جمال العربية

جمال العربية

بحثاً عن اليقين
قراءة في معلقة عمرو بن كلثوم

أتيح لي أن أطالع معلقة عمرو بن ـ ضمن معلقات العصر الجاهلي، مرات عدة، في مراحل مختلفة من العمر.

وفي واحدة من هذه المطالعات المبكرة، استوقفتني كلمة (اليقين) التي كررها الشاعر ثلاث مرات، في ثلاثة مواضع من المعلقة، تتناثر على طول السياق.

ثم اكتشفت بعدها أن (اليقين) الذي يتحدث عنه الشاعر مقيد في كل مرة بمخاطب يتجه إليه بالكلام يسائله ويستنطقه ويخبره، من غير أن يبدو عليه أدنى اهتمام بما سوف يجيب به هذا المخاطب، المهم أن يقول الشاعر، وأن يعلن وينشر في الملأ حديثه عن هذا اليقين.

في المرة الأولى يقول عمرو بن كلثوم:

قفي قبل التفرق يا ظعينا

نخبرك (اليقين) وتخبرينا

قفى نسألكِ هل أحدثتِ صرماً

لوشك البين، أو خنتِ الأمينا

بيوم كريهة ضرباً وطعناً

أقر به مواليك العيونا

وفي المرة الثانية يقول عمرو بن كلثوم:

أبا هند فلا تعجل علينا

وأنظرنا نُخبرك (اليقينا)

بأنا نورد الرايات بيضا

ونصدرهن حُمرا قد روينا

وأيام لنا غُر طوال

عصينا الملك فيها أن ندينا

وفي المرة الثالثة يقول عمرو بن كلثوم:

إليكم يا بني بكر إليكم

ألما تعرفوا منا اليقينا

ألما تعرفوا منا ومنكم

كتائب يطعن ويرتمينا

علينا البيضُ واليلبُ اليماني

وأسياف يقمن وينحنينا

في المرة الأولى يتجه عمرو بالخطاب إلى (الظعين). والظعين هي الناقة المسافرة والمرتحلة أو هي راكبة هذه الناقة والمرتحلة بها. وسواء كان حديث عمرو لناقة أو لأمرأة فالإنسانة هي المقصودة بالخطاب، وهو لن يخبرها وحده عن هذا اليقين لأنها ستشاركه في الإخبار، ومعنى هذا أنه لا يخبرها بشيء لا تعرفه، شيء بعيد عن وعيها وإدراكها، وإنما (اليقين) هنا أمر تعرفه هي كل المعرفة وتقر به وتعترف.

صرخة غضب وكرامة

وفي المرة الثانية يخاطب عمرو بن كلثوم عمرو بن هند ملك الحيرة. والذي تربط الروايات بينه وبين معلقة عمرو باعتباره سببا لإنشاده. إما بكونه صاحب المجلس الذي أنشد فيه شاعرا بكر وتغلب قصيدتيهما ـ معلقتيهما ليكون حكما بين القبيلتين في الصراع الذي كان بينهما، فكان الاحتكام إلى عمرو بن هند. أو بكونه ـ كما تقول الروايات أيضا ـ مسئولا عن امتهان أمه لأم عمرو بن كلثوم في بيته، وهو الامتهان الذي أغضب عمرو بن كلثوم وجعله ينتضي السيف ويهوي به على رأس الملك عمرو بن هند فيصرعه. والمعلقة لا تخلو من إشارة إلى الأمرين معا، وكأنهما سببان اجتمعا، فكانت القصيدة صرخة غضب ونشيد كرامة وكبرياء.

وفي المرة الثالثة يخاطب عمرو بن كلثوم بني بكر، خصوم قبيلته تغلب وأعداءها التقليديين. وهو هنا أيضا يخاطبهم بما يعرفونه، وبما ليس مجهولا لهم، من شجاعة تغلب، وعنفوانها، وكأن حديثه عن (اليقين) مطالبة بإقرار الخصوم لقومه بالغلبة والمنعة والشجاعة والظفر في القتال.

هكذا تصبح كلمة (اليقين) في دلالاتها الواسعة، تعبيرا عن مجد تغلب وخلود أفعالها، وإشادة باذخة بما لتغلب من مكانة ثابتة راسخة رسوخ اليقين في النفس، لا يزعزعه دوران الأيام، ولا تطمسه عوادي الدهر.

وكأن هذا (اليقين) رد على هشاشة الحياة العربية القديمة ومواجهة لفنائها السهل وزوالها الميسور، في وجه حياة زائلة ووجود تفتك به الأحداث العارضة ـ وما أكثرها ـ يصبح اليقين معادلا للخلود، مؤكدا للثبات والاستقرار والرسوخ، مبلورا لحس الشاعر ووعيه، الذي لم يعد موقوفا على قبيلة تغلب وحدها، وإنما هو وعي باليقين العربي كله، وتجلية لأبرز خصائصه وسماته وصوت الشاعر يجلجل مالئا مساحة الوجود العربي كله:

ألا لا يعلم الأقوام أنا

تضعضعنا وأنا قد ونينا

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

كأنا والسيوف مسللات

ولدنا الناس طرا أجمعينا

يدهدون الرءوس كما تدهدى

حزاورة بأبطحها الكرينا

هذا الوعي باليقين العربي، وبالتعبير عن الوجود العربي يفسر لنا احتفال بني تغلب بمعلقة شاعرهم، وهيامهم بأبياتها، وحرصهم على إنشادها في كل مناسبة وموقف، حتى كأنها النشيد القومي للقبيلة، بل للعرب حيث كانوا، فالمفاخر التي يتغنى بها عمرو بن كلثوم ليست مفاخر تغلب وحدها، وإنما هي مفاخر كل العرب، والحديث عن الكرم والنجدة والقوة والغلبة والكبرياء وإرهاب الأعداء والمسارعة إلى الظلم ـ حتى لا يوصف المتظلم بأنه ضعيف أو مسضعف ظلمه الأقوى منه ـ كل ذلك يمثل سجل مفاخر العربي عندما يزهو ويفاخر.

نزعة المبالغة

كما يُفسر لنا ـ أيضا ـ نزعة المبالغة التي يلاحظها بيسر شديد كل قارىء للمعلقة. هذه المبالغة تبلغ ذروتها وتصل إلى أقصاها في الجزء الأخير من المعلقة، على وجه التحديد في الأبيات الاثنى عشر الأخيرة التي تبدأ بقول عمرو:

وقد علم القبائل من معد

إذا قبب بأبطحها بنينا

(ومعد) هو جد العرب، والقبائل من معد هي القبائل العربية جميعها، وهي تعلم وتدرك كل ما سيفاخر به الشاعر الذي أراد أن يقدم لنا (اليقين) ـ الذي سبق حديثه عنه ـ في صورة تفصيلية ومن خلال تحديد لأجلى ملامحه وعناصره كما تتمثل في شخصية تغلب ودورها المؤكد لهذا اليقين.

يقول عمرو بن كلثوم:

بأنا المطعمون إذا قدرنا

وأنا المهلكون إذا ابتلينا

وأنا المانعون لما أردنا

وأنا النازلون بحيث شينا

وأنا التاركون إذا سخطنا

وأنا الآخذون إذا رضينا

وأنا العاصمون إذا أطعنا

وأنا العارمون إذا عصينا

ونشرب إن وردنا الماء صفوا

ويشرب غيرنا كدرا وطينا

ألا أبلغ بني الطماح عنا

ودعميا، فكيف وجدتمونا

إذا ما الملك سام الناس خسفا

أبينا أن نقر الذل فينا

لنا الدنيا ومن أضحى عليها

ونبطش حين نبطش قادرينا

نُسمى ظالمين، وما ظلمنا

ولكنا سنبدأ ظالمينا

ملأنا البر حتى ضاق عنا

وماء البحر نلمؤه سفينا

إذا بلغ الفطام لنا صبي

تخر له الجبابر ساجدينا

هذا الغلو في الفخر، وهذا الاعتداد بالنفس والقبيلة، كانا وراء الحال التي أصابت التغلبيين ـ بعد زمن عمرو بن كلثوم ـ بشيء من العزوف عن تجسيد هذه الصفات بالفعل والاكتفاء بترديدها على مستوى الإنشاد والتغني، وكأنهم بهذا الموقف قد جعلوا من القصيدة ـ بكل ما فيها من صخب وعنفوان ـ بديلا لحركة الحياة، والقدرة على الممارسة، ومتابعة حبل اليقين الذي نسجه الشاعر بحنكة ومهارة في سياق معلقته. وهو الموقف الذي أدى بخصوم بني تغلب والراغبين في الإنقاص من مكانتها إلى أن يرددوا قول القائل:

ألهى بني تغلب عن كل مكرمة

قصيدة قالها عمرو بن كلثوم

يفاخرون بها مذ كان أولهم

يا للرجال لفخر غير مسئوم

لابد أن يكون هذا الصوت الناقد أو الشامت أو الهازىء صوت شاعر من قبيلة بكر الخصم اللدود لقبيلة تغلب، ولابد أن هذا الشاعر وغيره من البكريين قد راعهم حديث عمرو بن كلثوم في معلقته النشيد القومي لتغلب ولكل العرب:

وقد هرت كلاب الحي منا

وشذ بنا قتادة من يلينا

متى ننقل إلى قوم رحانا

يكونوا في اللقاء لها طعينا

يكون ثفالها شرقي نجد

ولهوتها قضاعة أجمعينا

ورثنا المجد قد علمت معد

نطاعن دونه حتى ربينا

نطاعن ما تراخى الناس عنا

ونضربُ بالسيوف إذا غُشينا

لغة سهلة وعذبة

لقد سكب عمرو بن كلثوم على معلقته ماء لغته الشعرية المتسمة بالرقة والسهولة، مما لا يكاد يكون له نظير في كل الشعر الجاهلي. أليس في هذا ما ينبغي للأناشيد القومية من لغة سهلة طيعة، وبعد عن الإغراب والحوشية والمعاظلة، وتدفق في التعبير، وموسيقى جياشة ذات إيقاع سريع وقافيةذات رنين ونفس متد مفتوح. إن الشاعر يوفق ـ دون أن يدري ـ لاكتمال الرسالة الشعرية التي تحملها المعلقة مصبوبة في لغة حارة متوترة، وموسيقى شعرية تحاكي تفاعيلها رقصة (العرضة) التي يؤديها أبناء الخليج العربي في مواقف الحماسة والنجدة والعنفوان، وأفق وجودي يرى الدنيا كلها بين يدي تغلب وفي قبضتها، فأي زهو بالحياة وأي يقين عربي بالبقاء والخلود!

في معلقة عمرو بن كلثوم يصبح جمال العربية جمال انتماء وجلال بطولة. ويتفجر معنى (اليقين) الذي عبر عنه شاعر الأمس هاتفا واخزا يوقظ عرب اليوم على معنى الحياة والوجود، استنهاضا لهمة مغيبة، واستنفارا لطاقة مضيعة، ونداء للتمسك بالثوابت والأصول.

فهل ينجح (يقين) عمرو بن كلثوم ـ بنبرته القومية العربية ـ في حثنا على خوض حرب (البسوس الكبرى) بيننا وبين العدو الصهيوني، حفاظا على الأرض والعرض والمقدسات، على الإنسان والهوية، على الحياة والوجود؟

إن صوت عمرو بن كلثوم مازال يتردد في فضاء الأرض العربية وفي أعماق النفس العربية:

لنا الدنيا ومَنْ أضحى عليها

ونبطش حين نبطش قادرينا

 

فـاروق شوشة