من أين يبدأ التقدم؟ خليل حيدر

من أين يبدأ التقدم؟

قضية

معظم عذاب العرب وفشل المسلمين في بحثهم عن التقدم والتطور ناجم عن "الكمالية" التي ينشدونها، و"الثبات" الذي يبحثون عنه. نحن نفكر بالتقدم بنفس الطريقة التي نحلم بها مثلا بالإثراء السريع أو وقوع معجزة طبية تجنبنا مخاطر عملية جراحية معقدة.

لا نريد أن نقف مطولا ولا أن نفكر في التفاصيل. لا نريد أن نناقش مستلزمات هذه النقلة النوعية الكبرى في مستقبلنا، وأغلب الظن أننا نحلم بأننا قادرون على أن نجمع بين جلستنا المريحة اليوم، وما يتحدث عنه المثقفون من تقدم وتطور.

وينقل بعضنا تصوره الساذج هذا حتى إلى مستقبل انتشار الإسلام في العالم مثلا، فيعتقد أن مهمة المسلمين ستنتهي بهذه الغاية، وأن الهدوء الكامل سيعم العالم بعد ذلك، وينتشر في مجتمعات الدنيا كلها نوع من الاسترخاء الريفي الحنون.. إلى الأبد.

ولكن ما يفوتنا دائما تصوره، هو أن الوحدة العربية أو الإسلامية، أو النجاح في بناء مجتمعات عربية وإسلامية صناعية حديثة، ليس إلا البداية والمدخل، وأن طريقا طويلا لا يزال أمامنا.

فهناك مشاكل قومية وصراعات اقتصادية واختلافات سياسية وحياة يومية سيحياها الملايين من الرجال والنساء والأطفال، في مجتمعات مختلفة من ناحية درجة التطور والدخل والخبرة السياسية وغير ذلك.

إن سكان الوطن العربي مع نهاية هذا القرن سيصل عددهم إلى نحو ثلاثمائة مليون نسمة. ورغم أن دولنا ضمن البلدان القليلة الكثافة من الناحية السكانية، بما في ذلك مصر والمغرب واليمن، إلا أن نصيبنا من مشاكل التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ربما كان أكثر من غيرنا.

السياحة العربية

فالصناعة العربية ضعيفة، والزراعة أضعف منها، أما التجارة "المابينية"، أي التبادل التجاري بين الدول العربية، فهي تماثل الصناعة والزراعة في الضعف والمحدودية.

وهناك مجال كان من الممكن أن يدر على الدول العربية ألوف الملايين من الدولارات، وأعني السياحة. فى حين نرى نصيب مصر وسوريا والمغرب، مقارنة بأوربا، دون إمكانات هذه الدول السياحية بكثير، لقد أنفق الألمان عام 1991 نحو 52 ألف مليون مارك على سياحتهم الخارجية، في حين بلغ دخل فرنسا من السياحة في العام نفسه نحو 113 ألف مليون دولار.. فأين هذه المداخيل من مداخيل السياحة في الدول العربية حيث لا تصل في مصر مثلا إلى ثلاثة آلاف مليون دولار، رغم أن بلاد النيل تحوي أكثر من ربع آثار العالم التاريخية.. والمخفي تحت ترابها أعظم!.

ولو تأملنا عملات الدول العربية والإسلامية، لرأيناها على وجه العموم ضعيفة متردية، تعاني من مشاكل التضخم وعدم القدرة على شراء شيء من الداخل أو التحول بسلام للخارج.

في مقدمة هذه العملات مثلا الدينار العراقي، الذي ينبغي أن يساوي أكثر من ثلاثة دولارات رسميا، في حين وصل سعره إلى 165 دينارا عراقيا للدولار الواحد في يناير الماضي.

تصورات ساذجة

عندما نتحدث في مجتمعاتنا وفي كتبنا ومقالاتنا عن التقدم والوحدة، وبخاصة ما يصل منها لرجل الشارع العادي من معان، لا نتحدث عن مستقبلنا بواقعية صادقة آخذين بالاعتبار الحقائق الثابتة، والسياسات السائدة، والنتائج المتوقعة، بل يجنح بنا الخيال الوطني أو القومي أو الديني، إلى دنيا لا علاقة لها أحيانا بواقع المجتمعات العربية. ومن النادر أن يخاطب مثقف عربي أو كتاب مدرسي العقل العربي بنفس الطريقة الغربية أو الأمريكية المباشرة والواقعية والتفصيلية الدقيقة، البعيدة عن الخطابية والحماسيات.

