معارك موسيقية في المجتمع الغربي درية فهمي

معارك موسيقية في المجتمع الغربي

يطلق على القرن الثامن عشر الفرنسي قرن المعارك الأدبية والفنية والقومية والسياسية، ولقد رأى ذلك العصر تطور الفكر الفلسفي من مذاهب العقلانية وما وراء الطبيعة، إلى البحث العيني الواقعي للنظم الاجتماعية والكشف عن آفاتها وأسباب الفساد فيها، وعجزها عن ضبط الموضع الطبقي للأمة وانعدام القيم الإنسانية. ولم يكن لهؤلاء الفلاسفة أصحاب الفكر والقلم النظريات العلمية التي تجمع بينهم بل كانوا متنوعي الاتجاهات، ولم يكن غائبا عنهم الأسس الساري عليها الوضع السياسي وما يترتب عليه من التباس في المفهوم العام. وإذا ما تجرأ أحد الكتاب آنذاك بالتلميح إلى قسوة الظروف كان عليه أن يلوذ بالفرار ليلا هربا من مصير مجهول في سجن الباستيل.. ورغم ذلك فقد كتب الأديب المفكر دالمبير قائلا: "على الشاعر أن يكتب الشعر، وعلى الموسيقي أن يؤلف الموسيقى، لكن على الفلاسفة الكتاب أن يتكلموا وعليهم أن يوجهوا الفكر وإنارة معالم الطريق". ومن هنا سيكون لهم الأثر الفعال على تطورات الأحداث الفنية عامة والموسيقية خاصة.

وكان الجو الفني آنذاك يتسم بالهدوء، بينما كانت الأوبرا الفرنسية قد بدأت على قاعدة سليمة وكأنها توحي بالثبات والاستحسان العام. وعلى الرغم من هذا التوافق، فقد برزت فجأة حملة ضد البناء الفني للأسلوب الأوبرالي، مفادها أنه أسلوب مصطنع بعيد عن طبيعة الحياة. وبدأ الأديب جان جاك روسو يطلق صيحته الشهيرة قائلا: "لنرجع إلى الطبيعة!". ويضيف زميله جريم قائلا: "إن هدف الفنون الجميلة جميعها هو محاكاة الطبيعة". ويتوافق معهما ديدرو قائلا: "قد لا ينجح الشعر الغنائي إلا إذا نهل من الطبيعة وحاكاها"..

فكان البعض يرى أنه على الموسيقى أن تعكس الطبيعة وخرير المياه الحالمة وهدير الأمواج وقصف الرعد وهطول الأمطار.. بينما يرى البعض الآخر أن يغوص الفنان بموسيقاه في عمق الحس الإنساني ليعبر عما ينتابه كانعكاس للأحداث المحيطة به.. أي أن تعكس الموسيقى الجانب السيكولوجي للإنسان.

وتمضي بضع سنوات في هدوء حتى كادت تظهر على الأوبرا الفرنسية علامات الركود. وفجأة، وفي شهر فبراير عام 1752 تندلع عاصفة هوجاء ضد المسرحيات الغنائية الخالية من الروح. وكان روسو جريء الطبع عنيدا، فأعلن في عزم تفضيله للموسيقى الإيطالية، متناولا أعمال رامو بنقد لم يجرؤ عليه أحد من قبل.. ثم يسارع، إثباتا لإعجابه بالأسلوب الإيطالي، بتأليف فصل أوبرالي على النمط الإيطالي. وقوبلت المسرحية بموافقة هيئة التحكيم وطلب مدير مسرح البلاط الملكي أن تعرض المسرحية في حضرة الملك، بينما صمم مدير الأوبرا أن تكون الأولوية لفرقة الأوبرا ووصل الاحتدام إلى حد المبارزة! وأخيرا كانت الكلمة للسلطة الملكية وتم عرض الأوبرا في شهر أكتوبر 1752 بنجاح أمام لويس الخامس عشر الذي عبر عن رضائه بترنيم بعض النغمات بصوت مسموع. ويتدخل القدر ليطرأ على هذا الجو المشحون حدث جديد، وذلك بقدوم فرقة "المهرجين" الإيطالية إلى باريس، وكانت هذه التسمية تطلق على الممثلين المتجولين الذين تنحصر عروضهم على تمثيليات غنائية يطلق عليها "أوبرا بوف" أي "أوبرا هزلية".

