الانهيارات العربية.. من المسئول?

الانهيارات العربية.. من المسئول?
        

بعد الانكسار العسكري أمام الجيش الإسرائيلي عام 1967, شهدت الساحة العربية الانهيار وراء الآخر, بحيث أصبحت المجموعة العربية في النظام الدولي أقل مجموعة تحظى باحترام بقية العالم والدول الكبرى, لماذا?

          لا حاجة إلى سرد المآسي العربية المتتالية, من الخلافات بين الأنظمة العربية نفسها, ولو كانت تنتمي إلى المدرسة العقائدية نفسها, إلى الحرب العبثية ضد جارتنا إيران, وإلى الغزو الغاشم للعراق لأراضي الكويت, مرورًا بكل التدخلات العربية المتناقضة في حرب لبنان الشعواء على مدى 15 سنة. واليوم دخلت سورية في الإعصار الدولي, مما يزيد من الوضع المجهول الذي نتخبّط فيه كعرب في المسيرة الدولية, التي تقودها الولايات المتحدة بأشكال مثيرة للجدل إلى أبعد الحدود.

          لذلك لابد أن نسأل: ماذا فعلنا بأنفسنا لكي نصل إلى هذه الحالة المخزية من الانحطاط والتفجّر والتمزّق, ورغبة العنصر الشاب العربي في مغادرة أوطانه للعيش في أرجاء العالم بعيدًا عن هذه المعمعة المثيرة?

          ما أسهل الموقف الذي يعفي كل الفاعلين في أمتنا العربية من أي مسئولية نحمّلها, إما للمؤامرات الخارجية, وإما لمطابخ المخابرات العربية, التي نعتقد أنها تتحكم كليًا بأنظمتنا السياسية. وبموازاة هذا الموقف المضحك, شهدت الساحة العربية موقفًا موازيًا في تبرئة سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط مدّعية أنها خاضعة تمامًا لحفنة من المحافظين الجدد المتحالفين مع قوى الضغط الصهيونية في أمريكا, وأنه لولا ذلك لم يكن هناك أي مشكلة بيننا وبين العملاق الأمريكي الذي تهادنه أنظمتنا إلى أبعد الحدود, وكأن هذا العملاق ليست له أي مطامع في السيطرة على العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولذلك, ونظرًا لهذه البراءة, فنحن, أنظمة وإلى جانبها العديد من المثقفين ورجال الأعمال, نستمر في موالاته, وفي الإيمان بأن نياته تجاهنا هي صافية وديمقراطية الطابع حقًا, بل أكثر من ذلك فهو الذي يخلّصنا من أنظمتنا السياسية ذات الطابع (الإبليسي) التي لا تعلم كيف تتصرف في النظام الدولي, وكيف تحصل على احترام المنظومة الدولية.

