سبعون عاما عاشتها
جمهوريات الشرق الإسلامية في ظل هيمنة الاتحاد السوفييتي، والآن بعد أن تفككت هذه
الإمبراطورية تبرز مشكلة الهوية القومية، وتحاول هذه الشعوب أن ترد الاعتبار إلى
تراثها وثقافتها بل وتبحث عن بصمتها الخاصة في الحضارة الإنسانية.
في الاتحاد
السوفييتي السابق كانت توجد ست جمهوريات اتحادية يعيش فيها المسلمون السوفييت، يقع
خمس منها في آسيا الوسطى وهي جمهوريات أوزبكستان وقازاخستان وتركمستان وطاجكستان
وقيرغيزيا، أما الجمهورية السادسة وهي أذربيجان فتوجد في السفوح الجنوبية لجبال
القوقاز، وبالإضافة إلى هذه الجمهوريات الاتحادية الست هناك أقليات مسلمة تعيش في
جمهوريات ذات حكم مستقل في إطار روسيا الاتحادية منها- على سبيل المثال- جمهورية
داغستان.
منذ دخول الإسلام
إلى هذه البلاد "دخل الإسلام بعضها مبكرا في وقت خلافة عمر بن الخطاب"، تأثرت شعوب
هذه المناطق لقرون طويلة بالحضارة العربية الإسلامية، ولا تزال شواهد هذه العلاقة
باقية حتى وقتنا هذا في الفن المعماري لهذه البلاد، كذلك ارتبطت شعوب الشرق
السوفييتي بالثقافة العربية منذ عهد قديم، فكثيرا ما ارتحل علماء هذه البلاد إلى
الشرق العربي لتلقي العلم والمعرفة، ومنهم رموز ثقافية بارزة مثل البيروني، وأبوعلي
ابن سينا، والفارابي، وقد ضمت شعوب الشرق السوفييتي إلى عداد الإمبراطورية الروسية
تباعا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر نتيجة للحملات الغازية لقوات القياصرة
الروس، ثم دخلت بعد ذلك في عداد الاتحاد السوفييتي بعد الثورة البلشفية عام
1917.
وسوف نحاول إلقاء
الضوء على بعض القضايا المثارة بصدد بعث الهوية القومية في جمهوريات الشرق
السوفييتي ما بعد الاتحاد السوفييتي.
مشكلة اللغة
القومية
تبرز قضية اللغات
القومية في جمهوريات الشرق السوفييتي السابق كواحدة من أهم القضايا المطروحة الآن،
وذلك نظرا لأهميتها الخاصة في ترسيخ الهوية القومية، فهي ركيزة أساسية في بناء
الشخصية والثقافة القومية، وقد لعبت ظروف الفترة السوفييتية الماضية دورا في انحسار
مد اللغات القومية، فقد سعت السياسات السوفييتية بوحي من فكرة "اليوتوبيا الأممية"
إلى الإحلال التدريجي للغة الروسية محل اللغات القومية كخطوة مهمة نحو تحقيق عملية
التذويب بين القوميات السوفييتية المختلفة وقد صارت اللغة الروسية بموجب قرار
ستالين الذي صدر في عام 1938 لغة رسمية للاتحاد السوفييتي، أي لغة للإدارات
الحكومية، والمعاهد العلمية في جميع الجمهوريات السوفييتية، وقد كان من نتائج هذا
القرار انحسار أعداد المدارس القومية، واتجاه الكثيرين من أبناء القوميات المختلفة
إلى دراسة اللغة الروسية بدلا من اللغات الأم، ما دامت ستفي بحاجة المعاملات
الرسمية.
