العمارة في الكويت هوية أصلية أم صورة مصغرة للعالم علي عتمان
حب الحياة وإغناؤها بالعناصر التي تحسن منها قيمة لا يدركها إلا من امتلأت نفسه بعشق الإنسانية، والحدب عليها، هكذا يحدثنا التاريخ من خلال الحضارات الإنسانية الباقية شواهدها في عمارات ضخمة كالمعابد، والتماثيل، والمدن المطورة وغيرها من عناصر. هذا الاستطلاع وإن كان يتعامل مع عناصر صامتة من الطبيعة إلا أنه يعكس بصورة ما وله الإنسان في الكويت بالحياة المفعمة بالهدوء والبساطة والتسامح. وما محاولته تطوير عناصر عمارته وربطها بجذوره العربية والإسلامية إلا دليل على ذلك.
ولكن في الوقت الذي كان يسعى فيه الكويتيون لإغناء الطبيعة بلمسات الإنسان المبدعة، ويقيمون من الصحراء شواهد حضارية متميزة، كان هناك من يدبر بليل لاغتيال هذه الخاصية المبدعة التي يتميزون بها منذ ما قبل أيام النفط عندما كانوا يركبون موج البحر الصاخب لشهور طويلة.
وعلى الرغم من همجية الغزو العراقي وقسوته.. فإنه لم ينجح في وأد الجذوة المبدعة عند الكويتيين، ولا إقبالهم على الحياة وتطويرها.
ولذلك تنشر "العربي" هذا الاستطلاع الذي كان مقررا له أن ينشر في شهر فبراير (شباط) 1991 ليتزامن مع احتفال الكويت بعيدها الوطني الثلاثين دون تعديل، لأنه يعالج هموما وقضايا حيوية لا تشغل العقل الكويتي وحده ولكنها تأخذ مساحة مهمة من العقل العربي كله، بالإضافة إلى أنه يبرز المفارقة القاسية التي تحيط بالإنسان العربي حيث يبدد بعض العرب بغباء ورعونة ممزوجة بالحقد، الإنجازات الحضارية لبعضهم الآخر.
أينما ذهبت سنرى تشكيلات متباينة من البيوت. تكوينات معمارية على مختلف الطرز والألوان، فهنا يمكنك أن ترى صورة مصغرة للعالم، قد ترى قلعة رومانية قديمة، أو بيتا من الريف الإنجليزي، وربما نموذجا صينيا، وكثيرا ما تملأ عينيك الأقواس تعلو نوافذ البيوت ومداخلها فتعطيك الإيحاء بإسلامية الطراز دون أن تكون كذلك بالفعل. فالمشهد المعماري في الكويت متنوع إلى حد فقدان الملمح الخاص الذي يكسب المدن تفردها. ولذلك تعلو الأصوات، وتكثر الاجتهادات المطالبة بالعودة إلى الينابيع الأولى، إلى الطراز المعماري العربي الإسلامي، والحفاظ على محلية الهوية. فهل يمكن تحقيق هذه الدعوة؟ وهل تلائم نماذجها العصر؟ وإلى أي مدى نجحت النماذج التي استهدت بهذه الفكرة في تشكيلها المعماري؟
هذه الأسئلة وغيرها قادت "العربي" في رحلة عبر الزمان والمكان إلى قلب العمارة المعاصرة في الكويت.. ومنها إلي العمارة العربية المعاصرة.
ونحن نجوب شوارع الكويت وضواحيها نقرأ أبجدية البيوت المعمارية ومفرداتها، لنعيد تركيبها، ونتعرف على طرزها، نستمتع أو ندهش ونتساءل، مدت بنا الأقدام إلى ضاحية حديثة النشأة، ضاحية "السرة"، البنايات فيها إما تم الانتهاء منها حديثا أو قيد الإنشاء. وهي تعكس بشكل ما الرؤية المعمارية السائدة في عقد الثمانينيات. ولذلك جاءت تصميماتها مختلفة عن تصميمات بيوت الضواحي الأقدم منها، ففي الكويت يمكننا تحديد طراز المبنى وزمنه من ملامحه ومفرداته المعمارية. وفي قلب ضاحية "السرة" جذب اهتمامنا بيت تبرز من واجهات ثلاث منه المشربيات التي كانت مستخدمة في بعض البيوت القديمة ثم اختفت، اقتربنا من البيت ودرنا حوله، إنها فعلا المشربيات التي عدها المهندس المصري الراحل حسن فتحي رمزا للعمارة المحلية المتجهة للداخل، للذات الجماعية بتراثها الثقافي والجمالي والاجتماعي، فنوافذ "المشربيات" تشبه النظارات التي تخفف من وهج الشمس ولكنها في الوقت نفسه بسبب طريقة تثقيبها وتخريمها الخشبي تسمح بالرؤية من الداخلي وتمنعها من الخارج، وتسمح للهواء والنور بالتسلل ناعما خفيفا إلى الداخل، ولذلك انتشر استعمالها في مدننا العربية منذ القرن الرابع عشر لملاءمتها نهار الصيف المشمس الحار.
خطوط المبنى الخارجية تتداخل مع الأقواس نصف الدائرية التي تعلو مدخله ونوافذه فتكسبه بساطة أخاذة، زجاج نوافذ الطابق الأرضي ملون ومعشق في تشكيلات هندسية مستمدة من الزخارف الإسلامية، كما أنها غائرة في جدار البيت المكسو من الخارج بالحجر. يبدو أن عناصر البيت من عناصر العمارة العربية. فالبيت من الداخل يتوسطه صحن تحيط به "لواوين" من ثلاثة أضلاع، أما الضلع الرابع فتطل منه أبواب الغرف ونوافذها على الصحن المسقوف بغطاء من البلاستيك المقوى بألياف زجاجية (glass Fiber) يسمح بنفاذ الضوء، ويحجب الهواء، والحوائط مكسوة بالقيشاني المزخرف بارتفاع يصل إلى منتصف النوافذ. نباتات الظل تتعانق بخضرتها النضرة مع ألوان المكونات المختلفة للبيت فتصنع مشهدا بصريا مريحا للعين. اللواوين* استخدمت كصالات مفتوحة. تقسيم البيت من الداخل يعطي اتساعا ملحوظا للمكان، فالعمارة هي فن هندسة الفراغ.
في حوارنا مع صاحب البيت "مشاري السنعوسي" قال "لقد استوحيت فكرة تصميم. هذا البيت من بيتنا العربي القديم، فقد لازمني الحنين إلى نمطه وعلاقاته المكانية والنفسية منذ طفولتي، لذلك حرصت على أن يكون بيتي قريبا من التصميم القديم، وكما ترون فقد حافظت على بعض مكوناته (الصحن واللواوين) واستهدينا بجماليات زخارف العمارة الإسلامية بلمستها البسيطة الشاعرية، مع تطويرها بما يلائم ظروف عصرنا وتقنياته. فمكيفات الهواء جعلتنا نستغني عن السقف المفتوح، ونباتات الظل استبدلنا بها الحديقة المكشوفة التي يجعل مناخ الكويت كلفتها عالية".
من أجل عمارة إنسانية
نخرج من ضاحية "السرة" المخصصة للسكن الخاص، التي لم تصنع الطراز المعمارية للبيوت فيها مشهدا معماريا متجانسا على الرغم من خلوها من المباني الاستثمارية ذات الطابع الوظيفي، وإن بدا جنوح كثير منها إلى مفردات وعناصر العمارة العربية، لندخل في قلب إشكالية العمارة المعاصرة في الكويت. البحث عن هوية، وهي نفس إشكالية العمارة العربية المعاصرة في أنحاء الوطن العربية فنحن نملك تراثا معماريا متنوعا اهتدت إلى عناصره المتوائمة مع ظروفنا المناخية والاجتماعية عبقرية الأجيال العربية المتوالية عبر القرون، تشهد بذلك مدننا العريقة دمشق والقاهرة والجزائر، والعمارة اليمنية، وعمارة المغرب العربي. ولكننا ككل شعوب العالم، ولأسباب كثيرة، تأثرنا بالطراز الحديثة للعمارة التي نشأت في الغرب، استجابة لظروف اجتماعية واقتصادية ومناخية خاصة بها. وبتأثير الاستهواء، وربما الاستسهال في التقليد والنقل طغى الوافد على الموروث في العمارة، فتشوهت مدننا وقرانا باختلاط الأنماط المعمارية التي يسودها التنافر أكثر مما يجمعها التناسق والتكامل. ومع الممارسة، وتنامى الإحساس بالشخصية القومية، طغت أزمة المفاضلة والاختيار، فتعددت الاجتهادات التي تصب في اتجاه البحث عن هوية للعمارة العربية المعاصرة.
فبالإضافة بلى من يأنس للأنماط الحديثة السائدة، ويلوذ بها كحل لمشكلة الطلب المتزايد على السكن، وبأنها تتوافق مع تقنية العصر وروحه، هناك من يحاول أن يضيف بعض مفردات العمارة العربية الإسلامية كالأقواس والزخارف للواجهات الخارجية للمباني الحديثة للإيهام بأصالتها، وكذلك هناك من يحدد عددا من الطراز المعمارية التي يرى أنها تستلهم روح العمارة الإسلامية ويفرض ألا يخرج عن دائرتها تصميم أي مبنى حديث.
ولكن أكثر المحاولات أهمية، تلك التي دعت إلى المزج بين مفردات وعناصر العمارة التقليدية أو المحلية وتقنيات العصر وروحه، من أجل خلق عمارة إنسانية تشبع حاجات الإنسان الضرورية في الأمن والسكينة، في إطار فني يسبغ عليها تشكيلا جماليا يمتع الذوق الإنساني ويرتقي به، على أن تتوافق مع البيئة المحلية وطقسها، وتعتمد على المواد المحلية المتوافرة.
ولقد كان المهندس حسن فتحي من أوائل الداعين لهذا التوجه كبديل لرفضه للعالمية في العمارة، أو الطراز العالمي، ولأنها كما يقول "تسلب البشر شخصيتهم المميزة، ليس من المعقول أن نشيد بيتا شرقيا في أوربا، أو بيتا أوربيا في الصحراء. من الخطأ نقل الأفكار المعمارية من بلد إلى آخر دون احترام الواقع المناخي المحلي".
العودة للينابيع
والعمارة- في رأيه- لا بد أن تكون مأخوذة من البيئة، بمعنى أننا يجب أن نعتمد على المواد المتاحة محليا التي كان يستعملها الإنسان العربي- إلى وقت قريب- وهي الطفلة والحجارة، ونضعها في يد المهندس، ونخضعها للعلم، بحثا عن تكلفة أقل، وعلاقة أقوى بمستخدم السكن.
ولأن جو معظم الوطن العربي حار وجاف فلا بد أن نعود إلى البيت القديم الذي يفتح على "الحواش" من الداخل، بحيث تكون الفتحات كبيرة على الصحن، وتكون أصغر حجما على الخارج حتى تهيئ الجو الرطب الملائم، مع تجميل الصحن بحديقة أو فسقية تريح النظر المطل عليها.
وقد وجدت هذه الدعوة استجابة عالمية، وتكونت حولها مدرسة في العمارة تدعو إلى العمارة البيئية أو العمارة المحلية، كنمط بديل لعمارة الكتل الخرسانية التي ضخمت أحاسيس الغربة عند الإنسان المعاصر وأفقدته العلاقة الحميمة التي تنشأ بينه وبين المكان والأشياء، وأيضا كنمط معماري تحل به مشكلة إشباع احتياجات السكان لمسكن ملائم يحفظ لهم خصوصيتهم وإنسانيتهم.
وفي عام 1977 تبنت مؤسسة الأغاخان للثقافة، هذه المدرسة، ورصدت عددا من الجوائز تمنحها كل عامين لأفضل التصميمات المعمارية التي توائم بين البيئة المحلية وقيمها الاجتماعية والثقافية والجمالية وبين مستحدثات العلوم في مختلف المجالات.
هواجس وتساؤلات
ولأهمية هذا التوجه المعماري، واحتوائه على عناصر يمكن أن تفيد تجاه البحث عن الهوية المفتقدة للعمارة العربية المعاصرة، كانت رحلتنا مع تجربة الكويت في تكوين بنائها المعماري، وتحديد ملامحها، واحتمالات استجابتها للدعوة إلى العمارة المحلية، لكونها تجربة حديثة النشأة والتكوين نسبيا، وغنية بالتجارب، وهي متأثرة إلى حد كبير بالطرز المعمارية الغربية، ومفاهيمها، كما أنها تعيش هاجس البحث عن الأصالة والمعاصرة.
ولم يكن الأمر سهلا كما تخيلناه في البداية.
فحركة العمران في الكويت نشطة للغاية، والمدينة بضواحيها الجديدة تتمدد في الصحراء فتحيل سكونها إلى حركة مفعمة بالحياة، منشآت معمارية تنتصب على جوانب الشوارع الجديدة الواسعة، مجمعات سكنية ضخمة، ووحدات للسكن الخاص، فالإمكانات متوافرة بدرجات نسبية، وما لا يقدر عليه الأفراد تتولاه مؤسسات الدولة، والحرية مطلقة في البناء، ولا قيود على اختيار نموذج المبنى أو طرازه إلا ما تمليه قوانين تنظيم البناء، ودواعي تقسيم المناطق واستخداماتها.
والمشهد المعماري غني بالنماذج الدالة على تطور العمارة. ولكن هل أشبعت هذه النماذج المتنوعة عند مستعمليها الإحساس بالألفة الذي كانت تشيعه في نفوسهم البيوت القديمة..؟ هل خففت من مشاعر الغربة والضالة التي تغزوه وهو يتحرك بين كتلها الخرسانية وشوارعها الواسعة التي لا يجد فيها حماية من قيظ الشمس أم ضخمتها..؟ وهل تعبر تكويناتها وملامحها الجمالية عن أصالة نابعة من إبداعه وبيئته؟
وهل يمكننا العودة إلى البيت القديم الذي تدعو إليه صيغة العمارة المحلية في ضوء الزيادة السكانية المتنامية، ومن ثم زيادة الطلب على السكن؟.