ولم تكن هذه أول مرة تحضر فيها فرقة "المهرجين" إلى باريس، وكادت هذه الزيارة تمر بسلام أيضا لولا الرسائل المتبادلة بين روسو وجريم والتي تراشق بها بعض المتحمسين لتملأ الجو بالانفعال. وتتوالى العروض الإيطالية وتمتد إقامة الفرقة في باريس إلى عام ونصف عام تقريبا، إلا أن الجمهور قد انشق إلى فريقين: فبينما رفض البعض هذا اللون الحديث الدخيل، كان البعض الآخر يصفق بحماس.. وتتزايد المشاحنات بين الفريقين إلى أقصى مدى، يقول أحد النقاد عن هذه الفترة: "إن "وصول المغنين الإيطاليين إلى باريس في هذه اللحظة من الحياة الفرنسية قد جنب فرنسا الحرب الأهلية التي كانت على وشك الوقوع بين البرلمان والكنيسة والبلاط ". بينما يقول روسو عن نفس الأحداث: "انقسمت باريس إلى حزبين بحمية وغضب كما لو كانت القضية سياسية أو دينية.. حزب قوي ذي سلطة التحق به علية القوم والأغنياء، هو حزب المناهضين، أما الحزب الآخر فقد كان أقل عددا وأكثر نشاطا وحماسا، ويتكون من ذوي الخبرة والمواهب الحقيقية".

وهكذا بدت صالة الأوبرا أشبه بجمعية برلمانية ذات أحزاب: اليمين، واليسار والوسط، فالملكة إيطالية الأصل، بسطت حمايتها على الفرقة، بينما قام الملك بتشجيع الأعمال الفرنسية وعليه ألا يحيد عن التقليد الملكي في إنصاف فن بلده!وتحاربت الأحزاب وهبت المعركة بين ركن الملك وركن الملكة الذي كان السبب في إثارة اللهب، فبدأت محاورات شفاهية ارتفعت إلى التراشق بالألفاظ الحادة الجارحة ثم ما لبثت أن تطورت ليتقاتلوا بالأيدي.. بل كانوا يتسللون إلى الشوارع الجانبية للأوبرا ليتبارزوا بالسيوف تحت ضوء المصابيح. وتدفقت المنشورات وبعضها بأقلام فلاسفة الموسوعة.. ومع ذلك الاندفاع الثوري نحو الموسيقى الإيطالية تناول أحد الموسيقيين الإيطاليين المقيمين في باريس نقد مسرحية روسو بكلمة وجيزة قائلا: "تتميز مسرحية السيد روسو بعدم الارتباط الدرامي اللهم إلا في تسلسل النغم العاطفي". إلا أن هذه المؤلفات الإيطالية الخفيفة المليئة بالفصول الترفيهية كانت كافية لهدم صرح الأوبرا الفرنسية العريقة والاعتراض على الأعمال التراجيدية الجادة لأمثال رامو. ولعل ذلك النجاح يرجع إلى السهولة الباسمة التي لا توحي بالجهد بل وتمثل انفراجا لإذابة حالة القلق والتوتر.. وتناسى الشعب الفرنسي الموقف السياسي الراقد على الرماد.. وكلما ازداد انتصار المهرجين- ذلك الانتصار المخالف للوضع الفني الصحيح- تبين مدى عدم انسجام فن الأوبريت مع ما يتمناه الشعور العارم لذلك العصر. وطفح الكيل بسخط الفلاسفة عندما تكاتف المحافظون المناهضون للأوبرا الإيطالية الدخيلة ليتخلصوا من هؤلاء المهرجين، بأن حصلوا من الملك لويس الخامس عشر على قرار يلزم الفرقة بالرحيل. وهكذا كان للكتاب الفلاسفة في ذلك العصر أثر ملموس في المعركة ونجحوا بأقلامهم القوية في استمالة ذوي الميول المجددة وتضافرت أقلامهم لإنقاذ الأوبرا والموسيقى القومية الفرنسية. وتمر الأيام لتتجدد المعارك ثانية بين الفريق المناصر للموسيقي الألماني جلوك والفريق المتعصب للموسيقي الإيطالي بوتشيني، وكانت باريس قد اجتذبتهما في نفس الفترة تقريبا.. وتعتبر أعمال جلوك الأوبرالية بمثابة الخطوة؟ الأولى في التطور الإصلاحي.. وما إن تم عرض عمله الثاني حتى كان كالقنبلة وأثار معركة ما زال يذكرها تاريخ الموسيقى الغربية الكلاسيكية، فقد أراد جلوك أن يقضي على الإفراط في استغلال الفن على حساب التعبير الصادق. ومن أول وهلة ضربت أوبرا افيجيني الإعجاب كعمل فني سيكولوجي متوافق مع روح النص التاريخي ومتكامل معه وكانت الافتتاحية ترمز إلى ما سمي فيما بعد باللايت موتيف أو اللحن القائد، الذي يتردد ليربط مختلف مراحل الموسيقى في وحدة متكاملة. ولم يكن معروفا حتى ذلك العهد، بل ولم يدرك أحد أهميته إلى أن جاء فاجنر بعد ثلثي قرن ليجعل منه أساس مدرسته الموسيقية. ومثلما انقسمت الآراء أيام المهرجين الإيطاليين، انقسمت أيضا بعد عرض أوبرا جلوك، واستيقظت المعركة القديمة لتزداد عنفا بين أنصار الفن الخفيف القائم على التنغيم الإيطالي المتحرر من أي التزام، وبين من ظلوا متمسكين بالنمط الكلاسيكي الجاد.. وكانت المعركة المشهورة التي لم تكن في بادئ الأمر تحمل أي علامات الهوس المفرط الذي انفجر فيما بعد.. ولولا وفاة لويس الخامس عشر في تلك الأيام لازدادت المعركة حدة ولهيبا. ويمثل حضور الموسيقي الإيطالي بوتشيني مواجهة حادة بين المدرسة الإيطالية والمدرسة الألمانية على مسرح الأوبرا الفرنسية.. فقد كانت أعمال بوتشيني من لون الأوبرا الهزلية بينما تعبر أعمال جلوك عن روح الآلام النفسية الكلاسيكية. ويمتد النزاع لدرجة أدت إلى إطلاق اسم الجلوكيين على أنصار جلوك، والبوتشينيين على أنصار بوتشيني!. ويرجع المؤرخون هذا الاضطراب الكامن في النفوس إلى ما كان يسود سياسة البلاد من غموض مبهم وعجزها عن مقاومة الضغوط المفروضة عليها والتي ترغمها على الابتعاد عن الأحداث المقلقة التي كانت تشير إلى قرب اندلاع شيء ما. وتتسع حركات المقاومة ضد السلطات بكل أنواعها، ومنها سلطات الملك فارتفعت الأصوات مطالبة بتجديد نظم الحكم والسلطات العامة.. فلم تكن معارك الفن والأدب إلا انعكاسا طفيفا لهذا التلاطم الرامي إلى التطور والتجديد.

وتمر الأيام بتلاطم وتندلع الثورة الفرنسية بطوفانها. وبعد قرابة نصف قرن من معارك جلوك يجيء فاجنر بمنهجه التعديلي المعروف، لينتقل التطور أو التاريخ الموسيقي مباشرة من جلوك إلى فاجنر.. أو إلى ما هو معروف في المجال الموسيقي باسم "المعركة الكبرى" في القرن التاسع عشر.. تلك المعركة التي دارت رحاها بين فاجنر ومعاصريه.. فقد كان ريتشارد فاجنر محور المعارك الموسيقية التي زلزلت المجتمع الثقافي والسياسي الألماني والفرنسي في القرن الماضي. وتعد شخصية فاجنر المتعددة الجوانب من علامات الحركة الموسيقية فى تلك الحقبة، وقد ولد فيما بين عامي 1809 و 1813، في نفس تلك الفترة التي شهدت تحرر الشعب الألماني من نير نابليون والسيطرة الفرنسية، وشب مشبعا بروح فنية مثالية مكرسا حياته للفن. ولم تكن ألمانيا وقتئذ بغافلة عن الأحداث التي هزت فرنسا وما أعقب ثورة يوليو عام 1830 من انتصار حرية الفكر. ولم تلبث روح التحرر أن تفشت بين الشباب الألماني.. وتتصاعد الاحتجاجات ضد الحكم السياسي التعسفي الذي يثقل على ألمانيا من ملوك المعاهدة الثلاثية ضد الغموض والالتباس الكهنوتي. وتأثر فاجنر بذلك التيار الراديكالي الذي تطرق إلى كل طبقات المجتمع وإلى أقصى ولايات المملكة الجرمانية.. وارتبط بحركة "ألمانيا الشباب" وراح يكتب المقالات عن الظروف السياسية الراهنة وعلاقتها بالفن. وانعكس موقفه هذا على موسيقاه ليعبر عن مضمون التحرر في الفكر الجرماني: التحرر من التكلف، تحرير المرأة، البعد عن النفاق والخديعة، المساواة، الديمقراطية، النضال ضد النزعات الاستبدادية للنبلاء المنحرفين.. وبرزت هذه النزعة في انتقاء نصوصه الأدبية للأعمال التي يود التعبير عنها في أوبراته ليصير بها بعيدا عن جفاف التعاليم التي يخضع لها الفن الألماني. فقد كان يطلب من الدراما الموسيقية أن تعبر عن الحياة بكل معانيها وانفعالاتها العاطفية حتى يكون تأثيرها على الجمهور سريعا مباشرا. ولم تكن حياته عادية.. كانت الدراما الفنية تواجه دراما عائلية خاصة، تثقلها الديون ومطاردة الدائنين.. فآثر السفر إلى باريس سعيا لتحقيق أفكاره الموسيقية الثورية الرومانسية. وما إن أفل نجم نابليون حتى انفجرت الروح الرومانسية انفجارا مدويا تحت عدة عوامل سياسية واجتماعية، يعززها التيار الرومانسي الذي أتاها من البلدان المحيطة. وقد ساعد على هذا الوضع قدرة باريس في أن تجتذب وتستبقي سيلا من الفنانين الأجانب. ولم يكن ذلك بجديد.

وفي نفس عام 1830 الذي شهد معركة "هرناني" الأدبية التاريخية، كانت باريس مسرحا لأحداث سياسية واضطرابات ثورية منها تنازل لويس الثامن عشر، الذي خلف نابليون، عن عرش فرنسا لملك آخر من سلالة البوربون، هو شارل العاشر. وقد عرف عن هذه الأسرة أنها من مشجعي الوجود الإيطالي.. وقد سبق أن خصصت باريس مسرحا للموسيقى الإيطالية في عهد نابليون- الإيطالي الأصل- كما أطلق اسمهم على شارع من أعظم شوارعها الرئيسية هو Boulevard des Italiens، أي أنه كان للعديد من الفرق الإيطالية وجودها في باريس. واستمرت أعمال الإيطاليين وعلى رأسهم روسيني في نجاح متتابع، إلا أنه بسقوط شارل العاشر الذي كان يحميه اضطر إلى التخلي عن جميع الالتزامات الفنية والإدارية ليغادر باريس.

رومانسيون من فرنسا

ولم يكن في الوسط الفني من الفرنسيين من كان في قوة مواجهة الوضع السائد، بل إن الروح الرومانسية الحقة جاءت بها كوكبة متضافرة هي برليوز الفرنسي، وشوبان البولندي، وليست المجري، ولم يستجب لهم الجمهور الفرنسي في بادئ الأمر، ومع ذلك فقد كان لهم أثر ملموس على نخبة من المثقفين وصفوة المجتمع.

وتجاه التيار الثانوي المدلل، كانت الأوبرا الأصيلة تواصل مجراها الفني بكثير من الفخامة وامتدت منها الميلودراما الموسيقية تملأ العهد الثاني للإمبراطورية الفرنسية. وبدأ فاجنر مشواره الموسيقي في باريس بكتابة أغان رومانسية للصالونات الباريسية على كلمات مشاهير الشعراء المعاصرين، لكنها لم تجد إقبالا لصعوبتها. ولم تعطه فرنسا ما كان يتوق إليه، فخاب أمله وحاصرته الديون حتى إنه فوجئ بالقبض عليه وألقي في سجن كليشي ثلاثة أسابيع.. بينما كانت دار أوبرا مدينة درسدن الألمانية تعرض أوبرا فاجنر المعروفة باسم "ريينزي" بنجاح.. وهي نفس الأوبرا التي تجاهلتها باريس. وتزداد مرارة المنفى وحتمية الاتصال بالحياة الفرنسية التي لم يتوافق معها، ليفكر في العودة إلى بلده. وبعد ثلاثة أعوام من خيبة الأمل رحل عن باريس، عن تلك المدينة الغارقة "في الصخب والوحل" على حد قوله. وما إن عاد إلى بلده حتى شرع في كتابة مؤلفاته الجريئة.. وسرعان ما تضافر المعارضون وتجمعوا في جبهة هائلة تترصد لكل عرض يقدمه.. ورغم تلك الروح العدائية كان فاجنر قد اكتسب تقدير بعض الموسيقيين والمثقفين، لكن لحظات الغم كانت أقوى حتى تسلطت عليه فكرة الانتحار.

لكن غاياته المثالية دفعته إلى الحركة الثورية بشعور الفنان المحب للإنسانية. فيهلل للصخب الهادر في الشارع ويحض المواطن الصادق على هدم نظام فاسد وحضارة مصطنعة.. واقتحم فاجنر العمل السياسي، وفي إحدى خطبه السياسية أنهاها قائلا: "تلك الحركة ليست إلا مقدمة حتمية لثورة عملاقة شاملة تمهد لإصلاح جذري فيه الكرامة وفيه الأمان". ويجد فاجنر نفسه في نزاع حاد مع البارون راعي الفنون. فكان هجوما لا رحمة فيه، منه التمرد على السلطة، ويجاهر فاجنر بانتمائه للحزب المعارض الثائر. وسارعت السلطات بسحق الثورة، وكانت كارثة بالنسبة لفاجنر الذي فوجئ بالتهم التي تنهال عليه كما فوجئ بأمر القبض عليه! فاضطر إلى الهرب ليلا مخترقا الحدود إلى زيورخ في سويسرا تحت اسم مستعار وجواز سفر مزور مده به الفنان ليست.

وتمتد أيام المنفى إلى اثنتي عشرة سنة من 1849- 1861.. سنوات مريرة لكنه تعرف خلالها إلى الفيلسوف الألماني شوبنهور وكان في أواخر أيامه، لكنه اشتهر بنظرته التشاؤمية.. وتغلب الشؤم والزهد على فاجنر.

وفي عام 1859 يضع فاجنر كل أبعاد محنته في عمله الخالد المأخوذ عن أسطورة "تريستان وايزولت ".. إلى جانب العديد من الأعمال الأخرى التي تهدف إلى تحقيق الأسس الجوهرية لمبادئه وأسلوبه الفني.. فقد وصل عرض أوبرا "لوهنجرين" إلى سبعمائة حفلة.