أما الضرر الأكبر
الذي لحق بهذه اللغات فقد كان مرده عملية تحويل أبجديات شعوب الشرق السوفييتي، فقد
تم مثلا تغيير أبجديات الشعوب الإسلامية الناطقة بالتركية والفارسية إلى اللاتينية
في العشرينيات من القرن الحالي، ثم بعد ذلك غيرت من اللاتينية إلى الأبجدية
السلافية في الأربعينيات، وقد ترتب على تغيير الأبجديات في الجمهوريات الإسلامية
التي كان يستخدم بعضها الأبجدية العربية انفصال الأجيال التي تعلمت بالأبجدية
الجديدة عن التراث الديني والموروث الثقافي المكتنز لقرون والمكتوب بالأبجدية
القديمة، فالأوزبيكي المعاصر- مثلا- لا يستطيع قراءة تراث أجداده نظرا لاختلاف
الأبجدية الأوزبيكية الجديدة عن القديمة التي كان يكتب بها الأجداد، كذلك انقطعت
الصلات الثقافية لشعوب الشرق السوفييتي الناطقة بالتركية والفارسية مع الشعوب
المتحدثة بهاتين اللغتين في دول أخرى مثل تركيا وباكستان. لقد صارت قضية إحياء
اللغات القومية من المطالب المهمة التي يسعى إليها العديد من المثقفين في جمهوريات
الشرق السوفييتي السابق كخطوة أساسية نحو بعث الهوية القومية، وفي هذا الصدد يشير
الكاتب القيرغيزي جنكيزي ايتماتوف متسائلا:
"في عاصمة
جمهورية قيرغيزيا توقفت الزيادة في أعداد المدارس القيرغيزية، كذلك لا توجد رياض
للأطفال باللغة القيرغيزية، فأي ثقافة قومية هذه التي لا تمتلك قاعدتها
الخصوصية؟".
البحث عن
التراث
اتسمت الفترة
المبكرة من التاريخ السوفييتي، ثم فترة ستالين- بخاصة- بالموقف المتشكك من
الاتجاهات القومية في الثقافة واعتبارها عائقا على طريق تشييد الثقافة البروليتارية
الجديدة والفكرة الأممية، وفي إطار هذا التصور صار من المحظور دراسة التاريخ القومي
لشعوب الشرق السوفييتي، ليس فقط في الفترة التي سبقت العهد السوفييتي، بل وبعد ذلك
إبان الحرب الأهلية التي أعقبت الثورة وفي عهد ستالين، أما كتب التاريخ الجديدة
ودراسات الاستشراق التي ظهرت في الفترة السوفييتية فقد وجهت لغرض إعادة كتابة
التاريخ القومي لشعوب الشرق السوفييتي لمسايرة الأهداف والتوجهات الرسمية، فظهرت
الكتابات التاريخية التي تتحدث عن الأهمية التقدمية للانضمام الاختياري لشعوب الشرق
الإسلامي إلى روسيا، وعن الاستعداد الطبيعي لدى هذه الشعوب لاستيعاب النظرية
الاشتراكية، وقد انساب طريق آداب الشرق السوفييتي في ظل قيود الحظر والحصار الذي
فرض على الآداب بعامة في الفترة السوفييتية، فقد كان ينظر إلى الأدب بوصفه ركيزة
أساسية في التعبئة النفسية للجماهير، ومن ثم لقيت قضية التراث الأدبي للشعوب
السوفييتية في الفترة المبكرة من التاريخ السوفييتي هجوما من جانب الجماعات الأدبية
المتطرفة مثل جماعة "راب" التي طالبت بنبذ التراث، وإلقائه من سفينة المعاصرة من
أجل تشييد الثقافة البروليتارية الجديدة. وإزاء العداء الرسمي للتراث تأرجحت الآداب
الشرقية بين الرفض له والتمسك به، وفي غضون ذلك ذهب كثيرون ضحايا حملات الاعتقالات
ممن كانوا يوصمون- في الغالب- بتهمة الأمزجة الدينية والقومية وبسببها تعرض بعض
الكتاب للنقد والهجوم، ومنهم- على سبيل المثال- الكاتب الطاجكستاني "عوني" الذي
أعلن عنه عام 1937 أنه عدو للشعب وأحرقت أعماله، كذلك لقيت أعمال الكاتب القيرغيزي
"تينيستوف" نقدا عارما في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الحالي بسبب ارتباط
أعماله بالتراث والخصوصية القومية. وقد أمكن فرض الحظر الكامل حول الآداب
السوفييتية، من خلال الإعلان الرسمي عن مذهب الواقعية الاشتراكية في عام 1934،
وتأسيس اتحاد الكتاب السوفييت بوصفه الجهة الوحيدة المنوطة بالإصدارات
الأدبية.