كل هذه الأسئلة وغيرها قادتنا ونحن نبحث عن إجابة لها عند أصحاب التجربة والاختصاص، وبعض المهتمين بالعمارة في الكويت، تخطيطا وتصميما واستعمالاً، إلى قضايا تدخل في صميم التكوين الثقافي والاجتماعي الاقتصادي للإنسان العربي في عمومه، ولم يكن ذلك خروجا عن النص بل اقترابا من جوهر الموضوع، ففن العمارة إبداع جماعي، وتتداخل في ساحته كل الفنون والعلوم.
البحث عن المعالم القديمة
كانت البداية قلب المدينة القديمة وأحياءها.. التي تمثل المركز الرئيسي لمختلف أنشطة الحياة في دولة الكويت. هنا يمكننا قراءة مراحل التطور المعماري من خلال الأنماط المعمارية للمباني القائمة، فعلى جوانب شوارعها المختلفة تنتصب عمارات أنشئت في الخمسينيات والستينيات. يجري حاليًا ترميمها وإعادة تشكيل ألوانها الخارجية بألوان حددتها البلدية لتلائم البيئة ومناخها، ولتتسق مع المنظر العام. عدد كبير من عمارات هذه الفترة يتم هدمها وإقامة عمارات حديثة مكانها. ولأن النشاط الحكومي والتجاري هو الغالب على المدينة القديمة فعماراتها يغلب عليها الطابع الوظيفي، لذلك تخلو من التشكيل المعماري المتكامل، فكل مبنى له جمالياته النابعة من تصميمه. وجميعها تنتمي للطراز العالمي في العمارة، سواء لكونها متعددة الأدوار أو لزيادة مساحة الواجهات والنوافذ المغطاة بالزجاج ما عدا قلة منها تميزت بتوافق تصميماتها مع البيئة، ومزجها ما بين المحلي من العناصر المعمارية وتقنيات العصر. منها قصر السيف، ومبنى مجلس الأمة، ومسجد الدولة الكبير، ومبنى صندوق التنمية، ومبنى مؤسسة التأمينات الاجتماعية، وبرج الصفاة، وسوق الأمير، بالإضافة إلى مبنى البلدية المجدد. ولقد أضافت البلدية بعض القيود الهندسية عند تصميم أي مبنى جديد لتقربه من ظروف البيئة، مثل استخدام العازل الحراري، والزجاج غير الشفاف، والألوان المتدرجة من الأبيض إلى اللون الترابي، وكاسرات الضوء.
ومثل أي مدينة بحثنا عن معالم الكويت القديمة فلم نجد إلا بعض المباني التي نجت من الهدم والتجديد الذي بدأ زحفه السريع من الخمسينيات. وتولي البلدية من خلال قسم التصميم العمراني الاهتمام بها، وترميمها لتتيح للأجيال الجديدة متعة اكتشاف جمال ماضيهم. وحاليا يتم هدم الأسواق القديمة وإعادة بنائها. وعلى الرغم من أن التخطيط العام لمنطقة الأسواق حافظ على ألا تتجاوز ارتفاعات المباني الجديدة ما كان مقاما من قبل وكذلك على شوارعها الضيقة، كما قال المهندس حامد شعيب رئيس مهندسي البلدية السابق، فإن عدم تناسق المباني الحديثة التي أقيمت فيها واختلاف ألوانها وأشكالها- ما عدا سوق الأمير الذي استوحى عناصر العمارة العربية- يثير الاعتراض والنقد، فالدكتور سليمان العسكري الأمين العام المساعد للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب يتساءل "كيف يهدم الشارع الجديد- في سوق "المباركية" الذي كان متسقا ومتناسقا أدوارا وألوانا، ثم تنشأ فيه أبنية بارتفاعات مختلفة، وألوان متناقضة تجرح الذوق ولا تلائم البيئة؟
ويمتد النقد من منطقة الأسواق إلى مناطق الكويت القديمة فيتساءل الفنان التشكيلي "جعفر إصلاح" لماذا لم يلتزم بالنسب القديمة التي كانت تميز المباني القائمة في مناطق الكويت القديمة عند بنائها، كما تفعل كل الدول وهي تحافظ على تراثها؟ ولماذا لم يلتزم بالألوان وكيف يسمح باستخدام الجرانيت الأسود في تكسية بعض المباني؟.
صورة بديعة
في الشارع المطل على الخليج العربي، والمسمى باسمه، شاهدنا نمط البناء القديم الذي تجسده بعض المباني القائمة حتى الآن كبيت البدر الذي تحول إلى بيت السدو، وبيت الغانم الذي يقام فيه المرسم الذي تشرف عليه وزارة الإعلام، وديوان الملا والروضان والرومي. استثارت تلك البيوت ببساطتها ورهافة خطوطها الخارجية خيالنا، فحاولنا تصور المشهد المعماري للمدينة القديمة فلم نجد إلا ذاكرة الأحياء، وبعض الكتابات المتناثرة هنا وهناك في كتب الرحالة الذين زاروا المدينة، أو بعض الذكريات المسجلة لمن عاشوا فيها. ومنها الصورة البديعة التي رسمتها "زهرة فريث" في مقدمة كتاب "العمارة التقليدية في الكويت وشمال الخليج" الصادر في لندن عام 1978 " لقد أثارني جمال مدينة الكويت القديمة، بجدرانها الناصعة البياض التي تبرز خطوطها المستقيمة بجلاء شديد ضد زرقة السماء الصافية، ولون البحر الداكن، وهوائها المنعش وأشكال مبانيها المحددة بظلال قوية، يخفف من حدتها انعكاس الضوء على سطح الساحات المرصوفة. كانت مدينة الكويت في الحقيقة تملأ النفسي بالسكينة والصفاء اللذين لا يعكرهما مرور الزمان.
وكان التعرض لأشعة الشمس الحارقة يجعل من الانتقال إلى الممرات الظليلة متعة لا تفوقها متعة أخرى. وكانت الجدران المبنية من الطين المحروق تملأ الهواء براوئح القش والأرض الطيبة، بينما يضوي نسيج الخشب المصقول في ظلمة الليل.
يتميز الفن المعماري الكويتي بالبساطة والمباشرة حيث لا يشوبه أي تلفيق أو سطحية، كامل في هندسته المجردة كمثال تمثال عظيم، وكما يجب أن تكون عليه الحياة فليس فيه أي افتعال أو ادعاء".
ويضيف المهندس سالم المرزوق، أحد المهندسين الكويتيين الأوائل الذين مارسوا أعمال الاستشارات الهندسية، إلى هذه الصورة ملمحا مستمدا من معايشته الحياتية "بيوتنا القديمة كانت تلبي حاجاتنا اليومية، وملائمة للبيئة، فالطين الذي يعد من أفضل العوازل الحرارية كان متوافرا والغرف المرتفعة كانت ترطب الهواء الذي كان يصلها من (البادجير) (1) فتخفف درجة الحرارة في شهور الصيف "وبالمرازيم" المصنوعة من الخشب كنا نتخلص من مياه الأمطار المتساقطة على السطوح.
"واللواوين" كانت تمنح الظل في " الحوش". كل هذه العناصر وغيرها كانت متوافرة. والمؤسف أن مدينة الكويت تعرضت للتدمير في الخمسينيات عندما تم هدم بيوتها لإقامة الوحدات المعمارية الجديدة، مع أن بعض الأصوات طالبت - وقتها- بالإبقاء عليها، ولكن الناس كانوا في ثورة، وظنوا أن الطراز الأوربي هو الأفضل، وفي تقديري وتقدير الكثيرين أن هذا التفكير كان سطحيا، وقد نتج عنه هذا الهذيان المعماري الذي يطغى على وحداتنا المعمارية".
كيف تطورت..؟!
تلاشى إذن المشهد المعماري القديم بتناسقه وتكامل عناصره، تحت ضغط هجوم الطراز الدولي الذي يتعرض حاليا للانتقاد العنيف في دول الغرب نفسها، ولم يلتفت المعماريون للطراز الكويتي القديم إلا في بداية الثمانينيات. عن هذا التطور الجذري السريع دار الحمار مع المهندس "حامد شعيب" رئيس مهندسي البلدية السابق، وأحد الاستشاريين البارزين، الذي أكد أن هذا الموضوع قد نوقش في مؤتمرات وحلقات نقاشية في الكويت وخارجها، لأنه يهم الإنسان العربي عموما. ثم قال " لقد استعملنا التقنيات الوافدة في قطاع العمارة في بداية نهضتنا المرتبطة بظهور النفط في الأقطار الخليجية، وقبلها بفترة أطول في الأقطار العربية الأخرى، كما هي دون فحصها أو تطويعها لتلائم البيئة، وظروفنا الاجتماعية- وهذا لا يعني أنه لم تحدث محاولات للتطويع في مصر والعراق، ولكنها كانت محاولات محدودة- وإذا كان هذا الاستعمال للتقنيات والأفكار المعمارية الحديثة بدا أسرع وأوسع في الكويت والأقطار العربية في الخليج- وهذه حقيقة- فذلك يعود لسرعة حركة التعمير في هذه الأقطار، مع التخلف النسبي في التعليم. بالإضافة إلى أن المواد المحلية سريعة التلف كالطين والجص، وعندما عثر الناس على المواد الحديثة أقبلوا عليها لأنها تدوم وأهملوا المباني القديمة".
أما الدكتور "سليمان أبو ستة" الذي عاصر حركة التعمير في الكويت منذ أواخر الخمسينيات فإنه يقسمها إلى مراحل.
الأولى في الخمسينيات: وهي مرحلة الخروج السريع من المساكن التقليدية المبنية من الطين والصخور البحرية والشندل (1) إلى بناء استخدمت فيه المواد الحديثة كالخرسانة المسلحة ولكن بدون تغيير في التصميم، فجدران الدور الأرضي ظلت تبنى بسمك كبير، والنوافذ ضيقة وغائرة في الجدار حتى تحد من شدة الضوء وحرارة الجو بالإضافة إلى "البادجير" والحوش.
المرحلة الثانية في الستينيات: وهي بداية الثورة على التصميم القديم واستعمال تصاميم مسروقة من التصميمات الأوربية، وأصبحت الكويت ميدانا لممارسة كل الأفكار والمذاهب المعمارية، فاستعملت البلكونات المكشوفة، والواجهات الزجاجية التي تلائم طقس أوربا الغائم أكثر من ملاءمتها لطقس الكويت والأقطار العربية، ولم يعط للعزل الحراري أو المائي أية أهمية، واستخدمت المواد الحديثة دون معرفة كاملة بخصائصها.
والمرحلة الثالثة في السبعينيات وقد تميزت بارتفاع مستوى الوعي والتعليم، فارتقى ذوق الملاك مقارنة بالستينيات، وقل النقل الأعمى للتصميمات الأوربية بعد أن أعيد تنظيم المكاتب الهندسية واستبعاد العناصر المقلدة من المهندسين الأجانب وغيرهم.
أما في الثمانينيات فقد تزايدت المحاولات للاستفادة من عناصر التراث المعماري، وهذا التوجه يجد إقبالا متزايدا على مستوى المباني العامة التي تقيمها أجهزة الدولة، وعلى مستوى البناء الخاص، خاصة بعد أن بدأت البيوتات الاستشارية الكويتية تأخذ مكانها في توجيه المهنة الهندسية، كما يقول المهندس المعماري "صباح أبي حنا".
الديوانية تكوين كويتي أصيل
من المباني الحديثة التي مزجت ما بين العصرية والعناصر المحلية " ديوان الشايع" بضاحية "الشامية" أقدم ضواحي مدينة الكويت. والديوانية جزء من البيت القديم الذي يسهل تردد الرجال عليه دون تحرج، بعيدا عن النساء، ليتناقشوا في أمورهم، ويقضوا الوقت، ويتبادلوا المجاملات الاجتماعية.
ولذلك كانت الديوانية تنال اهتماما خاصا عند بناء البيت، فأبوابها ضخمة أنيقة مصنوعة من خشب "الساج" المحفور، وكانت تترك مفتوحة في كثير من الأحيان والديوانية كانت هي المكان الوحيد في البيت الذي يمكن أن يحتوي على نوافذ تفتح على الشارع، ولم يكن لهذه النوافذ - في الغالب- أي ألواح زجاجية، ولكن كان الاقضبان حديدية ومصاريع خشبية، ومقاعدها كانت دككا مبنية من الطين، وأحيانا مقاعد حجرية. وفي بيوت الأثرياء كانت الحوائط تزين بحفر تكوينات هندسية على شكل زهور تكشف عن طين الحائط الداكن اللون الموجود تحتها، أو بعمل حواف مضلعة رقيقة مزركشة.
أما بعد التطور السريع الذي لحق بالعمارة تصميا ومادة، فقد انعكس ذلك على تكوين الديوانيات من حيث المواد المستخدمة، ولجوء بعض الأسر لإقامة ديوانيات منفصلة عن البيت، ومنها ديوان "الشايع" الذي جاء تصميمه على نمط ديوانهم القديم بمنطقة "البدع" الذي كان مبنيا من الطين والحجر والخشب- كما قال السيد عبدالعزيز الشايع- ولم يستخدم في بناء الديوان الجديد أي مواد حديثة سوى الخرسانة المسلحة، وقد حرص مصممه على أن تكون بيضاء مخشنة السطح حتى يتوافق لونها مع البيئة وطبيعتها، ويتجانس مع الحجر الذي كسيت به الواجهات الخارجية، كذلك استخدم نفس الأعمدة الخشبية بتيجانها التي كانت تصنع في الهند لتحمل سقف الليوان، والأبواب صنعت من خشب (الساج) وأخذت نفس تشكيل الأبواب القديمة، كما أن أبواب ونوافذ الديوانيتين الرئيسيتين- الديوان مكون من أربع ديوانيات- تفتح على " الحوش" غير المسقوف لكي تكون الإضاءة نهارا طبيعية، ولقد حرص المصمم على عمل كاسرات الضوء على النوافذ التي تعلوها أقواس مدببة، واستخدم "البادجير" لتهوية السرداب، ومساقط الضوء لإضاءته.