تراجع الفكر العربي

          إن هذه المواقف لهي في الحقيقة أكبر مصدر لضعفنا وانهياراتنا المتتالية, ذلك أنها ترفض رؤية الواقع بتعقيداته, وتسمح لنا بالاستمرار في الاتجاه الانحطاطي الكبير الذي نمشي عليه منذ أكثر من نصف قرن. وأود هنا أن أشير بشكل خاص إلى مسئولية المثقفين العرب الذين, في غالبيتهم, لم يوظفوا طاقاتهم العقلية في بناء صرح ثقافي وحضاري متين يحول دون قيام الأنظمة السياسية العربية بالتصرفات التي نشكو منها, فالجدير بالذكر أن مسيرة النهضة الفكرية العربية التي انطلقت ببعثة رفاعة الطهطاوي - الشيخ المصري الأزهري الجليل - إلى باريس في بدايات القرن التاسع عشر, وقد تعممت هذه المسيرة في أرجاء مختلفة من الوطن العربي, مشرقًا ومغربًا, قد توقفت بعد انهزامنا أمام إسرائيل ودخولنا فيما بيننا في صراعات عقائدية سطحية, تعكس الصراع الإيديولوجي بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. فقد انقسم المثقفون العرب حينئذ بين فكر ليبرالي وفكر اشتراكي, بالإضافة إلى الموجة العارمة لما سمّي تيار (الصحوة الإسلامية) كنقيض لهاتين المدرستين, وذلك على إثر التراجع الحاد في الفكر القومي العربي العلماني الطابع, الذي تعرّض لضربة شديدة مع هزيمة عام 1967, وقد تحوّل الجزء الأكبر من المثقفين العرب إلى مجرد مروّجي عقائد حادة اعتبرت أداة سحرية لإخراج الأمة العربية من انحطاطها المتجدد, فإما ماركسية حادة وإعجاب بالاتحاد السوفييتي, وإما ليبرالية على الطريقة الأمريكية, وإعجاب بالولايات المتحدة, وإما أخيرًا الهروب إلى الأمام بصحوة دينية رفعت شعار (الإسلام هو الحل) لإسكات كل من الطرفين العقائديين المتناقضين. ومع انتشار وتوسع وسائل الإعلام العربية المسموعة أو المكتوبة, تحوّل العديد من المثقفين العرب إلى جيوش سياسية تستعمل قلمها في مناقشة الأحدث اليومية من هذا أو ذاك المنظور العقائدي, وإلى موالاة أو معاداة هذه أو تلك من الأنظمة العربية حسب شبكات النفوذ التي انخرطوا فيها.

          ونتج عن هذا التطور الخطير انقطاع مطلق عن التراكم المعرفي من أجل التكيّف مع العالم الحديث الذي كان قد قام به روّاد النهضة العربية, ابتداء من الطهطاوي, ومرورًا بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده, والأمير شكيب أرسلان وأحمد فارس الشدياق وأحمد أمين وقاسم أمين ولطفي السيد والكواكبي, وساطع الحصري وأمين الريحاني وخير الدين التونسي والشيخ عبدالحميد بن باديس, وانتهاء بطه حسين وقسطنطين زريق. وقد اختفت من المكتبات أعمال هؤلاء الرواد, وحل محلها كتابات سطحية غزيرة تأخذ بالحلول السحرية الماركسية أو الليبرالية أو الدينية الطابع, والتي لا تمتّ بصلة إلى المشاكل الحقيقية للوطن العربي, بل هي أصبحت عنصرًا من عناصر التفرقة والفتنة بجميع أنواعها. وقد أصبح بعض المثقفين العرب رموزًا سياسية محضة, كتاباتهم في غالبيتها صحفية الطابع وهجومية, تهتم فقط بالحدث اليومي وتئوِّله حسب أهوائهم العقائدية, وكأن الحدث اليومي هو الحدث المركزي في تاريخ الأمة (خاصة الانتخابات الأمريكية والإسرائيلية أو تطورات الحرب في أفغانستان أو في الشيشان أو في البوسنة, أو ما يقوله هذا أو ذاك من المسئولين الغربيين حول الشرق الأوسط), وسرعان ما يأتي حدث آخر, فيتحمس المثقف الإعلامي للحدث الجديد ولتأويلات جديدة لا تصلح جديتها إلا بمدى أيام أو أسابيع محدودة. ومن جرّاء ذلك, فقد الجمهور العربي أي رؤية واضحة للمشاكل التي يتخبّط فيها, ولأسباب الحلقة المفرغة لانحطاط لا نهاية له.

          ومما زاد الطين بلة في السنين الأخيرة الكتابات السطحية والحادة في آن معًا, التي تلقي على العوامل الداخلية فقط مسئولية الانحطاط, وفي مقابلها كتابات أخرى تحمّل العامل الخارجي المسئولية في هذا الانحطاط المريع, وكأن لا علاقة معقدة بين العوامل الداخلية والعوامل الخارجية, أو كأن النظر إلى الدنيا هو ثنائي الطابع فقط, فإما الشر فينا كلنا كعرب, أو هو آت كليًا من الخارج ليفسدنا.

          وهناك سبب إضافي لتدخل القوى الخارجية في شئوننا الداخلية. فهي تسكت إذا كان النظام القمعي يسير على هواها في السياسة الإقليمية والدولية. وتقيم الدنيا وتقعدها إذا كان النظام لا يتجاوب مع الرغبات الخارجية في السياسات الإقليمية والدولية. والأنظمة العربية واقعة تحت كماشة بين معارضي الداخل وطلبات الخارج المتغيرة والمتحركة. وإذا كان من حق الناشطين في السياسة والشأن العام التهجّم على ممارسات أنظمة قمعية, فإن هذه التحركات لم تؤد إلى تغيير ما نحو الأفضل بشأن الحريات مادامت المعطيات العامة التي وصفناها لم تتغير, ومادامت لم تبرز قوى ثقافية وحضارية جديدة تعيد التواصل مع روّاد النهضة العربية.

          إن تخبّط الأنظمة العربية في العشوائية والقرارات غير العقلانية وغير المدروسة هي نتيجة هذا الفراغ الفكري الذي نعيش فيه, ونتيجة غياب المنظومة الحضارية المتماسكة, التي تضع الضوابط للعمل في الشأن العام كما في الشأن الخاص.

          وتظهر هذه الضرورة أكثر إلحاحًا عندما نعيد قراءة أعمال روّاد النهضة العربية السابق ذكرهم, بعمقها الفكري والمعرفي ونقارنها بهزالة وسطحية العدد الأكبر من الإنتاج الثقافي والمعرفي والحضاري السائد في ساحتنا العربية خلال العقود الماضية. وما يثير الانتباه أن الإشكاليات التي كانت تحاط برواد النهضة العربية من تفكك السلطنة العثمانية والظروف السياسية الدولية السائدة حينذاك, والهجمة الاستعمارية على الأقاليم العثمانية, وتفشي الفساد, وسوء توزيع الدخل, هي ذاتها التي تحيط بنا اليوم, لكن هيهات بين عمق ورصانة كتابات روّاد النهضة العربية, وضعف الإنتاج الثقافي وفراغه من أي محتوى ملموس خارج المجادلات العقيدية العقيم وتبسيط الأمور, والنظر إلى الدنيا بثنائية قاتلة. ويبدو أن نظم الإدراك اليوم قد تقلصت إلى أقصى الحدود بالمقارنة مع الماضي, ولذلك هذا الفشل المتواصل الذريع في جميع الميادين: أكان في التضامن الذي ينبغي أن تتميز به العلاقات بين الأنظمة العربية تجاه الهجمات الخارجية, أم في إقامة الحد الأدنى من نظام العدل داخل الأنظمة وتطوير المعارف والعلم والتكنولوجيا.

الغياب العلمي العربي

          وكما هو معلوم, فبالرغم من ثرواتنا النفطية والبشرية, ونحن نصدّرها إلى الخارج بشكل مفرط, فنحن لانزال نتخبط وراء الأبنية الشاهقة وناطحات السحاب والسيارات الفخمة, في بحر من التخلف وعدم المشاركة في النهضات العلمية والتكنولوجية والصناعية والخدماتية المتتالية, التي دخل فيها العديد من دول العالم الثالث التي كانت أكثر فقرًا منا في بداية الخمسينيات, وقد أصبحت اليوم من عمالقة إنتاج الإلكترونيات, وهي لم تستمتع بوجود ثروات نفطية ومعدنية لديها كما هو الحال عندنا, وهي أيضًا عانت من الحروب والتوترات السياسية الضخمة, التي أحاطت بها (كوريا, تايوان, ماليزيا, الصين, الهند...إلخ).

          وفي اعتقادي أن عجزنا هذا ناتج عن سببية معقدة وليس عن سببية أحادية الجانب كما يتصور معظم المحللين, ومادمنا لن نتناول هذا التعقيد بالروية والبصيرة. فإننا سنراوح مكاننا التعيس في هذه الدنيا. فهناك العديد من الأسئلة المزعجة, التي لابد من طرحها لكي نتلمّس بعض جوانب الخروج من النفق المظلم الذي نحن فيه, ومن بين هذه الأمثلة ما يدور حول عجزنا عن القيام بمهمتين أساسيتين لم نولهما أيّ نوع من الاهتمام: إحداهما ثقافية حضارية أخلاقية, والأخرى علمية واقتصادية وتكنولوجية, وهما قضيتان مركزيتان يتكاملان للخروج من حلقة الانحطاط المتواصل.

أولاً: انعدام القدرة البحثية والفكرية

          ماذا نفعل لتقوية القدرة البحثية في شتى أنواع العلوم الإنسانية وعلى رأسها التاريخ والفلسفة?, وهما من العلوم الأساسية, التي لابد من بنائها بشكل منظومة متكاملة متراصة متماسكة. يرتاح إليها كل إنسان عربي, كما هو الحال في الحضارات والثقافات الأخرى. وتكملة, ماذا نفعل لإطلاق حرية الاجتهاد الديني? وهي التي أمنت رونق الحضارة الإسلامية في عصورها الأولى, وهي التي تميز بها فكر روّاد الإصلاح في عصر النهضة العربية, التي توارت تحت الرمال, ويجب بعثها مجددا, ولامجال لتطوير مثل هذه المنظومة دون حوارات مكثفة ومعمّقة, وإنتاج بحثي واسع يتكامل مع الزمن, ولو أنه يتباين في الاستنتاجات والتأويلات. فالتاريخ والفلسفة والسوسيولوجية ملك الجميع, ولا أعتقد أن هناك عقبة أمام هذا النوع من الأبحاث العلمية, مادام المثقف العالم لم يحد عن رسالته المعرفية بالانجرار وراء العمل الصحفي والإعلامي والتعرض الحاد لهذا أو ذاك من الأنظمة العربية.

          والقليل من المؤسسات الثقافية القائمة في الوطن العربي, نراها, في كثير من الأحيان, تدخل في دوامة النشر الغزير دون التصويب على المجالات التي يجب التركيز عليها, ناهيك عن مئات من الندوات التي تقام في كل أرجاء الوطن العربي ولا تأتي بجديد, وهي في معظم الأحيان تضع قائمة المواضيع المطروحة للمناقشة. حسب ما يأتي من الخارج من تيارات فكرية أو شعارات براقة أو مواضيع سطحية وسخيفة تتكرر من سنة إلى أخرى, نذكر منها على سبيل المثال الشرق الأوسط الكبير, تعميم الديمقراطية, صدام وحوار الحضارات, الأصالة والحداثة, العولمة, الغزو الثقافي الغربي, الإسلام والقومية العربية... إلخ. من مثل هذه المواضيع المطّاطة وغير المركّزة.

          وكما تبيّن من دراسات عديدة حول وضع العلوم في الوطن العربي وتوافر القدرات البشرية الكبيرة (وبشكل خاص دراسات الدكتور أنطوان زحلان المنشورة من قبل مركز دراسات الوحدة العربية), فإننا نمتلك الإمكانات الكبيرة لتحقيق التقدم العلمي والمعرفي المتسارع, إنما دولنا ومجتمعاتنا لا تولي هذه القدرات والإمكانات أي اهتمام يُذكر إلا في بعض الحالات الاستثنائية القليلة. وبالتالي تبقى تلك القدرات مكبوتة غير مستنفرة وغير مستثمرة في إطار جهود جماعية لإجراء نهضة فكرية وثقافية وحضارية ثانية, دعا إليها أخيرًا الباحث اللبناني د.ناصيف نصّار المختص بتطور الأيديولوجيات الفكرية عند العرب. ومن المؤسف حقًا أن نرى القليل جدًا من التفاعل بين الشخصيات العربية الباحثة في العلوم الإنسانية, فيبقى كل باحث وكأنه وحيد لا يشير إلا قليلا لأعمال الباحثين الآخرين لخلق عملية التراكم المعرفي التفاعلي ضمن عملية بناء منظومة فكرية عربية تغتني بهذا التراكم والتفاعل, فتفتح الأفق الجديد وتشجّع العنصر الشاب في توسيع طاقاته الفكرية وتأمين صوابية إدراكه وشموليته بالنسبة إلى تطور الوطن والبيئة المحلية الإقليمية والدولية.