لقد تبينت
الثقافات السوفييتية بعد تجربة استمرت لعدة عقود أن التفرد القومي لا يعني العزلة
والانغلاق وأن النزعة الإنسانية العامة لا تتعارض مع القومي الخاص، وأن الأدب يستمد
وجوده الحقيقي من ذلك التفاعل الخصب بين "القومي الخاص" و"الإنساني العام"، ولهذا
نجد أن قضية العودة للسمة القومية وإحياء التراث القومي للآداب الشرقية تعد الآن من
أبرز الموضوعات المطروحة- في الواقع الثقافي لهذه البلاد، وفي هذا الصدد يشير
الكاتب القيرغيزي ايديجاني اركيبايف: "إن الرأي العام الأدبي والعلمي في قيرغيزيا
يتطرق بشكل حاد إلى قضية الإضاءة الصحيحة للتراث الفلكلوري والأدبي الشعبي
القيرغيزي، وإلى عودة بعض الأسماء المنفية بشكل مجحف إلى ذخيرة الثقافة، سواء تلك
التي كانت قبل الثورة أو في الفترة السوفييتية".
الإبداع
بلغتين
وتتبوأ قضية
الكتّاب المبدعين بلغتين مكانة مهمة بين الموضوعات المثارة الآن بصدد بعث الخصوصية
القومية لشعوب الشرق السوفييتي. إن بروز ظاهرة الكتاب المبدعين بلغتين هو إحدى ثمار
الاحتكاك والتفاعل بين الثقافة الروسية والثقافات القومية الأخرى في الفترة
السوفييتية الماضية، فقد تمخضت عملية التفاعل هذه عن تأثير للثقافة الروسية الأكثر
تطورا على الثقافات القومية الأخرى، ومنها ثقافات الشرق السوفييتي، وهذا التأثير
يعد منطقيا ومتسقا مع التجربة الإنسانية للقاء الحضارات فحين يحدث التقاء واحتكاك
بين ثقافتين فإن التأثير والغلبة يكونان في العادة للثقافة الأكثر تقدما، فيضعف
الجوهر الذاتي وتتراجع " الأنا " أمام " الآخر".
غير أن الرؤية
المنصفة تتطلب النظر إلى العملية المركبة "للتأثير والتأثر" بمجمل عناصرها وجوانبها
المختلفة فثمة جوانب إيجابية لتأثير الثقافة الروسية على الثقافات القومية الأخرى
إبان العهد السوفييتي، فإلى جانب انتشار التعليم في هذه الفترة، وانخفاض نسبة
الأمية في الشرق السوفييتي، "في بعض مناطق آسيا الوسطى كانت نسبة المتعلمين لا
تتجاوز 04 .0% قبل التاريخ السوفييتي "، تأثر رواد حركة التنوير في الكثير من مناطق
الشرق السوفييتي بآراء الحركة الديمقراطية الروسية، ومن هؤلاء الرواد- على سبيل
المثال- أخوندوف في أذربيجان، وأباي في كازاخستان، وتوكاي في التتار. كذلك كان
للأدب الروسي الفضل في ظهور آداب جديدة، وعبور الكثير من الآداب الشرقية طريقا
سريعا من التطور والارتقاء انتقل ببعض هذه الآداب من أشكال الشفهية إلى نماذج النثر
المتطور، حيث ظهرت أشكال أدبية جديدة لم تكن معروفة من قبل في بعض هذه الآداب مثل
القصة والرواية والمسرح، وذلك بعد أن فتح الأدب الروسي الثري أمام هذه الآداب نافذة
للتعرف على هذه الفنون، وأتاح لها عبر الترجمات الروسية فرصة الاطلاع على روائع
الأدب العالمي. إلا أن عملية الاحتكاك بين الثقافة الروسية والثقافات السوفييتية
ومن بينها ثقافات الشرق السوفييتي كانت السبب وراء ظاهرة الكتاب المبدعين بلغتين
وهي الظاهرة التي وصفها الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف في إيجاز بليغ حين خاطب
قرينه الكاتب القيرغيزي جنكيز ايتماتوف مداعبا:
عزيزي النصف أوربي
المهم
عزيزي النصف آسيوي الشهير
لقد عبر هذا
الوصف عن عملية التحول المعقدة التي حدثت في وعي الكثيرين من مثقفي الشعوب الشرقية
بفعل عملية التفاعل بين ثقافة "الأنا" وثقافة "الآخر"، والتي كان من نتائجها ظهور
أدباء اتخذوا من اللغة الروسية لغة للثقافة والفكر والإبداع إلى جانب الكتابة
باللغة الأم. إن هؤلاء الكتاب يتحدثون لغتين بطلاقة، ويكتبون مؤلفاتهم بلغتين:
الروسية واللغة الأم، وقد يقوم هؤلاء الكتاب بترجمة ما يكتبون من لغة إلى أخرى.