والديوانية الرئيسية التي تستخدم في المناسبات وفي شهر رمضان واسعة، تسع أربعمائة شخص، ومرتفعة السقف الذي زين بوحدات زخرفية إسلامية، وتحجب الرؤية من الخارج تشكيلات خشبية مثقوبة ومخرمة- كالمشربيات- تصل إلى منتصف النوافذ. كما أن الإضاءة تأتيها بدون مباشرة ومن فوانيس معلقة، والأرضية مفروشة بالسجاد الإيراني رائع النسيج والنقوش.
والديوان يبدو للرائي من الخارج تحفة معمارية تجمع بين الطراز الإسلامي وعناصر البيئة المحلية، وبين بعض مكونات العمارة الحديثة وتقنياتها.
نموذج حديث
ومن ضاحية "الشامية" نتجه إلى ضاحية "بيان" إحدى الضواحي الحديثة، بيوتها تجمع بين مستويات اجتماعية مختلفة، لذلك تنوعت طرزها المعمارية، بدءا من البيوت التي أقامتها هيئة الإسكان الحكومية لذوي الدخل المحدود، وانتهاء بقصر المؤتمرات الرائع الجمال الذي استهدى مصمموه في بنائه مفردات العمارة العربية.
في تجوالنا بها شاهدنا بيتا بسيطا في ملامحه الخارجية، نوافذه المطلة على الشارع قليلة، وضيقة، وغائرة في الجدران للداخل لكي تحمى من الضوء والحرارة الشديدتين، بابه الرئيسي هو أبواب البيوت القديمة نفسها التي كانت تعرف بالباب "أبو خوخة" لوجود باب إضافي صغير فيه يستخدم للأفراد، التشكيلات المفرزة في خشبه "الساج" مع رءوس المسامير بصفوفها توحي بالصلابة والرقة، الأقواس نصف الدائرة تعلو المداخل والنوافذ، خطوط المبنى المكسو بالحجر رقيقة، وتضفي الحدائق الخارجية المكشوفة رائعة التنسيق، عليه رهافة وشاعرية.
قادنا صاحب البيت عبر مدخل إلى ممرات تطل من خلال مساحات زجاجية بطول الحائط على لواوين مسقوفة، سقوفها محمولة على أعمدة خرسانية يربط بينها عقود نصف دائرية، واللواوين تحيط بفناء مكشوف- "حوش"- يتوسطه حوض سباحة صغير، الزجاج يسمح بنفاذ ضوء النهار للداخل بعد أن تكسر مناطق الظل التي تصنعها اللواوين من حدته.
النباتات الموزعة في الحوش، وأعلى حوائطه تكسب المكان ليونة وشاعرية. لون بلاطات الأرضية، وطريقة صنعها توحي بالقدم والعتاقة وتعطي مع الأثاث الموزع بمهارة في المكان ألفة البيوت العتيقة. ويؤكد هذا الإحساس الكوات (فتحات غائرة في الحوائط) الموزعة في حوائط الممرات بالعاديات الموضوعة فيها بعفوية. اللون الأبيض للواجهات الخارجية والحوش يكسر ضوء الشمس القوي في الصيف.
في حوارنا مع الدكتور فهد الراشد العضو المنتدب بالهيئة العامة للاستثمار وصاحب البيت قال: " لقد كان في ذهني ومخيلتي دائما بيتنا العربي القديم الذي كان في منطقة "القبلة"- أحد أحياء مدينة الكويت القديمة- حتى عام 1964، ولأني أشعر براحة نفسية وبألفة عند دخولي أي بيت قديم، ومع كثرة الترحال والسفر والتنقل- خاصة في مناطق أمريكا الشمالية- لفت اهتمامي التصميمات المعمارية الإسبانية والمكسيكية التي تزخر بها هذه المنطقة وتنبهت إلى قيمة التصميمات القديمة. ومنذ ذلك الحين والرغبة في أن يكون بيتي تصميما ومواد، وصنعة، قريبا من البيت العربي القديم لم تفارقني، ولقد اكتمل عندي الاقتناع بأنه التصميم الأنسب لأنه يحقق عدة أمور مهمة: أولها أنه يكسبني خصوصية لا ينازعني فيها أحد، فالحوش الداخلي ملكي وأسرتي نمارس فيه حياتنا بحرية كاملة دون خشية من اقتحام عيون الآخرين، كما أن الغرف وهي تطل عليه تزيد من الترابط الأسري النابع من وجود أهلك معك ومشاركتهم لك حياتك. وثانيها استخدام العائلة لكل مساحة البيت لممارسة الحياة بجميع وجوهها بما يناسب جميع أفرادها. وثالثها توافق التصميم مع طبيعة ومناخ الكويت الحار الجاف، فالحوش يعطيني الإضاءة والهواء الطبيعيين، كما أنه يربطني بالطبيعة- الخضرة والماء والهواء الطبيعي- "واللواوين، تعطيني الظل وتكسر الضوء والحرارة قبل وصولهما للممرات والغرف.
عند هذه النقطة تذكرت حوارنا مع السيد نوري مساعد الصالح الذي يرى أن "الحوش" المفتوح لا يصلح لجو الكويت لزيادة حرارة الجو صيفا. وكثرة هبوب الرياح المتربة (الطوز)، وأن العمارة المعاصرة يجب أن تجمع بين البساطة وسهولة الحركة والاستخدام، مع الاستفادة من العناصر الجمالية في العمارة العربية الإسلامية.
وغادرنا البيت الذي يؤكد تكوينه، وتصميمه، على أن تطويع التقنيات المعاصرة، واقتباس عناصر العمارة المحلية يمكن أن تبدع عمارة معاصرة تلبي احتياجات الإنسان، وتحافظ على الطابع المحلي.
محاولة تشكيلية
ثم نواصل قراءتنا لمفردات العمارة الكويتية فننتقل من "بيان " إلى ضاحية " سلوى " القريبة منها في المكان، والأحدث في البناء والتكوين تجذبنا مجموعة من البيوت متميزة بتكوين لوني بارز، يتكون من اللون البني الغامق المتناثر على أرضية ناصعة البياض تتخللها فتحات النوافذ الصغيرة. البيوت المكونة من سبع عمارات يفصل بينها شارع فيقسمها إلى جزأين تشكل وحدة معمارية متساوية الارتفاعات، يحيط بكل جزء منها سور شبيه بأسوار البيوت القديمة، ويعلو أعمدة أبوابه فوانيس للإضاءة. صمم هذه الوحدة المعمارية ونفذها مهندس كويتي شاب، صالح عبد الغني المطوع، درس العمارة الإسلامية، وزار أربعة عشر بلدا ليدرس عمارتها المحلية في أثناء إعداده لرسالته في الدراسات العليا عن "العمارة المحلية".
البيوت من الخارج تحمل الطابع المحلي الكويتي في بعض مفرداتها. فقد استخدم الباب الخشبي القديم "أبو خوخة" - اشترى بعضها من البيوت المهدمة، وكون أمام كل باب دكة من الخرسانة- بديل الطين- لتستخدم كمقاعد، ونوافذ البيوت ضيقة وزجاجها مكون من شرائح زجاجية متعددة الألوان، واستخدم قوائم "الشندل" الخشبية في تشكيلات جمالية- بدون استخدام وظيفي لها، كما كانت تستخدم في البيت الكويتي القديم كعوارض تحت سقف الغرف واللواوين-، واستخدم كذلك تصوينة السطح- عبارة عن حائطين متقابلين بينهما فراغ وهو "البادجير" أو ملقف الهواء- كتكوين جمالي، إذ إن وجود مكيفات الهواء أغنى عنه، وهذه التصوينة المرتفعة إلى حد ما كانت تحمي الأسرة - قديما- عند استخدامها السطح للنوم فيه صيفا.
عند تقسيمه للشقق من الداخل- على الطريقة الغربية- حرص على أن يجعل صالاتها، وغرف المعيشة بها تطل على الساحات الخالية الفاصلة بين العمارات المستخدمة كبديل "للحوش" في البيت القديم، وأقام فيها حوضا للسباحة، ومرافق للترفيه، وفى حوارنا معه قال: لقد قصدت باستخدام الساحات مقابل "الحوش" أن أخلق العلاقة الحميمة بين السكان من خلال خلق الإحساس بالوجود والمشاركة، لأن الصالات وغرف المعيشة هي أكثر أماكن الشقة التي تقضي فيها العائلة معظم الوقت، مع العلم أن المساحات المفتوحة في العمارة التقليدية (القديمة) كانت لها وظيفة، ولكنها الآن عبارة عن شكل فقط، خاصة في العمارات كثيفة السكان.
التقدم للعمارة العربية
وأيا كان الاستخدام وظيفيا أم شكليا، فالملاحظ أن هناك توجها يكتسب مساحات متزايدة في الرؤية المعمارية الكويتية يطالب بالعودة إلى الطراز القديمة في العمارة، وبعض منتقدي العمارة الحديثة يرى فرض هذا التوجه من قبل المؤسسات المسئولة عند بناء أي مبنى جديد، ولكن هنا تختلف الآراء حول هذا الأسلوب، وحول حجم ونوعية العناصر التي يمكن الاستفادة منها من عناصر العمارة الكويتية المحلية، والعمارة العربية الإسلامية، وأسلوب تضمينها للعمارة المعاصرة. فيقول محمد ناصر السنعوسي رئيس مجلس إدارة شركة المشروعات السياحية "ما هي العمارة المحلية التي كانت موجودة في الكويت..؟ إن الكويت كانت فقيرة في نماذج العمارة الإسلامية، وأنماط بيوتها القديمة جاءت استجابة آنية لواقع البيئة الفقير، حيث كانت تبنى من الطين في الغالب- والحجارة، وتصميماتها كانت نمطية".
ويقول "إن تصميمات العمارة الكويتية الحديثة ليست. نتاجا أوربيا ولكنها جاءت كبدائل للمواد الفقيرة، والكويت. منذ الخمسينيات- وحتى وقت قريب- كانت ميدانا لتجارب المهندسين الأجانب والعرب المتأثرين بالرؤية المعمارية الغربية. وانعدام التناسق، ووجود القبح في بعض الاختيارات المعمارية يعود إلى جشع التجار وأصحاب العقارات من ناحية، وفساد الذوق من ناحية ثانية. ولكننا في السنوات الأخيرة نلاحظ زيادة محاولات تطويع المواد الحديثة لظروف البيئة وكذلك تزايد الاهتمام بجماليات المبنى- بخاصة في السكن الخاص.
ومن قبل لم يكن عندنا رؤية جمالية، فلم نكن نعرف إلا لونين الأزرق القادم من البحر، والترابي لون البيئة المحيطة- بالإضافة إلى اللون الأبيض، لون ملابسنا، أما الآن فإن مستوى التذوق الجمالي ارتفع، ولكننا مازلنا في حاجة إلى تطويره، وحسن استخدامه. ولن يتم ذلك إلا إذا بدأنا برفع مستوى الذوق العام في مدننا بدءا من الشارع والميدان العام، وانتهاء بالبيت، وذلك كله رهن بتوافر مستوى مرتفع من التربية والتعليم والثقافة، وتكامل العمل المؤسسي، لأن العمارة فن وعلم، ونحن في حاجة للمبدعين فيها لخلق النماذج المعمارية التي تجمع ما بين العصرية ومتطلبات البيئة، وحاجات الإنسان".
أما المهندس "صباح الريس" من الاستشاريين الكويتيين الأوائل، ومصمم كثير من المباني العامة والخاصة فيقول: "إن العمارة كأي فن ينضج وينمو مع الحرية، لأن الحرية أساس لأي عمل إبداعي خلاق، كما أن العمارة فن لا تكتمل عناصره إلا إذا تواءمت مع البيئة التي تخرج منها، ولكن لا يعني ذلك أن أنقل نموذجا معماريا من عصر إسلامي معين لأعتبره هو النموذج الأمثل، ذلك لأن سنة الحياة هي التطور. فالتراث المعماري الإسلامي والهندسة المعمارية الإسلامية تطورا مع الزمن. نعم توجد قواعد ثابتة، ولكن كثيرا من العناصر المعمارية تتطور، ولكل عصر مشاكله ومتطلباته التي تفرض على المبدعين ابتكار حلول جيدة لها، وتكون نموذجا جيدا للمستقبل. إذا أردت أن أبني عمارة من عشرين طابقا- والتوسع الرأسي في البناء هو أحد الحلول لمشكلة الإسكان-، فكيف أطبق عناصر العمارة الإسلامية عليها..؟ هل يصلح الحوش هنا.؟ إن المطلوب الآن هو التقدم للعمارة العربية وليس الرجوع إلى العمارة العربية، وهذه مهمة المعماري الذي يجب أن يتحلى بعلم هندسي وثقافة واسعين، بالإضافة للشجاعة لكي يبتكر ما يلائم البيئة والقيم الاجتماعية.
لقد كنا أول من أدخل الخرسانة البيضاء، وتكسية الواجهات بالطابوق (الطوب) الجيري ليلائم جو الكويت، وأنا لست راضيا كمعماري عن التصميمات المعمارية الحالية، ولكني ضد وضع قيود على الخلق الفني لأنه لن يعطينا المردود الملائم".
أما المهندس المعماري "صباح أي حنا" الذي صمم كثيرا من الأبنية الخاصة والعامة وأشرف على تنفيذها منذ الخمسينيات وحتى الآن فإنه يرى "أن العناصر الأساسية التي تصلح أن تكون إطار، للطابع الكويتي في البناء هي تلك التي تعود إلى المجتمع والمناخ والطبيعة. فالعنصر الذي يعود إلى المجتمع هو الذي يتحكم في التوزيعات الداخلية، وفي مقاييس الفتحات الخارجية إذ إن درجة الخصوصية في أجزاء المبنى هي التي تملي درجة حجبها عن العامة.
أما عنصر المناخ فيعود إلى القساوة والتبدل الحاد بين حالة وأخرى. ولذلك فقد استجاب المعماريون منذ القدم لهذا العنصر باللواوين والجدران السميكة لحفظ الحرارة، وبالفتحات الصغيرة لتجديد دخول أشعة الشمس.