هزيمة ويأس

وفي إحدى جولاته لأوربا عاد ثانية إلى باريس وكان لسقوط أوبرا "تانهاوزر" وقع شديد على فاجنر إذ عاوده الشعور بالهزيمة واليأس، لكن ذلك التيار العدواني لم يجرف كل المجتمع الفرنسي. وكان هناك من قام للدفاع عنه وعما أحدثه من ثورة بموسيقاه.. ويوم عزم على الرحيل من باريس حاملا كل بؤسه وأحزانه أتاه عرض من ملك بافاريا يدعوه إلى جانبه بلا تأخير إلى ميونخ. وشرع فاجنر في رفض مبادئه الفنية وعمل لائحة جديدة للمعهد الموسيقي. ولم يمهله القدر فقد تعالت صيحات المعارضين وهجر فاجنر بلده للمرة الثانية مغضوبا عليه.. وبعد جهود مضنية عاد ليؤسس مسرح بايرويت في منطقة بافاريا، وذلك لصعوبة عرض أعماله على المسارح الأخرى. وتتناوب التعليقات ما بين وصف أعماله بالفوضوية والروح التشاؤمية، وتارة بأنها تعبير رائع مبدع حيث تمتزج الكلمة بالموسيقى في تعبير سماوي. ورغم هذا التباين الرهيب فإن أعمال فاجنر قد صمدت للتاريخ والزوابع بل تعد من الروائع التي لم يظهر مثيلها من زمن بيتهوفن.. روائع ذات نضارة وصفاء موسيقي جذب له إعجاب العالم.. وقد أثر أثرا عميقا في مفهوم التعبير الموسيقي والبناء الأوبرالي، بل لقد كان له دور رئيسي في تاريخ الموسيقى الأوربية عامة والألمانية خاصة.. فقد ابتكر الدراما المتكاملة التي تجمع بين مختلف العناصر الفنية في بناء سيمفوني يربط أجزاءه باستعادة اللحن المميز أو الجملة القيادية اللايت موتيف، وهي بمثابة الفكرة الأساسية التي ترتبط بالشخصيات وتتبع تحركاتهم. وحتى بعد وفاته عام 1883 في فينسيا، بعد أن نال شهرة في أوربا بأكملها، ظل الرأي في فرنسا- التي لم ينله منها إلا خيبة الأمل- منقسما حول أعماله. بل لقد أدى موقفه المضاد لفرنسا عند انتصار الألمان عليها عام 1870 إلى انفجار عنيف ضده من قبل الوطنيين الفرنسيين. ويزداد اللغط عنفا ضد سلطان هذا "العدو الجرماني" وانحرفت الأزمة إلى عاصفة هوجاء خرجت عن الاتزان: فمن معارضة فنية تطورت إلى دفاع وطني ضد "مغتصب"! وذلك عندما نظمت إحدى القاعات الفرنسية عام 1886، أي بعد ثلاث سنوات من وفاته، عرضا لأوبرا "لوهنجرين". وهنا تحول الصخب إلى معركة حامية تعانقت فيها اللعنات والقبعات والكراسي.. ولم يكن الاعتراض هذه المرة على "شخصيته الساكسونية البروسية" وإنما ضد عبقريته الموسيقية، فبعد أن هاجموا شخصه تحول الطعن إلى فنه. وتمر الأيام- حتى في فرنسا الهوائية النزوات- لتتحول الأقلام الهدامة بالأمس إلى دفاع مجيد عن عبقرية فاجنر تقوم بالدفاع عنه والتمهيد لرد اعتباره.. وعلى الرغم مما قاله أحد النقاد الفرنسيين من "أن دراما فاجنر لا تتفق والروح الفرنسية" فقد استطاع فاجنر أن يفرض نفسه بعظمة فنه وما زال الفرنسيون يحجون سنويا إلى مسرحه في مدينة بايرويت.

 

درية فهمي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




معارك موسيقية في المجتمع الغربي





برليوز





ريتشارد فاجنر





روسيني