ويعد الجدل المثار الآن حول ظاهرة الكتاب المبدعين بلغتين امتدادا للحديث والطرح
السابق لهذه الظاهرة التي لفتت إليها الأنظار في الفترة الأخيرة من العهد
السوفييتي، حيث تباينت التقييمات بين مؤيد لها ومعارض، فبينما رحب البعض آنذاك
بظاهرة الإبداع بلغتين وشاهدوا فيها مظهرا من مظاهر الأممية، والوحدة الثقافية بين
الآداب السوفييتية، هاجم البعض الآخر هذه الظاهرة واعتبرها خروجا على منطق الإبداع
المتسق مع الذات، ومظهرا من مظاهر الانفصال عن الواقع القومي الذي خرج منه الأديب،
والذي يتطلب معرفة بالتاريخ والتقاليد القومية.
الإبداع والهوية
القومية
وتطرح قضية
الإبداع بلغتين موضوع العلاقة بين لغة الإبداع والطابع القومي للمؤلف الأدبي، فبعض
الكتاب الذين اتجهوا إلى الكتابة باللغة الروسية كانوا يعتقدون بأن ترجمة العمل بعد
ذلك إلى اللغة القومية الأم سوف تمنحه وجودا طبيعيا في الثقافة القومية، غير أن
التجربة العملية للترجمات أوضحت عكس ذلك، فقد صارت المؤلفات المكتوبة بالروسية
تستوعب بعد الترجمة إلى اللغات الأم كمؤلفات أجنبية بعيدة عن الروح القومية والطابع
القومي، وبدت مفتقدة إلى اللون والمذاق المميز، وهناك مثال معروف يشار إليه في هذا
الصدد وهو قصة الكاتب الأذربيجاني ايبراجيمكوف "ولم يكن أفضل من الأخ "، فقـد كتب
ايبراجيمكوف قصته هذه بداية باللغة الروسية، ثم ترجمت بعد ذلك إلى اللغة
الأذربيجانية، فبدت بالنسبة لأبناء قوميته غريبة، واستوعبت كمؤلف أجنبي. ومن جهة
أخرى بدت أعمال الأدباء من غير الروس الذين يكتبون بالروسية غريبة بالنسبة للقراء
الروس، فقد لقيت- مثلا- رواية الكاتب القيرغيزي إيتماتوف "النطع" هجوما من قبل
النقد الروسي، فقد اتجه ايتماتوف في روايته هذه التي كتبها بالروسية إلى استلهام
عناصر تاريخية ودينية مسيحية ليست مألوفة بالنسبة لاستيعابه الداخلي ككاتب شرقي من
أصل مسلم، فظهرت في الرواية صورة غير واقعية للمسيحية كدين وعقيدة. إن ضياع الهوية
المميزة هو إحدى سمات إنتاج الكتاب المبدعين بلغتين، وهي سمة تنبع من طبيعة لغة
التعبير الأدبي، فلغة الكتابة ليست مجرد مادة جوفاء.
الكتاب المبدعون
بلغتين هم إحدى الظواهر التي أفرزتها ظروف التفاعل بين الثقافة الروسية وثقافات
الشرق الإسلامي إبان الفترة السوفييتية الماضية، وإلى جانب هؤلاء الكتاب كان هناك
أدباء آخرون ظلوا يكتبون بلغاتهم القومية، وحافظوا في إنتاجهم على التراث
والتقاليد، وتجسدت في هذا الإنتاج سمة المواءمة الحكيمة بين الموروث والمكتسب،
وانعكست به إحدى آليات التطور الحضاري والثقافي في الشرق السوفييتي السابق، قوانين
الحفاظ على الذات والخصوصية القومية المتمثلة في اللغة والتراث والتقاليد، والتي
كانت تعمل جنبا إلى جنب مع عملية الاكتساب والاستيعاب "للآخر".
الشرق السوفييتي
السابق يعيد الآن تقييم تجربة الماضي القريب، ويتطلع إلى طريق جديد ينبع من خصوصيته
الحضارية، ويتسق مع تراثه وجذوره، ولكن الطريق لايزال في بدايته، وهناك الكثير من
الصعوبات التي سيتعين اجتيازها.