وأما عنصر المادة فهو الذي يجعل المبنى وكأنه ينمو من الأرض. فكلما استعملت المواد الطبيعية زاد انتماء المبنى إلى بيئته، لذلك فإن المواد الطينية، والطابوق- الطوب الجيري المصنوع من المواد الطبيعية المحلية- مهمان لتأكيد محلية المبنى".
وللمثقفين رأي
ولأن العمارة تعكس نمط الحياة الاجتماعية السائدة- كما يقول الدكتور سليمان العسكري- فإنه يجب التفرقة بين الخاص والعام، فالخاص هو كل ما يقع داخل المبنى، ولا قيود على حرية استخدام أو تشكيل صاحب المبنى له إلا ضوابط قوانين التنظيم، أما العام فهو ما يقع خارج المبنى من واجهات ومساحات محيطة. ولأن المنظر العام للمدينة كل متكامل، فيجب أن تسعى الأجهزة المعنية إلى ضبط مكوناته في إطار فني يعبر عن قيم المجتمع الثقافية والجمالية والاجتماعية. وهنا يبرز دور البلدية كمسئول أول على أن تساندها المؤسسات الأخرى بما فيها وسائل الإعلام المختلفة في تنمية الذوق العام، حتى تأتي اختيارات تكوينات المباني وأشكالها متكاملة مع الذوق العام، كما أن للمكاتب الهندسية دورا مهما في توعية المواطن والحكومة بأهمية الذوق العام الذي يحدد نوعية البناء الملائم لبيئتنا.
وأذكر هنا أن المجلس الوطني للفنون والآداب كان قد أصدر توصية بتخصيص 5 في المائة من تكلفة أي مبنى حكومي لتجميله بما يتفق مع المنظر العام وأرسلت إلى البلدية لتنفيذها، ولا أدري ماذا تم فيها.
وأعتقد أنه يجب على المكاتب الهندسية أن تقدم تصوراتها لإعادة تشكيل شارع "أحمد الجابر" في حي (الشرق) بحيث يكون صورة حديثة للمعمار الكويتي القديم، خاصة أنه ينتهي بقصر "دسمان"، ولأن النسبة الأكبر منه لم تبن حتى الآن. وأرجو ألا تصدر تصاريح لإقامة مبان جديدة فيه قبل تخطيطه وفقا لما كان عليه من قبل.
أما الفنان جعفر إصلاح فإنه يرى أن المعمار الناجح يترجم ويدمج جوهر المكان وجوهر الهوية الاجتماعية في شكل ذي أبعاد ثلاثة. وعندما يكون الحل شاملاً من الناحية العملية والناحية المعنوية (القيم والرؤى الفنية) يصبح العمل المعماري جميلا وناجحا إلى أقصى حد. ويأتي بمثال شوارع الكويت القديمة الضيقة التي كانت تعطي الظل للمنتقل في الشمس، ولأن البيوت على جانبيها كانت متلاصقة، وارتفاعاتها متقاربة ومتفقة مع بحر الشارع، فقد كانت بذلك تلبي حاجة نفسية عند مستعملها. أما الشوارع الواسعة التي اقتضاها استعمال السيارات فإن العمارات التي تنتصب عليها يجب أن تكون ارتفاعاتها ملبية لحاجة الإنسان للظل في مثل طقسنا الحار. وهذا لا يلغي الدعوة لضرورة أن تكون المدينة القديمة محتفظة بطابعها المعماري القديم، ثم يقترح أن تشكل لجان تحكيم وقبول التصميمات المعمارية من مهندسي البلدية وبعض الفنانين التشكيليين والمفكرين الكويتيين من ذوي الاهتمام بالذوق العام، كما تفعل إيطاليا التي توجد بها " لجنة الفنون الجميلة" حيث لا يقر تصميم أي عمارة جديدة إلا بموافقتها، وهي تتكون من فنانين ومعماريين، وكذلك في فرنسا واليونان، ومدينة قرطاج بتونس "إن هذه اللجنة يمكن أن تخلق التناسق بين العمارة القديمة والجديدة ".
والمهندس عبدالله قبازرد رئيس قسم التصميم بوزارة الأشغال سابقا يؤكد أنه لا يكفي أن تكون هناك ضوابط في اختيار النمط المعماري الملائم، بل يجب أن تكون الجهة صاحبة القرار التي يناط بها هذا الاختيار والتحديد متمتعة بذوق جمالي ومعماري متميز، كما يجب رفع مستوى المهندسين المعماريين فنيا وجماليا، لأن المتخرجين منهم خلال العقود الثلاثة الماضية درسوا العمارة كتابع للهندسة، ولم يتتلمذوا على معماريين بقدر ما نقلوا التصميمات دون فهم ويرى "أن اختيار المواد الملائمة للبيئة ضرورة يجب أن تحكمها القرارات، فاستخدام الرخام ذي اللون الأبيض كتكسية للواجهات الخارجية للمباني غير ملائم لضوء الشمس الساطع.، وأن استخدام الآجر (مواد ترابية طينية وفخارية ووزنه خفيف) يحافظ على العزل الحراري وألوانه ملائمة، وأن المصمم يجب عليه الاهتمام بالفراغات والتظليل، وزيادة الظل على الفتحات، وأن يقيم الاتجاهات الصحيحة للمبنى بصرف النظر عن رغبة المالك ".
توجهات مسثقبلية
إذا كانت هذه رؤى المثقفين، فقد كان ضروريا. أن نعرف رأي الجهة المسئولة عن التخطيط العمراني في الكويت، ونتلمس عند مسئوليها التوجهات المستقبلية لشكل وطابع المعمار الكويتي. فكان لقاؤنا مع المهندس "أحمد الجهيم" رئيس اللجنة الفنية بالمجلس البلدي، الذي أكد في البداية أن هناك توجيها بأن يأخذ الطابع البيئي المحلي وضعه في التخطيط العمراني العام، ولكنه لم يترجم بعد في نظام مقيد للبلدية ولجانها المتخصصة.
"والتخطيط في الآونة الأخيرة يأخذ- مثلا- روح الساحة أو الباحة- وبالمعنى الكويتي البراح- وهي المنطقة التي كان يلتقي فيها الشباب ليلا لقضاء أوقات فراغهم. ولكن استخدامها الآن تغير، فقد أصبحت تستخدم مواقف للسيارات، حيث تعطي الإحساس بالتجمع، لان البيوت تطل عليها من جوانبها المختلفة، وبالتالي يمكن عدها مكان التقاء لسكان المنطقة عند خروجهم أو قدومهم أو ممارسة بعض الألعاب الشبابية، وهذا إحياء لتقليد قديم.
وفي عام 1987 تكونت لجنة مشتركة من البلدية وجمعية المهندسين، وشاركت فيها جامعة الكويت لدراسة الوضع المعماري، واختيار نظام ملائم للكويت يجمع ما بين عناصر العمارة المحلية وتقنيات البناء الحديث، ولكن اللجنة لم تستمر، لأن هذا العمل يحتاج إلى جهد وتنظيم وإمكانات وأجهزة متفرغة، واللجنة أعطت توجيهات، ولكن التنفيذ يحتاج إلى متخصصين وذوي خبرات يضعون الأسس والأنظمة التي يجب تطبيقها، ويعملون على البحث المستمر عن أفضل الوسائل لمتابعة تطبيق أي أسلوب يوضع لإحياء أنماط العمارة المحلية ".
ويضيف المهندس الجهيم "في إطار هذا الوضع فإنه لن يكون هناك التزام بروح العمارة المحلية إلا إذا صدر تشريع يحدد الأسلوب الملائم في التطبيق وجهاز يتابع هذا التشريع. ولأن الهندسة المحلية أو الإسلامية يغلب عليها الزخرفة الهندسية وليس التجميلية، لذلك فإن المباني المرتفعة يمكن أن نعطيها روح الزخرفة الإسلامية بطرق ولو مبسطة مع الابتعاد عن الألوان الداكنة والأشكال الغربية حتى نحافظ على روح المحلية، أما السكن الخاص فمجاله غني لتطبيق الهندسة المحلية التي يشعر فيها المواطن بالبساطة، كما أنها تربطه بماضيه، ولقد زاد الاتجاه نحو هذه الأنماط في السنوات الأخيرة ".
وفي قسم التصميم العمراني بالبلدية التقينا بالمهندس نزار العنجري الذي حدد مهام القسم بأنها الحفاظ على المباني القديمة المتبقية كأثر تاريخي يبرز نمط المعمار الكويتي، وكما تفعل دول العالم التي تسعى للحفاظ على مدنها بنمط عماراتها، وبيئتها المعمارية، وحتى تكون هذه المباني التاريخية نموذجا يستهدى به في التصميمات العمرانية. ففي تونس لا يقام أي مبنى جديد إلا إذا كان متوائما مع النمط المعماري المحلي تصميما وألوانا.
ولقد قدم القسم دراسات لإعادة تخطيط وبناء منطقة السوق في الكويت القديمة، وتتابع وزارة الأشغال تنفيذه. ويشمل هذا التخطيط الحفاظ على الأسواق الحالية وترميمها أما الأسواق التي سيعاد بناؤها فإن تصميمها يلتزم بالارتفاعات المحددة، ومساحات الشوارع وتغطيتها مع استخدام بعض المواد التي استخرجت من المباني التي هدمت ومزجها بالمواد والتقنيات الحديثة، وكذلك الحفاظ على بعض المحلات القديمة بنفس وضعها ومساحتها.
وللحفاظ على المباني التاريخية في الكويت- 122 مبنى تاريخيا- فقد صدر قرار في فبراير (شباط) 1986 من المجلس البلدي تتضمن مواده ألا يتم هدم أي مبنى تاريخي إلا بعد موافقة قسم التصميم العمراني، ولقد أدرج في خطة الترميم 12 (اثنا عشر مبنى) فقط حتى الآن.
وماذا يقول البحث العلمي؟
وكانت نهاية رحلتنا حول التجربة الكويتية المعمارية في معهد الكويت للأبحاث العلمية، نسأل عن نتائج الأبحاث في المواد المحلية، ومدى ملاءمتها لبناء عمارة محلية. التقينا بالدكتور "عدنان الأديب" مدير دائرة البناء- قسم الهندسة الذي عرض للأبحاث التي أجريت في المعهد في هذا الحقل قائلا " لم ينطلق بحثنا في مواد البناء ومتعلقاتها من منطلق خلق عمارة محلية تعكس ظروف البيئة وتستخدم عناصر التراث لأنه مجال واسع جدا، ولكننا حاولنا النظر للموضوع من جوانب تقنية، من حيث البحث عن الخامات المحلية التي تدخل في التكوين المعماري البيئي، بهدف تخليق مواد تساهم في تقديم حلول لمشاكل هذا التكوين. من المواد المحلية المستخدمة في البناء وهي الرمال والصلبوخ (الحصى الذي يدخل في تكوين الخرسانة المسلحة)، والطين، والجير. والطين متوافر في البحر من ترسبات غرينية قادمة من شط العرب، وهي موجودة في. منطقة الصوابر وبوبيان. ولكن الطين لم يعد مادة مغرية للاستخدام، لأن الخرسانة المسلحة بها خواص أفضل وأوفر اقتصاديا، ولذلك فإن بحثنا يتركز في تخليق صلبوخ خفيف ليستعاض به عن الصلبوخ المستخدم في الخرسانة حاليا، حتى يمكننا الحصول على خرسانة خفيفة الوزن، تكون عازلا حراريا جيدا. وهذا سيساعد بالتأكيد في بناء العمارة المحلية، لأن الخرسانة المستخدمة حاليا موصلة جيدة للحرارة مما يستدعي استهلاك ما يقارب من 60 في المائة من الطاقة المنتجة في الكويت لتكييف المباني، ونجاحنا في هذه الأبحاث سيقلل من هذا الهدر الهائل في الطاقة.
ومع ذلك فنحن نجري معالجات بوسائل فنية ملائمة على الطين المتوافر بكميات كبيرة للبحث عن أفضل السبل لاستخدامها وبكلفة اقتصادية ملائمة".
وأضاف "في عام 1983 أعددنا دليلا للحفاظ على الطاقة في المباني نتيجة دراسات مكثفة في كيفية إيجاد سبل جعل المبنى عازلا للحرارة، وهذا الدليل الذي يتطرق إلى طرق بناء الجدران والأسقف، وفتحات النوافذ، وأنواع الزجاج المستعمل فيها، والمواد التي توفر عزلا حراريا جيدا يطبق في جميع مباني الكويت.
كما أننا نجري دراسات مشتركة مع شركة الصناعات الوطنية التي تصنع الطابوق الأبيض خفيف الوزن ليكون ذا قابلية للعزل الحراري الجيد- وجميع خامات هذا الطابوق (الطوب) محلية.
كما تجري دراسة أخرى في إمكان استخدام الرمال في صناعة الزجاج الرغوي أو (Eame glass)، والدراسات المختبرية أثبتت إمكان إنتاجه من الرمل، وهي مادة عازلة جيدة للحرارة ومكوناتها متوافرة محليا، وتستخدم في الأسطح. والدراسة المختبرية اكتملت، ونحن ننتظر الآن نتائج دراسة الجدوى الاقتصادية.
كما أن معهد الكويت للأبحاث العلمية يشترك مع بلدية الكويت في وضع مواصفات لمواد البناء ودليل للبناء، ودليل للأحمال. وهذه الدراسات تفيد في توحيد المواصفات الخاصة بالمواد الملائمة للبيئة المحلية".
وعند هذا الحد تتوقف الرحلة لنقول مع المهندس "عبد الواحد الوكيل" أحد تلامذة المهندس حسن فتحي إن العمارة هي أسطورة الحضارات، وتاريخها المنقوش على الحجر، ولطالما كان هذا التاريخ هو مرجعنا في تفهمنا لوعي الشعوب بأنفسها وبخصائصها القومية عبر تمثال، أو نصب ديني، أو عمارة دينية، أو مدنية. والعمارة التي تفقد قدرتها التعبيرية هي عمارة متخلفة.