          وممّا يزيد الطين بلّة, ليس فقط قلة الإنتاج الفكري, إنما أيضًا تجزئة أسواق النشر العربية, فيصعب على مثقف من قطر عربي معيّن التعرف على ما ينشره المثقفون الآخرون في أقطار عربية أخرى قريبة أو بعيدة. أضف إلى ذلك أن خبرة الشباب العرب الذين يطوّرون قدرات بحثية وفكرية يهاجرون للانخراط في شبكات العلم والمعرفة في الدول الغربية الكبرى فنخسرهم في الوطن خسارة كبيرة, بالإضافة إلى كون البعض منهم يكيّفون أبحاثهم وكتاباتهم لمناخ وإشكاليات المنظومة الفكرية الغربية بعلاقاتها المتنافرة مع المنظومات الفكرية الأخرى في العالم (أكانت صينية أم هندية أم يابانية أم عربية), ويذهب بعضهم إلى الانخراط في كتابات سطحية عدائية تجاه وطنهم العربي الأصلي. وهذا بالفعل وضع مؤسف للغاية, وهو إحدى الدعائم الأساسية لحلقة الانحطاط والتخلف التي نتخبّط فيها.

قدرات ابتكارية

          ماذا يفعل القطاع الخاص في مجال الأبحاث والتطوير وتشجيع الابتكار في شتى الفنون الإنتاجية, أكانت زراعية أو غذائية أو صناعية أو خدماتية لكي تدخل المجتمعات العربية في نهضة إنتاجية كبرى, نحن بأمس الحاجة إليها لأسباب عديدة وجوهرية? أولها ضرورة إيجاد فرص العمل للجيل الشاب الذي يعاني من انسداد الآفاق المهنية أمامه, ولذا يهاجر الشاب الفقير, كما الشاب الغني المتعلم, ليجد فرص عمل في بيئة مختلفة, متماسكة, توفر لمن له الإرادة القوية فرص النجاح في الحياة العملية. ونحن نرى باستمرار, ما يحققه المغتربون العرب, ذوو الكفاءة والاندفاع من نجاحات باهرة في جميع القطاعات في الخارج, من النجاح في إدارة شركات غربية كبرى, أو النجاح في ميدان الطب والصحة أو في مجال العلوم الدقيقة (الرياضيات, الفيزياء والكيمياء) أو في الترقي لدى وزارات مهمة في أوربا أو الولايات المتحدة أو أجهزة الأمم المتحدة. وهذه طبعًا خسارة أخرى كبيرة للوطن العربي.

          ومن الموسف حقًا ألا يقوم القطاع الخاص العربي بتكريس أي جهد يذكر في إنشاء المختبرات وفي تحسين جودة الإنتاج المحلي, وفي تدريب متواصل للقوى البشرية العاملة فيه, وفي تشجيع المهندسين والمهنيين لتطوير القدرات الابتكارية في كل مجالات الإنتاج الصناعي أو الخدماتي أو الزراعي. ونحن نعلم اليوم أنه بتراجع تدخل الدولة في الاقتصاد, وهو اتجاه عالمي, أصبح القطاع الخاص هو الذي يقوم بالأبحاث والتطوير لتأمين جودة الإنتاج والخدمات ولتشجيع الابتكارات التكنولوجية الجديدة ضمن إطار زيادة التنافس الدولي الذي تفرضه حركة العولمة, والمنطقة العربية - كما تدل الإحصاءات - هي أقل منطقة في العالم بعد إفريقيا جنوب الصحراء تنفق على الأبحاث والتطوير, وأن القطاع الخاص لايزال فيها بعيدًا تمامًا عن هذا النوع من الإنفاق.

          وهذه هي الدعامة الثانية في حلقة الانحطاط والتخلف التي نتخبط فيها. والجدير بالذكر هنا أن دول شرق آسيا أو دول أمريكا اللاتينية كانت أكثر فقرًا من بعض الدول العربية في بداية الستينيات, وقد عانى المجتمع الكوري من عقود من احتلال وحشي لأراضيه من قبل اليابان, وتعرض لحرب شعواء أدت إلى تقسيم بلاده قطرين. كما أن جزيرة تايوان كان سكانها من الريفيين المعدومي الحال. أما ماليزيا فكان ينظر إليها على أنها ستنفجر حتمًا بسبب الصراعات المذهبية والعرقية بين العناصر الهندية والصينية والماليزية المسلمة, وها هي اليوم نجحت نجاحًا باهرًا.

          وفي هذا الخصوص نتساءل هل قام القطاع الخاص العربي والحكومات العربية بالتشاور حول ما يجب فعله لاختيار قطاعات إنتاجية وخدماتية معينة يمكن أن نركز عليها? وكذلك حول ما يجب فعله لتملك أحدث التكنولوجيات فيها للدخول في المنافسة الدولية بكل كفاءة? وهل تمّ التشاور حول ما هي الأساليب التي يجب اتباعها للنجاح في ذلك على غرار ما فعلته الدول الأخرى التي استنفرت جميع إمكاناتها البشرية والمالية والتعليمية للارتقاء إلى عالم الصناعات والتكنولوجيات الحديثة? إن العكس هو ما حصل في الوطن العربي, فالعلاقات بين القطاع العام والقطاع الخاص ظلّت علاقات لا تهم بشكل أو بآخر باكتساب العلم والتكنولوجيا, بل كانت هادفة إلى حصول القطاع الخاص على امتيازات ضريبية مختلفة (دون بذل أي جهد في الأبحاث والتطوير) بحجة تحسين المناخ الاستثماري, والإبقاء على مواقع احتكارية أو شبه احتكارية في الأسواق الداخلية لتعظيم الأرباح دون إعادة استثمارها في ميادين رئيسية, لاكتساب القدرات العلمية والتكنولوجية. وكما هو معلوم فباستثناء قطاع البتروكيماويات, تركّزت بشكل إجمالي حركة الاستثمارات العربية, في الداخل وفي الخارج, على القطاع العقاري والسياحي والخدماتي, الذي لا يحتوي على قيمة مضافة عالية. وقد بقي القطاع المالي العربي محصورًا على مصارف تجارية الطابع, ولم تتطور أي نشاطات مالية لها علاقة بما يسمّى الرأسمال المغامر, أو بتشجيع الابتكار الصناعي والتكنولوجي, خاصة من أجل مساعدة العنصر الشاب المتعلم والديناميكي. وهذا هو السبب الرئيسي في بقاء المنطقة العربية خارج شبكات الاستثمار الأجنبي, التي توجّهت نحو البلدان التي يظهر فيها القطاع الخاص الحركية والديناميكية في المجالات الحديثة من التكنولوجيات.

نحو نهضة إنتاجية وفكرية

          وأخيرًا في هذا المجال يمكن أن نقول إننا لو كنا دخلنا في نهضة إنتاجية ومعرفية شاملة على غرار الشعوب الأخرى العديدة التي ذكرناها, ولو كنا قد أمنّا فرص العمل اللائقة وبالأعداد الكافية للشباب العربي, لم تكن لتظهر هذه التنظيمات التكفيرية والجهادية التي تسيء إلينا وتدق استقرار مجتمعاتنا.

          ومما يزيد من اندفاع هذه الحركات غياب مواقف جريئة لدولنا في النظام الدولي, لكي نقف وقفة تضامنية أمام دولة إسرائيل ومواصلتها لابتلاع الأراضي الفلسطينية خلافًا لكل قرارات مجلس الأمن والجمعية العمومية ومحكمة العدل الدولية. إن النفور السائد منذ إنشاء الجامعة العربية بين الأنظمة القطرية المختلفة والانصياع الذي أصبح شبه تام لإملاءات الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل هما العاملان الأساسيان وراء توسّع هذه الحركات التكفيرية التي يجب ألا ننسى أنها نشأت بظروف الحرب الباردة بتشجيع من الولايات المتحدة.

          هذا هو الواقع المرير الذي نتخبط فيه ولا نجد له مخرجًا, فنقع في إعادة إنتاج تخلفنا وزيادة هامشيتنا في النظام الدولي, بالإضافة إلى تعرض المجتمعات العربية الواحد تلو الآخر إلى ضربات قاضية من النظام الدولي, كما حصل للشعب الفلسطيني والشعب الكويتي والشعب العراقي وربما غدًا شعوبًا أخرى, ناهيك عن الحروب الأهلية في لبنان والسودان وغيرهما من البلدان العربية, ونحن في هذا المجال, كمثقفين أو كرجال أعمال, بارعون في التملّص من أي مسئولية, إذ نلقي المسئولية كاملة على دولنا وأنظمتنا السياسية, وكأنها هي هابطة من  السماء فوق رءوسنا وليست جزءًا من مجتمعاتنا وطرق تفكيرنا العقيم والساكنة, التي تتجنب الدخول في أي تفكير معمّق, وفي أي نوع من أنواع التصرفات العقلانية المبنية على تراكم معرفي جدّي وواسع الأفق, بدلاً من التقوقع والحنين إلى أمجادنا التاريخية القديمة, ودون النظر إلى الجهود التي تمّ بذلها في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين, في إطار النهضة العربية الأولى التي أجهضت كما ذكرنا سابقًا.

          إن الانقسام الحاد حاليًا في معظم الأقطار العربية حول أسباب تراجعنا وتهميشنا وقلة الاحترام التي يُنظر بها إلينا في النظام الدولي يجب أن نتخطاه, ليس للوصول إلى إجماع الأمّة, وهذا من المستحيلات, بل للارتقاء إلى حوار مفتوح مبني على آفاق واسعة حول دور العالم في نصف القرن المنصرم, وما حصل لنا من الوقوف على جانب الطريق, ملتهين بصراعات عقائدية ودينية شكلية الطابع دون الاقتراب من جوهر مرض الشلل الذي أصابنا. وفي هذه المراجعة, لابد للمثقف العربي ولرجل الأعمال العربي أن يكفّ عن إلقاء اللوم - كل اللوم - على أنظمته السياسية وأجهزة الدولة كما درجت العادة. وربما يريح هذا الموقف ضمائرنا, إنما يقفل أمامنا باب المستقبل ويجعل منا مجرد توابع لإرادة من هو أقوى منا في المنظومة الدولية.

          وإذا أردنا أن نوقف الاتجاه الانحطاطي فلابد من القيام بثورتين متلازمتين, ثورة في عالم الفكر, وثورة في عالم الأعمال الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية, فهل هناك حقًا في المجتمعات المدنية العربية من يريد القيام بهاتين الثورتين? أم هل سنكتفي بالترداد الرتيب لمقولات ومفردات الأدب السياسي الدولي حول الديمقراطية والشفافية ومكافحة الفساد (دون النظر إلى أسبابها ومكوّناتها), والشرق الأوسط الكبير وضرورة الإصلاح, وكل هذا كلام تجريدي سطحي لا يمت بصلة إلى واقع حالة الأمة جماعيًا أو قطريًا.

          إذا أردنا أن تتغيّر أنظمتنا العربية, فعلينا أن نغيّر أنفسنا وتصرفاتنا. لا يفيد التهجّم وإلقاء اللوم على تلك الأنظمة, بل ما يجب القيام به هو تغيير المناخ, الفكري والحضاري العام, فأي نظام سياسي هو نتاج هذا المناخ, ولا بدّ أن يخضع له في نهاية المطاف ويحسّن أداءه كلما ارتقى المثقفون ورجال الأعمال إلى العمل الفكري والعلمي والاقتصادي المتواصل, والهادف إلى إخراج الوطن من التخبط في التخلف والعشوائية. وذلك ما حصل فعليًا في مناطق أخرى من العالم خلال نصف القرن الماضي.

ودهرٌ ناسُهُ ناسٌ صغارُ وإن كانت لهم جثثٌ ضخامُ
وما أنا منهم بالعيش فيهم ولكن معدن الذهب الرغامُ


(المتنبي)

 

جورج قرم