثون بمعهد (روزالين) قرب مدينة إدنبرة باسكتلندا عن استنساخ النعجة (دوللي) من نواة خلية أخذت من ضرع نعجة حامل، وضعت في غلاف بويضة غير ملقحة لنعجة أخرى، ثم زرعت بعد معالجة لفترة محدودة برحم النعجة معطية البويضة، فجاءت نعجة صحيحة مطابقة لها. وقد ملأ الخبر لأهميته العلمية أرجاء الدنيا وشغل الناس منذ ذلك الحين.

وغني عن البيان أن ما نقدمه هنا هو محاولة للنظر في الأمر، ستعقبها بطبيعة الحال من ذوي الشأن نظرات وبحوث أكثر عمقا وتفصيلا بإذن الله، فإنه لا تنزل نازلة بأهل دين الله إلا ولله ـ تعالى فيها حكم، علمه من علمه وجهله من جهله، كما يقرر الإمام الشافعي رحمه الله.

وللموضوع ـ في نظرنا ـ جانبان: جانب اعتقادي يتصل بتفرد الله ـ عز وجل ـ بالإبداع من العدم، وبث الحياة والروح، وهو المعنى الديني الاعتقادي للخلق. والآخر جانب فقهي يتصل بضبط العلاقات والحقوق في المجتمع المسلم طبقا للشريعة الإسلامية.

الحلال والحرام

فأما الأول فلا يبدو لنظري القاصر أن في هذا الكشف العلمي ـ حتى لو تم تطبيقه في المجال البشري، وإن كنا ندعو إلى عدم تطبيقه ـ خطرا أي خطر على عقيدة المسلم في تفرد الله ـ تعالى بالخلق، بمعناه الديني الاعتقادي كما سبق بيانه.

نعم، إن الله تعالى، في ضمير كل مؤمن وفي النصوص الشرعية الثابتة، هو خالق كل شيء في هذا العالم، وهو خالق الحياة والروح وقابضهما (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير. الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور) الملك 1، 2. (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الزمر 42.

ولكن ليس في الاستنساخ الجديد خلق للحياة ولا للنفوس، ولا إبداع لشيء من العدم المحض، وإنما هو يقترض خلية من كائن حي، ويستخلص نواتها فيزود بها بويضة أنثى من نفس النوع بعد تفريغها، ثم يودعهما رحما حيا، فيأتي الوليد ـ بعد مدة الحمل ـ مشابها لمصدر النواة، طبقا لقوانين الوراثة التي خلقها الله سبحانه، واعتمادا على المواد التي أبدعها بقدرته، فلاخلق للحياة ولا للنفس. وإنما استطاع هؤلاء المكتشفون، بما ألهمهم الله ـ تعالى ـ من بعض قوانين الوجود والوسائل التقنية الجديدة، أن يتيحوا هذا التوالد المتماثل ـ القابل للتكرار ـ دون التزواج المعتاد بين البويضة والحيوان المنوي. بل إنه ـ حتى في إطاره الجديد ـ ليس جديدا كل الجدة، وإنما هو تقليد ومحاكاة لظاهرة (التوائم) الحيوانية وتوسيع لنطاقها، من حيث الاستغناء عن التزاوج الجنسي المعتاد، ومن حيث قابلية التكرار إلى مدى يكاد يكون غير متناه.

إن الاستنساخ الجديد ـ إذا ما اقتصر تطبيقه على غير المجال البشري ـ لا خطر فيه، كما سلف ذكره على الجانب الاعتقادي، بل هو في نظرنا لا يمس ـ من الناحية الفقهية ـ أيا من المصالح الشرعية، وربما كانت فيه بعض المصالح المعتبرة، من النواحي الطبية والاقتصادية، سواء تم في النطاق النباتي كما يجرى تطبيقه من قديم، أو في المجال الحيواني الأدنى (الميكروبات) كما عرف منذ أمد، أو في الحيوانات العليا الثديية (كالنعجة دوللي)، أو القريبة من الإنسان بيولوجيا (كالقرد). كنا نتحفظ على جوازه، في هذا النطاق الحيواني غير البشري، من ناحية معينة، وهي أن يؤدي تطبيقه فيه إلى اختلال في (التوازن الحيوي)، إذا ما سمح لكل من يملك تقنية (الاستنساخ الحيوي) أن يستخدمها بلا ضمانات أو حدود، وقد جرب العالم في الأعوام القليلة الماضية (جنون البقر) لاستخدامها الغذاء الحيواني. وهذا (التوازن الحيوي) أمر يهتم له العلماء، وكذا المشتغلون بالفكر الديني، فالله ـ سبحانه ـ يقول، وهو أصدق القائلين، : (وان من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) الحجر 21، ومما يزيد علماء الدين اهتماما بذلك أن يطلق أمر الاستنساخ، ولا يجد بعض الناس غضاضة في امتداده إلى النطاق البشري على حين تقدم الدعوات المحمومة لتقييد التوالد الطبيعي بتنظيم النسل أو تحديده، فيجب أن نشارك كل مفكر اجتماعي في عالمنا المعاصر في هذه المسألة التي تمس مستقبل الحياة في الكوكب الذي نسكنه.

استنسخوا.. ولكن

وأما الجانب الآخر وهو الجانب الفقهي في المسألة، المتعلق بضبط العلاقات وتنظيمها بين البشر أفرادا وجماعات، ففيه محظورات كثيرة متوقعة، يخشى ارتكابها إذا ما سمح بأن يمتد أمر (الاستنساخ) إلى النطاق البشري، مما يدعونا ـ وإن كنا قد استظهرنا جواز الاستنساخ الحيواني بقيود وضوابط ـ إلى القول بكونه ممنوعا شرعا، وأن هذا المنع قد يصل إلى حد التحريم، ونحن نشارك العلماء والمفكرين والمسئولين المعنيين بمصير المجتمع البشري في الدعوة إلى حظره حظرا باتا، وذلك من وجهة نظر شرعية إسلامية، نقدم بعض شواهدها فيما يلي:

أ ـ إن المصلحة التي روج لها بعض الباحثين في (الاستنساخ البشري) غير أكيدة ولا مقطوع بها، بل هي مشكوك فيها من الناحية العلمية، إن لم تكن متعذرة، وذلك أنهم زعموا أن استنساخ البشر سيؤدي إلى (تثبيت العبقريات الإنسانية)، فنحظى بفريق رياضي كله بيليه أو مارادونا أو محمد علي، وبفريق بحث علمي لكهم أينشتين أو رسل أو ابن رشد، أو بفريق فني كلهم شارلي شابلن أو الموصلي أو زرياب.

والواقع أن علم الوراثة لا يشهد لهذا الزعم، فالاستنساخ إنما يضمن التماثل المادي شكلا وسمتا وبنية مادية، أما المواهب النفسية والقدرات الإبداعية والمهارات الفنية والجوانب المعنوية بوجه عام ـ التي تشكل مع السمات المادية شخصية الإنسان فأكثرها يرجع إلى التربية والتنشئة الاجتماعية بوجه عام، فالمصلحة المزعومة ليست أكيدة ولا مرجحة، حتى لو غضضنا الطرف مؤقتا عن المفاسد الأخرى المصاحبة له. وحتى لو سلمنا جدلا بإمكان ذلك واقعيا، فمن الذي سيعطي نفسه الحق في تحديد المصائر المستقبلية للبشر باختيار العباقرة المعطين للخلايا المراد تكرارها? وماذا لو تدخل في ذلك بعض الحمقى الخارجين على القانون، أو بعض العنصريين المتعصبين لجنس أو فئة من البشر? أليس ذلك باب شر وفساد يمكن أن يؤدي فتحه إلى مفاسد ومضار لا يعلمها إلا الله?.

وسؤال مبدئي آخر: أمن الخير للبشرية أن تنزع إلى تثبيت خصائص معينة وتكرارها بما يفضي إلى التماثل والنمطية، أم الخير لها تزكية الفروق الفردية والتنوع الثري في الخصائص الإنسانية التي هي بعض حكمة الخالق ـ سبحانه: (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) الروم 22.

ب ـ ومن ناحية أخرى، فإن هذا التوالد البشري الذي يمكن أن يتم (ذاتيا)، أي دون علاقة زواجية بين رجل وامرأة، يحرم (الطبيق) المسكين، أعني الإنسان المتولد من هذا الطريق الذاتي من العلاقات الرحمية، والقرابات الدموية والنسبية، والمشاعر الأسرية الحميمة التي لا يستغنى عنها الكائن البشري ـ الإنسان، كما نعرفه الآن. بل إن في إلغاء الأسرة ضروبا من الخلل الاجتماعي والتشوه النفسي والحرمان العاطفي يشير إليها قول الله تعالى ـ وهو أصدق القائلين: (ومن آياته أن خلق من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الروم 21.

ج ـ وأمر ثالث ينشأ عن التوالد الذاتي أو المتعدد المصادر في نطاق البشر، هو اضطراب العلاقات الأسرية والاجتماعية من هذه الكائنات المكررة: من والديه، وبنوة، وأخوة، وزوجية، وغيرها، فالطبيق الجديد شقيق ـ في الواقع ـ لمعطي الخلية، فهل نعطيه حقوق الشقيق في استحاق الميراث وحرمة التناكح ووجوب التكافل ونحوها؟

ولكن الخلية إذا زرعت في رحم المرأة التي أعطتها فسيكون (الطبيق) شقيقا لها، إن قبلنا التحليل السابق، وهو أيضا ابن لها ولدته من بطنها، فكيف تجتمع الأخوة والبنوة في حال واحدة، وكيف تستقر العلاقات الإنسانية على هذا النحو الغريب الشاذ? وكيف تطبق الأحكام الشرعية الواجبة التطبيق على كل مكلف على هذه العلاقات المتداخلة?.

د ـ وضرب آخر من الاضطراب: يتمثل في التشابه المادي والتماثل المظهري بين الأشخاص المكررين بالاستنساخ، وإن اختلفت مواهبهم وأخلاقهم وصفاتهم المكتسبة، فماذا لو ارتكب أحدهم جناية، أو طلب لمواجهة قضائية شاهدا أو مدعيا؟ كيف يمكن التمييز بينهم، ألا يمكن أن يحل أحدهم محل الآخر، فتضطرب الأوضاع وتختل المسئوليات والعلاقات القانونية?.

هـ ـ وأمر آخر يتعلق بالرحم المستودع لهذا التوالد الجديد، متطوعة كانت صاحبته أو مستأجرة، إن الشرع الإسلامي يقرر أن الأرحام مصونة محرمة لا تفض إلا بحقها في أحكام الله، وهي جزء من عرض الإنسان، وحمايتها ـ كما علمنا ـ مصلحة ضرورية شرعية، والقرآن الكريم يعتبر صيانتها وحفظها من خصال الصالحات (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين) التحريم 21.

ولا يجيز الشرع الإسلامي للمرأة المسلمة أن تتبرع بأجهزتها التناسلية أو تؤجرها أو بعض منها، وليس من طريق لذلك في الدين الإسلامي إلا الزواج الشرعي، فكلا طرفي هذه العلاقة الشرعية صاحب حق في ذلك قبل الآخر. وهذه أمور مستقرة فقها وتطبيقا، والأدلة عليها كثيرة متظاهرة. وأعتقد شخصيا أن تأجير الأرحام مقابل عرض فان) لا يخلو من مهانة ومساس بالكرامة الإنسانية، وأن التبرع في حال التطوع يخلو من الأريحية والمروءة المحمودة في الحس الإسلامي، وربما في كل دين.

و ـ فإذا قيل: لنأخذ خلية من معط هو زوج شرعي ونستودعها رحم زوجته الشرعية برضاهما، فربما كان في هذا علاج لبعض حالات العقم، كما حدث شيء قريب منه فيما سمي (بأطفال الأنابيب).

فهذه مسألة لا مناص من التصدي لها ـ باعتبارها نتيجة مترتبة ولو احتمالا على هذا التطبيق الجديد ـ وأبادر فأقول: إن هذه الصورة من التطبيق تتضمن مصلحة لا يمكن إنكارها لمثل هذين الزوجين، ولكن بشرط أن يثبت إمكان ذلك عمليا فهو حتى الآن مجرد احتمال، وإن كان المختصون يقولون: إنها ليست إلا مسألة وقت قد لا يتجاوز عقدا من السنين. والشرط الثاني الذي يجب تأكيده: ألا يقع هذا إلا بين زوجين شرعيين يواجهان مثل هذه الحالة المذكورة، وأن لنا أن نضمن ذلك في عالم يغص الآن (بالبنوك التناسلية) وفي غياب ميثاق خلقي وغطاء قانوني ينظم هذا الأمر ويحول دون انحرافه فيؤدي إلى فتنة في الأرض وفساد كبير?!. على أن هذه المصلحة، وإن كانت حقيقية، هي مصلحة جزئية محدودة، قد تحل مشكلة أسرة أو مجموعة من الأسر تعاني متاعب العقم، ولكن بعض المبتلين بها يرضون بقضاء الله تعالى ويجدون العزاء في مواهبه العديدة الأخرى [لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير] الشورى 49 ـ 50.

دفعا للضرر

إن الخير الجزئي المحدود إذا عورض بالمفاسد الاجتماعية الكلية التي عرضنا لبعض منها فيما سبق ـ يهمل كما هو المعروف من قواعد الشريعة في الترجيح بين المصالح المتعارضة، وللفقهاء في ذلك مثال مشهور ذو مغزى واضح، وهو تترس الأعداء واحتماؤهم خلف بعض المسلمين المعصومي الدم، فلو راعينا مصلحة حرمة هذه الدماء فربما هدد أمن الأمة كلها، وربما أهدرت تبعا لذلك أرواح أكثر من عدد الرهائن المحتمى بهم، فيرتكب الضرر الأقل بمهاجمة الأعداء ولو أدى إلى قتل بعض الأبرياء المعصومي الدم، دفعا للضرر العام، والمفسدة الأكبر في الاحتمال الآخر.

ز ـ نود أن نشير أخيرا إلى خطأ بعض الكتابات التي ظهرت في هذا الصدد عن علاقة (الاستنساخ البشري) بنقل الأعضاء، إذ يجب أن نعود فنؤكد حق التكريم والاحترام والعصمة والحماية لكل إنسان فرد في الدين الإسلامي، وليس الإنسان المستنسخ ـ لو وجد ـ ملكا شخصيا لأحد، ولا سلعة تجارية تباع وتشترى، ولا (إكسسوارا بشريا) كما يتوهم بعض السذج، بل هو فرد ذو كرامة، وإنسان مستقل الشخصية محفوظ الحقوق، تنفخ فيه الروح المعصومة في مستقره من الرحم المستودع، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: (حدثنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق ـ إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح..).

كما نود أن نؤكد أن الشريعة الإسلامية ـ بصفة خاصة ـ لا تضع عقبات أو قيودا على البحث والاكتشاف العلميين، ولكنها تهتم باستقرار النوع الإنساني وسعادته، وتدعو إلى الحفاظ على مصالحه الحقيقية التي بينها منزلها ـ عز وجل: [ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير] الملك 14.

وإنه لأمر جليل أن يتهاون البعض بالتدخل غير المحكوم بقيم الأخلاق وأحكام القانون وحقائق الدين فيشفي الكائن الذي كرمه الله وفضله ورفعه مكانا عليا [ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا] والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

* أستاذ الفلسفة الاسلامية كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة.

 

حسن الشافعي

 
  




هل يستخدم الإستنساخ كلعبة شيطانية؟





ماهو موقف الشرع من استنساخ البشر؟





تجربة دولي هل تتكرر على الانسان