إن فكرتنا السائدة عن التقدم والتطور لا تزال مثالية، ساذجة، غير مصوغة في ظل واقع حياة مجتمعاتنا وعناصر حياتنا اليومية وإمكاناتنا الحقيقية، كما أن تصورنا للمستقبل العربي والإسلامي على حد سواء لايزال، رغم كل ما مر بنا، ينزع نحو شكل "غير أرضي" من الكمال الحضاري والثبات السياسي، وكأننا نريد أن نستجمع طاقاتنا، ونوحد سيوفنا، ثم ننزل على التخلف بضربة رجل واحد، ونتخلص بذلك من هذا الشر إلى الأبد، ونعيش بعد ذلك، كما تنتهي القصص الشعبية، "في ثبات ونبات". فالتقدم الاقتصادي في الواقع مسئولية حضارية ضخمة قبل أن يكون امتيازا سياسيا واجتماعيا وقوميا. وهي مسئولية تتطلب شجاعة يومية وعلى كل صعيد في اتخاذ القرارات وتحمل الأعباء ومتابعة المسئوليات. وما الضغوط النفسية والأمراض الحضارية التي تعاني منها المجتمعات المتقدمة، إلا بعض ضرائب التطور الاقتصادي الذي لم يعد منه بد، إن كان أي مجتمع ينشد التقدم وتحقيق الرخاء وضمان التوظيف الكامل لطاقات الأمة.

ليس التقدم إذن مجرد امتلاك مصانع الصلب والقدرة على إنتاج السلاح. ولا يمكن للعرب والمسلمين أن يتخلصوا من التخلف بضربة واحدة، ولا يوجد علاج سري سحري سريع شامل لهذا التخلف، ولن تنقذنا زعامة ملهمة أو أيديولوجية معينة بطريقة "كن فيكون".

لن يأتي يوم ينجز فيه العرب والمسلمون مجتمعهم المثالي، الخالي من المشاكل، والمبرأ من العيوب والمثالب.. فنحن على الأرجح، لن ننجح فيما فشل فيه الأوربيون والأمريكيون واليابانيون!.

إن التقدم والتحديث في الوطن العربي عملية معقدة متداخلة، تتفاوت فرص نجاح تفاصيلها بين بلد عربي وآخر. ومن الطبيعي والواقعي والمفيد حتما أن تتدخل مصالح وقوى وهيئات وجماعات ضغط مختلفة في تطورها.

لا ينبغي بعد اليوم أن نفسح المجال لطغيان التصورات المثالية عن التقدم والتحديث والتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ولا ينبغي أن نبحث عن "أجيال خاصة" نقية الدين والعروبة، كي تبني دولنا. ذلك أن المجتمعات العربية، سواء بنيت بالإسلام أم بالعروبة، بالدين أم العلمانية، لن تبنى إلا بالطابوق الاجتماعي "غير الكامل المواصفات"، والذي نراه هنا في الكويت وفي مصر وفي دول الخليج العربية وبلاد الشام وشمال إفريقيا.

كيف تحصل على مليون دولار؟

فعلينا إذن، ألا نبدأ نهضتنا من فكرة مثالية، بل من الوقائع الاقتصادية المعقدة، والمصالح السياسية المتعارضة، والمستويات الاجتماعية المتفاوتة، بل حتى من أشد أنواع الأنانيات المدنية والعسكرية السائدة. إذ لن ينزل على أرضنا بشر مثاليون، أو عرب وحديون خلص، أو مسلمون معصومون ملهمون، لإنجاز مهام التقدم الحضاري.

إن التقدم أن تبدأ من مكانك.. دون أن تبقى فيه.

وأن تتحرك إلى الأمام، ولكن في الاتجاه الصحيح. وأن تستمتع بخيرات التقدم وتتحمل تبعاته.

لكي نتقدم لا بد أن نتخلى عن الشعارات العريضة والأهداف الحالمة. فمن يرد التقدم حقا يضع لنفسه هدفا متواضعا.. تلو هدف!.

قرأت ذات مرة في كتاب أمريكي عن أيسر السبل للحصول على "مليون دولار".

ولقد علمت حقائق الحياة الاقتصادية للأمريكيين بأن يحترموا الألف ألف دولار. وإذا سألت الواحد منهم كيف حالك، وكان في أفضل حال، قال "إنني أشعر كمليون دولار"!.

وكانت نصيحة الكاتب هي أن من أكبر مآسي الباحثين عن الثراء أنهم لا يضعون لأنفسهم في البداية هدفا متواضعا، كأن يحاولوا أولا الحصول على خمسين ألف دولار مثلا!.

وقد يصدق هذا على أهدافنا وشعاراتنا المرفوعة، والتي تبلغ من الجمال والمثالية حدا يجعلها مستحيلة التطبيق، وإن طبقت فهي مستحيلة الاستمرار. وهكذا نرى توقعاتنا دائما في انحدار وأحلامنا في انكسار.

فالكثير من أهدافنا المعلنة تعكس خيالنا لا قدراتنا، وتعبر عن أمانينا لا إمكاناتنا.

إن الوطن العربي منطقة تزخر بالإمكانات الحضارية وفرص التقدم الحقيقية والثروات. ولقد أثبتت القدرات البشرية والفنية العربية ذاتها في مختلف المهن والمجالات المتقدمة في أوربا والولايات المتحدة.

ولكن المجتمعات العربية لا تزال بعيدة بشكل مؤسف، عن إدراك الأبعاد الحقيقية والواقعية لعملية التطور ومضمون المجتمع المتقدم، والثمن الاجتماعي والسياسي المطلوب لهما.

فهل نرفع عن قلوبنا وعن عيوننا هذه الغشاوة؟!

 

خليل حيدر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات