إلى أن نلتقي

 إلى أن نلتقي

أضواء الأقدام.. موسيقى الأيادي

تقول زوجتي - بين ضحك وجد - إنني مثل طفليّ تستهويني اللُّعب، فأتحيّر، لأن معظم لُعبنا أنا والأولاد جديرة حقاً بالاستهواء. كاللعبتين اللتين اشتريتهما أخيراً، لهما، ولي، وللبشرية كلها!

اللعبة الأولى هي مذياع ترانزيستور صغير يعمل بإدارة ذراع صغيرة فيه، وكل ثانيتين من إدارة الذراع تكفي لتشغيل المذياع نصف ساعة بوضوح صوتيّ رائع. هذه اللعبة ابتكرها مخترع إنجليزي، وأنتجتها لأول مرّة شركة في مدينة الكاب بجنوب إفريقيا، وتحمس لها كثيراً نيسلون مانديلا وهو في سُدّة الرئاسة. ولابد أن هذه اللعبة داعبت ذكريات بعيدة لدى مانديلا، إذ إن المذياع الذي لا يحتاج إلى بطاريات أو كهرباء كان سيغدو عزاءً كبيراً لو أتيح له أثناء سنوات سجنه الانفرادي الطويلة في جزيرة روبين. كما أن نيسلون مانديلا ابن البراري الإفريقية، لابد، أدرك بإنسانية عميقة وبُعد نظر، أن مذياعاً كهذا يمكن أن يكون رفيقاً جيداً للناس في الأماكن المعزولة والنائية، التي لم تصلها الكهرباء بعد، ويعجز كثيرون فيها عن شراء بطاريات جديدة صغيرة لمجرد مذياع صغير.

اللعبة الثانية على شكل (طبنجة) أنيقة، بألوان فسفورية مبهجة، وكل ضغطة على زنادها تجعل مصباحاً بمكان الفوهة يتألق بالضوء لنصف دقيقة كاملة. فالضغطة تعبّئ زنبركاً يدير مولداً صغيراً يعطي تياراً يجعل المصباح يضيء. وهذا المصباح قادر على العمل تحت الماء، كما فوق الأرض. والطريف أنه كان أحد أسرار الجيش السوفييتي الذي زوّد به جنوده منذ العام 1956، وخرج السر كما خرجت أسرار كثيرة من خباء هذه المؤسسة الجبّارة، التي كانت عماد إمبراطورية جبّارة، فككها الزمن، وكيد العدا، والكذب على الذات.

لعبتان ذكّرتاني بمصباح دراجة الصبا، الذي كان يضيء بإدارة العجلات لرأس مولد صغير، وبقوة الأقدام لا أكثر. وتذكّراني - اللعبتان - بمأثرة فيتنامية مدهشة، تأكدت من حدوثها عندما أسعدني حظي بزيارة ذلك البلد الحبيب الصبور أخيراً. ففي زمن الحرب، لم يكن هناك إمكان لحصول الفيتناميين على كهرباء من مولدات تعمل بالوقود، لتضيء مدارسهم ومشافيهم وأنفاقهم المحفورة في الأعماق. وتحت وطأة الشدائد، فرّغوا جيشاً من الفتيات، يتناوبن في مجموعات لركوب دراجات معلقة كالتي نراها في صالات الألعاب الرياضية. وعندما تدير الأقدام الرقيقة البدّالات، تنتقل حركة العجلات عبر سيور، فتدير عنفات مولدات كبيرة، وتنتج كهرباء تكفي لإضاءة حياة كاملة تحت الأرض.

إنني مشغول الآن بأخذ حصتي من اللعبتين الجديدتين، قبل أن تؤممهما الأيادي الصغيرة. وأفكر في عبقرية البساطة هذه. كم توفّر مالاً، ومصادر طاقة، وتحافظ على البيئة. يكفي لو نعرف أن صناعة البطاريات تستهلك طاقة أكثر مما تنتج، ومخلفاتها من أعسر الملوّثات. أمّا حركة الأقدام والأيادي، فهي بركة حقاً على صحة القلب، والشرايين، والمخ، والمزاج.

فهل أكفّ عن التعلق باللُّعب؟!

 

محمد المخزنجي