هل توجد دراما إسلامية؟ وليد إخلاصي

هل توجد دراما إسلامية؟

قضية

لماذا لم تعرف الثقافة الإسلامية في أزهى عصورها المتباينة الشكل الدرامي السائد والذي عرفه العالم بأشكاله المتعارف عليها، مع أنها كانت مليئة، في حقبها الاجتماعية المختلفة ومراحلها السياسية المتباينة، بالأحداث والشخصيات والمواقف الدرامية، والتي لا تقل أهمية وخطورة عن تلك الأحداث والشخصيات التي صنعت الدراما الإنسانية العظيمة؟

مع رقي الفنون في العصور الإسلامية المتعددة، من عمارة وزخرفة وقصص فلسفية عالية المستوى وموسيقى وشعر، فإن أحدا من المبدعين، من عرب وغيرهم، من أقوام دخلت في نسيج الثقافة الإسلامية بتسليم أو إعجاب، لم يستطع أن يكتب بالشعر أو بالنثر شكلا مسرحيا يمكن لنا أن نقول إنه دراما مسرحية، وبمعنى آخر، إن الموضوعات الكبرى أو الأحداث الخطيرة أو الشخصيات العظيمة لا تكفي لصناعة المسرح، لأن التاريخ الإسلامي أصلا مليء بتلك الموضوعات والأحداث بل والشخصيات التي لعبت دورا في التأثير فيمن حولها وفي صنع التاريخ نفسه، ومن طرف آخر، فإن المسرح لا تصنعه إلا تلك العناصر ومن دونها فإن الدراما لا تصبح فنا عظيما من فنون الإنسانية المبدعة. وليس الهدف من هذه المطالعة تقصي ذلك الخلال البين، إذا جاز المصطلح، أو البحث عن أسباب غياب الدراما من ثقافتنا العربية الإسلامية، أو في التأكيد على ظهور أو تحقق بوادر المظاهر المسرحية، فالباحثون من قبل وحتى أيامنا هذه ما زالوا منشغلين في التنقيب عن الظاهرة المسرحية سلبا أو إيجابا، ويقينا أن التاريخ الإسلامي في رحلته الطويلة، بدءا من تشكل جذوره أيام إبراهيم عليه السلام، ومن ثم في تجليات بداياته المدهشة مع الدعوة المحمدية، وانتشاره بعد ذلك مع الفتح الإسلامي الذي أعلن تفجرات المثاقفات المختلفة والغنية مع حضارات عديدة، ومن ثم تعثراته عبر مراحل من العصور التالية وتفاعلاته اليقظة مع أمم وشعوب عديدة وإنجازاته الحضارية المدنية، هذا التاريخ الإسلامي إنما هو تسطير لدراما إنسانية عظيمة الشأن في الثقافة الكونية، وإن كانت تلك الدراما لم تأخذ الشكل الفني المألوف في أي من إنجازاتها الفنية المكتوبة.

وفي العصر الحديث، ومع اليقظة الفكرية التي رافقت نهايات مرحلة الجمود الثقافي العثماني الذي ساد قرونا، والتي لازمت فترات الاستعمار الغربي، فى هذا العصر الذي بدأت فيه ثمار المثاقفة مع الغرب الأوربي على وجه التحديد بالتفتح، أخذت الدراما العربية سبيلها إلى الإبداع النثري وبشكل أقل إلى الإبداع الشعري، وضمن خط من القفزات المتلاحقة في نسق التطور، لتصبح موازية في الأهمية للشعر نفسه ولفن القص، وهما من الفنون الأدبية ذات الجذور العميقة والأهمية البالغة للناس، وظهرت نصوص مسرحية مختلفة متباينة في مدى اقترابها من جوهر الثقافة العربية الإسلامية، أو أن نصوصا منها على قلتها وقعت في فخ التأريخ لحركة الإسلام كدين مجرد وليس كثقافة كونية شاملة، لذا فإن معظم هذه النصوص لم تحقق فهما عميقا لحركة الدراما في الثقافة الإسلامية. ومن الخطأ الشائع أن يكون مجرد التصوير التاريخي لجانب ما من الحياة الإسلامية وبخاصة ذلك الذي يحمل جانب الإشادة أو الفخر، هو تحقيقا لشيء يمكن تسميته بالدراما الإسلامية، كما حدث في أعمال صورت بطولات مطلقة وأحداثا نظر إليها من جانب واحد، دون أي تجسيد لجوهر الدراما الأساسي.

البحث عن شكل درامي

وعدد قليل من الأعمال المعاصرة المسرحية في أدبنا العربي، حاول بإخلاص وفهم فني سليم أن يعبر عن روح الدراما، كما فعل على سبيل المثال عبدالرحمن الشرقاوي في مسرحيتيه "الحسين ثائرا" و"الحسين شهيدا"، أو عز الدين المدني في "ديوان الزنج" أو صلاح عبدالصبور في مسرحيته "مأساة الحلاج" أو سعدالله ونوس في مسرحيته "مغامرة رأس المملوك جابر"، أو ممدوح عدوان في "ليل العبيد" أو فرحان بلبل في "الممثلون يتراشقون الحجارة"، أو محمود دياب في "باب الفتوح" أو محمد الماغوط في "المهرج "، وهي أمثلة قليلة للتذكير بالنسبة التي تنتمي إليها الأعمال الدرامية التي حاولت استخلاص المواقف الدرامية من الثقافة الإسلامية الطويلة الأمد، إلى الكم الهائل من الأعمال المسرحية المكتوبة. وهنا يمكن أن نؤكد أن مسرحية عربية لا تمت بصلة إلى تاريخ الثقافة الإسلامية، لا يعني أنها بعيدة عن روحها بأي حال، إلا أن محاولتنا هذه في الاستطلاع، إنما هي للبحث عن شكل درامي للثقافة الإسلامية الغنية. ولنضرب مثلا على الجوهر الفكري لأي دراما، فنقول إن مسألة خطيرة كالفداء الإسلامي الذي يقابله في الثقافة الغربية الفداء المسيحي الذي تجلى في فلسفة التضحية التي أظهرتها تلك الثقافة في تقديم السيد المسيح قربانا لخلاص البشر، فكانت أساسا للبنية الكلية لتلك الثقافة، إن مسألة كهذه لم تتضح في الدراما العربية المعاصرة وهي تغفل ما قدمه إبراهيم عليه السلام وهو ينصاع لأوامر ربه في ذبح ابنه، وكيف شاءت القدرة الإلهية أن تكافئ تسليمه المؤمن باستبدال الفتى المطيع بكبش عظيم، وفي هذا برهان على أن الثقافة الإسلامية لم تدخل بقوة في بنية الإبداع العقلي الأدبي الدرامي، بل إن التدين الآلي هو الذي طالما تحكم في تلك البنية، فكان الأثر البليغ في الآداب هو للتصوير السطحي الذي لا يطال العمق أو إنه الإنكار المجاني والتمرد الطفولي على الثقافة الإسلامية، ومن تلك الأسباب التي أدت إلى هذا أن مفهوم التراث أخذ عند الكثيرين شكلا سلفيا جاهزا دون قدرة على حواره، وفي أنه ابتعد عن الرؤية الفلسفية الواعية والعقل النقدي الصلب في التدقيق والتمحيص. والثقافة الإسلامية كما يمكن معرفته من مدوناتها التي لا حصر لها، زاخرة بالموضوعات والشخوص والمواقف التى يمكن لها أن تفجر عشرات الأعمال الدرامية بل والأشكال التي تفرض نفسها من خلال موضوعاتها، فلا تكون هناك حاجة للبحث عن "تأصيل" أو غيره للعثور على شكل عربي، فالمشكلة ليست في الشكل، بل هي في العثور على جوهر الدراما نفسه، وإذا كانت تلك الأسباب لم تستطع في الماضي أن تعبر عن نفسها بشكل مسرحي، فإن الخبرة التي أكتسبها الكتّاب في عصرنا، تسمح لهم بالتنقيب الجاد عن كنوز درامية مختبئة في رمال الماضي، وبالوعي النقدي الصحى يمكن لهم أن يشكلوا دراما إسلامية غنية لا تقل في أهميتها وجمالها عن الدراما عبر الكون القديم والجديد.

أمثلة من التاريخ

ولنضرب أمثلة على موضوعات من تاريخ الثقافة الإسلامية، أي الحياة الإسلامية عبر عصورها، لا تعني بأي حال بتأريخ مرحلة، قدر ما إنها تحمل في أحشائها بذور الدراما العظيمة التي يتجلى فيها صراع الإنسان مع نفسه أو مع بيئته أو مع القدر الذي رسم له، أو أنها تلخيص لمأساة الروح والعقل في صراعهما الدائب من أجل الكشف والتحقق.

مثال: ماذا حدث مثلا لغيلان الدمشقي؟ لقد أعدم أيام حكم هشام بن عبدالملك الأموي، لأنه طرح على الناس بأن الإنسان مخير، ومثل هذا الرأي كان يضعه آنذاك في صف الزنادقة على الرغم مما عرف عنه من إيمان، ولمثل هذا السبب ضيقت السلطات على المعتزلة، وحكاية المعتزلة في حد ذاتها رحم لأشكال وأنواع من الدراما المختلفة، وهي باختصار ابتدأت من حلقة "الحسن البصري" إذ دار هناك نقاش حول الذي يرتكب الكبيرة، فكان ثمة رأي يقول بكفره ورأي آخر يقول بإيمانه، ثم جاء "واصل بن عطاء" ليقول إن مرتكب الكبيرة ليس بكافر وإنه كذلك ليس بمؤمن صادق الإيمان، فغضب الحسن البصري فاعتزل بن عطاء حلقته، ليتبعه من بعد ذلك جماعة أطلق عليهم لقب المعتزلة.

في المرحلة الثانية ولنقل فى الفصل الثاني من هذه الدراما، اشتهر المعتزلة بأنهم أصحاب الرأي المستقل، وبهذا تكون خصما للذين أطلق عليهم "أهل النقل" فتقتصر أفكارهم على ما ينقلونه من آراء السابقين. واشتد عود المعتزلة برجالات كبار منهم، حملوا لواء العلم والتفكير الحر، فقربهم المأمون الخليفة العباسي المستنير، فكانوا بدفع منه عاملا على نقل الفلسفة اليونانية، التي ابتدأت كذلك خطواتها من قبل، وفي العمل على التوفيق بينها وبين الإسلام. وابتدأ الخط الدرامي بالتصاعد، حين أمر الخليفة المأمون، الذي هو نفسه حمى حرية الرأي، بعزل القضاة الذين لا يقولون بأن القرآن الكريم مخلوق، وعلى سبيل المثال دفع الإمام أحمد بن حنبل ثمن ذلك التعسف. وفي المرحلة النهائية من دراما الصراع الذي قام بين العقل والنقل، جاء الخليفة المتوكل بسلوك من عسف آخر، فلاحق المعتزلة وطاردهم في كل مكان، وتألب الخصوم عليهم متمثلين في شخصيتين كبيرتين هما أبوالحسن الأشعري والإمام الغزالي. هذه الدائرة المحكمة من الدراما الغنية بالمأساة التي لحقت بالفكر، هي أيضا تظهر طريقة نمو الأفكار عبر حقب إسلامية مختلفة، وهى أيضا ستكشف عن استمرار الطريقة التي يمكن للأفكار أن تلاحق فيها، فتصبح الدراما المحكمة، لو كتبت عن تلك الحقبة والأشخاص، نموذجا يمثل العصر الحاضر أيضا، وتلك واحدة من أهداف الدراما العظيمة، أن تبقى حية عبر العصور.

مثال آخر: هناك روايتان حول مصرع "شبيب بن يزيد" الذي تولى الحرب ضد الأمويين بعد مقتل زعيم الخوارج "صالح بن مسرّح " وشبيب رجل قتال بكل ما في الكلمة من معنى، وهو الذي أثار غضب "الحجاج" في عجز رجاله عن لجم قوة الفارس الخارجي وتهديداته المستمرة لهيبة الدولة في منطقة الكوفة وغيرها. وأما عن الروايتين، فهي أن خيانة حدثت بين أنصار شبيب، فقطعوا حبال الجسر المقام على نهر "دجيل"، فوقع في الماء، والرواية الثانية وهي أسطورية على ما يبدو اخترعتها مخيلة الناس لتعيش طويلا من بعد ذلك، وتقول إنه كانت بين يدي شبيب فرس أنثى فنزا فرسه عليها وهو على الجسر فاضطربت ونزل حافر رجل فرس شبيب على حرف السفينة فسقط شبيب في الماء، ولم يستطع لثقل سلاحه أن يسبح وينجو، وقدرت وفاته في العام 77 للهجرة. وتصل الدراما إلى ذروتها في موقف أمه، وهى أسيرة رومية دخلت في الإسلام، وكان شبيب ينعى لأمه عقب كل معركة يخوضها فيقال "قتل" فلا تقبل، وهو في الحقيقة لم يقتل، وعندما حدثت الواقعة وقيل لها آنذاك "لقد غرق" فقبلت صابرة وقالت "إني حين ولدته رأيت أنه خرج مني شهاب نار، فعلمت آنذاك أن رجلا مثله لا يطفئه إلا الماء". وأم شبيب بحدسها الفطري والتاريخي، كانت على ما يبدو في الحكاية تعلم منذ قدوم شبيب إلى الدنيا قدر ابنها في الحياة، وهي أبدا على ما يبدو تعلم أن حياته منذ البداية التي أحستها وحتى النهاية التي قدرتها، إنما هي ضمن علاقة الشهاب الساطع بالماء القادر على إخماد الجذوة، فالموت التراجيدي في حقيقته أو في أسطوريته، هو تصوير لدراما كفاح الإنسان، مهما كانت عقيدته ومواقفه، في انتصاراته أو في انسحاقه، وأهمية الثقافة الإسلامية هي في أنها ساهمت في تقديم صور ومواقف وشخوص استطاعت أن تغني مشهد العظمة البشرية على مد العصور، وتبقى الحاجة إلى كتاب يصنعون منها الدراما الفنية العظيمة.

 

وليد إخلاصي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات