اغتيال الرئيس الفرنسي دومر عبدالوهاب حومد

اغتيال الرئيس الفرنسي دومر

من تاريخ الجرائم السياسية:

المجرم الذي يرتكب جريمة بدافع سياسي، أو الذي يعتدي على حق سياسي يحميه القانون، هو "المجرم السياسي".... وكان هذا المجرم يعاقب منذ تشكل المجتمعات الأولى بقسوة متناهية... وكان الإجرام السياسي يستهدف- في العادة- الأشخاص البارزين في الدول، بعد قيامها، كالرؤساء والوزراء وقادة الأحزاب.

نادى تيار فقهي حديث منذ العشرينيات من القرن الماضي، بتحسين معاملة مرتكبي هذا النوع من الإجرام، واستجاب بعض كبار الفقهاء إلى الدعوة الحديثة فأشرعوا أقلامهم دفاعاً عن مجرمي الرأي وأثبتوا للرأي العام المتحفظ أن هؤلاء "المجرمين" نوع كريم ومختلف جذريا عن المجرمين الآخرين، كالقتلة العاديين واللصوص وهاتكي الأعراض... وقد وفقوا، في خاتمة المطاف، إلى إقامة نظرية الإجرام السياسي، والتي سبحت على سجيتها في المجتمعات المتحررة.

وفي هذا المناخ المواتي، وقعت سلسلة من الجرائم الكبرى، منذ النصف الأخير من القرن التاسع عشر حتى منتصف العقد الثالث من القرن العشرين، تكتسي (نظريا) طابع الإجرام السياسي... وقد سقط في عداد ضحاياها ملوك ووزراء وساسة وقضاة... استهدفهم المجرمون، ليكون الإعلان بقتلهم عن المبادئ الحديثة، أشد وقعاً في المجتمع، وتكون احتمالات تغيير وجه الدولة، أو حتى تغيير كيانها من أساسه، أوفر حظا من الدعاية بالكلمة والإقناع. نذكر منهم لنكولن رئيس الجمهورية الأمريكية وقيصر روسيا وغاندي وجون كنيدي وأنديرا غاندي.. وقد وقع خيارنا على إحدى هذه الجرائم الكبرى، كنوع من الجرائم المؤثرة في حياة المجتمعات التي هزتها، دون أن تحدث فيها تخريبا كبير ا، إلا أنها نبهت المفكرين إلى خطر بعض مرتكبيها وتأصل الإجرام في نفوسهم، فدعوا إلى إدخال تعديل جذري يكون من شأنه إخراجها من مفهوم الإجرام السياسي الصافي الينبوع، وإدخالها في مفهوم الجرائم الفوضوية وأعمال الإرهاب، ليعاقب مرتكبوها معاقبة المجرمين العاديين. وهذا ما أخذ يستقر في التعامل القضائي، بدءا بكازيريو ومرورا بقاتل الرئيس دومر.

هذه البداية

في مساء يوم 6 آيار/ مايو من عام 1932 سقط رئيس الجمهورية الفرنسية المسيو دومر قتيلا برصاص لاجئ روسي إلى فرنسا، لم يَرْعَ حق الضيافة. وكان سبقه إلى القبر رئيس آخر لجمهورية فرنسا قبل اثنين وثلاثين عاما بسكين لاجئ إيطالي في مدينة ليون يوم 24 حزيران/ يونيو 1894.

في ذلك اليوم من أيام الربيع الباريسية الرائعة، عقد مجلس الوزراء جلسة عادية برئاسة الرئيس دومر تم فيها إقرار حركة تنقلات واسعة في السلك الدبلوماسي. وفي نهايتها أخبر الرئيس وزراءه بأنه سيذهب بعد الظهر إلى معرض "أصدقائه من قدامى الأدباء المحاربين" ليشهد معرضهم للكتب التي ألفوها وعرضوها للبيع... وقد يكون في ذهنه أنه بهذه الخطوة يساعدهم على ترويج مؤلفاتهم! والمؤلفون في العادة لا يحصلون من الناشر إلا على "أذن الجمل".

وقد تولت إدارة الشرطة والأمن العام حراسة الرئيس وتنظيم سير موكبه. ولم يكن الرئيس مستسيغا شدة الإجراءات التي تحيط به وإبعاد الناس من حوله... وأبدى في الأسبوع الماضي هذه الملاحظة لكبير ضباط الشرطة: "إني لا أرى جدوى جدية من صرامة هذه الاحتياطات "..

في المعرض كانت خطوات الرئيس بطيئة متثاقلة، لأنه كان يتوقف أمام كل مؤلف، فيبتسم له ويتحدث معه قليلا. وحين وصل إلى معروضات الأديب المعروف كلود فارير، أهداه كتابا من كتبه عنوانه "المعركة" (La bataille)، وكان مجلدا تجليدا ثمينا، وأخذ الرئيس يقرأ الإهداء مجاملة للمؤلف ويشكره عليه.. وفي هذه اللحظة- وفيما كان المصورون يلتقطون الصور التذكارية- انطلقت في اتجاهه رصاصة، أطلقها عملاق تسلل من بين المحيطين به، ولكنها لم تصب أحدا. غير أن صوت العملاق انطلق مدويا بلهجة سلافية، يقول: "هذه البداية "... وأدرك الحضور أن هذا الرجل الذي يمسك في يده بمسدس، إنما كان يسعى إلى قتل رئيس الجمهورية... ولكنه لم يترك لهم وقتا ليفكروا فيما يجري، لأنه وجه مسدسه مباشرة هذه المرة إلى الرئيس وراح يطلق النار عليه، فأصابته الرصاصة الثانية خلف أذنه اليسرى فاخترقت رأسه وخرجت من خده الأيمن، وأصابته الرصاصة الثالثة تحت إبطه... فألقى أحد الوزراء بنفسه على القاتل وأمسك بمعصمه. ولكن الجمهور الذي أصابه الهلع أعاقه بفوضاه عن السيطرة عليه سيطرة تامة، غير أنه تمكن من ثني المسدس في اتجاه الأرض. وأطلق المجرم الطلقة الرابعة فأصابت يد منظم المعرض، عندما ألقى بنفسه بين القاتل والرئيس ليحميه منه. ولكن الأوان قد فات، وتبين أن إصابات الرئيس كانت بليغة، وتهاوى إلى الأرض في هدوء ووقار ويده على عنقه، وأصبح لون لحيته البيضاء المهيبة أحمر قانيا من نزيف دمه... وفي الحال نقل إلى أقرب عيادة حيث ظل يصارع الموت ليلة بطولها، ثم استسلم إلى قدره وقضى نحبه في صباح اليوم التالي.

وقد استسلم القاتل لرجال الشرطة دون مقاومة... وفيما كان هؤلاء يجرونه إلى الخارج، كان يصرخ في انفعال شديد ويداه تلوحان بحركات عصبية، فسقط من تحت سترته كراس استخدم فيما بعد لإثبات تصميمه على القتل، عنوانه:

"مذكرات بول غورغولوف رئيس الحزب السياسي الفاشي الروسي، الذي قتل رئيس الجمهورية الفرنسية". ودلت التحريات عن القاتل بأن عمره يوم الجريمة كان اثنين وثلاثين عاما. وأنه ولد لأبوين روسيين فلاحين ميسورين، وأنه حارب أثناء الحرب العالمية الأولى في صفوف فرقة من القوقاز الروس، كما حارب في عدة جبهات. وقد جرح في رأسه في إحدى المعارك. وحين أعلنت الهدنة بين بلاده وألمانيا انتسب طالبا إلى كلية الطب... وتزوج أثناء دراسته بإحدى بنات أستاذ له كان يوده كثيرا... ثم غادر روسيا إلىفارسوفيا، ومن بعدها إلى براغ وباريس... وأنه كان يتزوج زوجة جديدة في كل واحدة من هذه المدن، دون أن يطلق السابقات، فأصبح عدد الزوجات اللواتي كن على عصمته أربعا، وهو وضع يعاقب عليه قانون العقوبات بالحبس ويرفضه التشريع الكنسي.

وكانت الزوجة الأخيرة تكبره بعدة سنوات، قبل بها زوجة لكي تساعده على نشر بعض روايات كتبهَا، دون أن تلقى رواجا. وحين كان مقيما في مدينة براغ، سمحت له السلطات بفتح عيادة طبية... غير أنه ما لبث أن اصطدم بمجلس نقابة الأطباء فيها، لأنه كان يتقاضى أجورا مرتفعة غير قانونية، وأنه كان يقول للمرضى بأنهم مصابون بأمراض خطيرة، خلافا للحقيقة، ليخيفهم ويسهل عليه اقتناصهم... وقد سامحه القضاء مرة لإساءته معاملة زوجته، ولكنه زجره بشدة حين حاول اغتصاب خادمة تعمل في عيادته، فدافع عن نفسه بأنه "ضحية بريئة لمؤامرات شيوعية قذرة"... وقد ألغى مجلس النقابة إجازته بمزاولة الطب، فخرج على وجهه هائما في اتجاه باريس، التي قبلته لاجئا إلى رحابها.

وفي هذه المدينة التي يجد كل إنسان فيها ما يشبع ميوله، تعرف غورغولوف إلى فتاة سويسرية، وتمكن من إقناعها بالزواج منه، مقابل صداق قدْرُهُ أربعون ألف فرنك، تحمله إليه... وما كاد يضع المبلغ في جيبه، حتى راح ينفقه دون وعي، على موائد الخمر والقمار... حتى كاد هذا المعين أن ينضب.

وحين اعترفت فرنسا بدولة الاتحاد السوفييتي، أصيب غورغولوف باضطراب شديد... ومنذ هذا الاعتراف قرر أن يعتدي على أحد المسئولين الفرنسيين الكبار، إعراباً عن احتجاجه على انحراف السياسة الخارجية الفرنسية حيال وطنه، وراح يتحين فرصة لتنفيذ ما عزم عليه، وقد سنحت له هذه الفرصة في السادس من آيار/ مايو 1932، فقتل المسيو دومر، وهو أعلى مقام في الدولة. وقد أحاله التحقيق الابتدائي إلى محكمة الجنايات الباريسية، ليحاسب أمامها عما اقترفت يداه، ويدافع عن نفسه، كما يحلو له أن يفعل.

وعقدت محكمة الجنايات أولى جلساتها يوم 25 تموز/ يوليو 1932 في مقرها العادي في قصر العدل، برئاسة أعلى القضاة مرتبة، وكان المستشار أوجين دريغوس.

وبسبب فقر المتهم ندبت له المحكمة واحداً من ألمع محامي باريس وأكفئهم، ليدافع عنه مجانا، هو الأستاذ هنري جيرو، وهو وضع يشترطه القانون بأن يكون لكل متهم في الجناية محام يدافع عنه... وبدون ذلك تكون الإجراءات باطلة.. وقبل هذا المحامي الكريم القيام بهذه المهمة الشاقة والكريهة، شعورا منه بأنه يقوم بواجبه المسلكي والأخلاقي تجاه عدالة وطنه، التي توجب أن يُمَكّن كل متهم من الدفاع عن نفسه، مهما كانت جريمته وضيعة!... ولقد قام هذا المحامي بأعباء هذا الواجب بكل صدق وإخلاص وكفاءة.

صك الاتهام

وأمر رئيس المحكمة بتلاوة صك الاتهام، الذي وضعته الغرفة الاتهامية (قضاء الإحالة)، وقدمته النيابة العامة إلى محكمة الجنايات، مشفوعا بادعائها على القاتل غورغولوف. وبدأ الرئيس باستجواب المتهم: أنت يا غورغولوف متهم بقتل المسيو دومر رئيس الجمهورية الفرنسية، فماذا تقول في هذه التهمة؟.

وأجاب المتهم: أجل... إني شعرت وكأن إبليس يتلبسني ويدفعني إلى القتل... كان في صالة العرض أناس كثيرون، وقد وقع خياري على هذا الشخص.

وقال له الرئيس: كنت تعيش في فرنسا حين انتخب المسيو دومر رئيسيا للجمهورية الفرنسية، وقرأت بدون ريب سيرته في الصحف أثناء الحملة الانتخابية، وعرفت أنه طاعن في السن، وأنه قدم أربعة من بنيه لانتزاع النصر على ألمانيا المعتدية وحلفائها، وبالتالي لإنقاذ الديمقراطية وخدمة جميع الدول، ومنها وطنك روسيا، فهل تعرف كل هذا أم تجهله؟.

وأجاب المتهم: أجل أعرفه، ولكني أكرر أنني لم أقتل المسيو دومر، ولكني قتلت رئيس الجمهورية، الذي يوجّه السياسة الفرنسية.

وأنهى الرئيس الاستجواب.. ولكن المتهم لم ينته، فقد وقف ليصرخ معزوفته المشئومة:

اسمعيني يا فرنسا! هناك مؤامرة رهيبة تحاك ضدي! لقد أرادوا ابتزازي، أنا غورغولوف عدو الشيوعية الأكبر! لقد خَيّبَت فرنسا آمالي فيها.

ووجد المحامي الكبير فرصة مناسبة ليبرز للمحكمة مظهرا من مظاهر جنون موكله، فذكر بأن المتهم أرسل عام 1929 مذكرة إلى أحد علماء براغ الفيزيائيين يسأله عما لديه من معلومات عن الصاروخ الذي يقال إن عالما ألمانيا يدعى أوبرت Oberth يعمل على تطويره، وأن هذا الصاروخ سوف ينطلق للتجول بين الكواكب!.. وأعرب له غورغولوف عن رغبته بأن يكون أول مسافر إلى القمر على متن هذا الصاروخ، لأنه يكره أن يعيش على هذه "الأرض النجسة"..

وقال المحامي: أرجو أن تأخذوا هذه " الأوهام الهذيانية" في الاعتبار يا حضرات المحلفين، حين تختلون لتقرروا مصير هذا المتهم!..

ولم تقم أية صعوبة في سبيل إثبات نسبة الجريمة إلى المتهم، ولا في إثبات العمد مع سابق الإصرار والتصميم. فقد شهد عدة شهود أنهم رأوا المتهم يطلق النار على المسيو دومر، وأن المتهم نفسه اعترف بكل وضوح بأنه ارتكب هذا القتل، وأنه خطط له... كذلك فإن ثلاثة من الأطباء المختصين بالأمراض العقلية أكدوا أن المتهم سليم التفكير متمكن من السيطرة على ما يريد، لذلك فإن مسئوليته الجنائية كاملة. ولكن خبراء آخرين، قدمهم الدفاع، قالوا عنه إنه غير مسئول.

وقائع المحاكمة

بعد أن انتهت المحكمة من سماع الشهود، طلب الرئيس من الخبراء أن يتقدموا للإدلاء بخبراتهم. وكانوا ثلاثة قدمهم جانب الاتهام، ليقولوا ما إذا كان المتهم سليم العقل أم لا، اختيروا لتخصصهم بعلم الأمراض العقلية، وكلفوا بفحصه وتقديم تقرير عن حالته العقلية.

فأكد أحدهم: "إننا فحصنا المتهم في حرية تامة... ولقد قيل لنا بأننا إذا وجدناه مجنونا، فإنه سيعامل كمجنون، وإلا فسوف يحال إلى القضاء. وقد وجدناه سليما معافى ولا يعاني من أي اضطراب عقلي، ولا توجد فيه أي عاهة جسدية، يمكن أن تؤثر في سلامة عقله... صحيح أن له نفسية خاصة، إلا أنها غير متسبّبة من مرض نفسي، وإنما من أسباب عرقية. فهو روسي قوقازي، وتربى تربية معينة، كانت هي السبب في توجيهه هذا التوجيه السيئ..! إن هذا المتهم يمثل حالة نفسية يعاني منها كثير من المنفيين الذي طردوا من بلادهم، وراحوا بحكم الضرورة يتنقلون من بلد إلى آخر على غير هدى... وقد تأكدنا من فحصه بأن شخصيته لا تدل على وجود أي عرض مرضي في قدرته العقلية".

وطلب طبيب روسي كان في القاعة أن يدلي بأقواله، فأمر الرئيس بسماعه على "سبيل المعلومات "... أي دون أداء اليمين القانونية، فقال إن اسمه الدكتور لفوف Lvoff وإنه يؤكد للمحكمة الموقرة أن المتهم مريض عقليا، وأنه لا يجوز أن يحاكم كمسئول جنائيا عن جريمة ارتكبها، دون أن يدرك ما يفعل.

إنه لأمر يدعو إلى الإعجاب، أن تفسح المحكمة في مجال القول لكل من يعتقد أنه يستطيع أن يساعدها على كشف الحقيقة، حتى لا يبقى ظل من الشك يحوم حول تجردها ورغبتها الصادقة في إحقاق الحق، بصرف النظر عن سمو مكانة الضحية وضآلة شأن القاتل.

وقد رد الخبير الفرنسي على الطبيب الروسي بقوله: "لقد ناقشنا مع هذا الخبير أقواله، وأدهشتنا كثرة حركات يديه التي ذكرتنا بحركات يدي غورغولوف... ومع ذلك فلم نقل عنه إنه- لهذا السبب- مجنون، إنه بلا ريب طبيب ممتاز ولكنه روسي ونفسيته سلافية".

وتابع الخبير الفرنسي قوله: "وقد انتهينا إلى أن المتهم سليم العقل، وغير مصاب بأي وسواس اضطهادي، ولا هو مصاب بذهان نفساني (بارانويا).. ".

ورد المتهم على تقرير الخبرة بقوله:

"إني لا أطلب الرحمة، لأنها غير موجودة في الحرب السياسية، ولكني أقول إن هذا الطبيب الفرنسي مجرد من الضمير المهني، فهو لم يفحصني أبداً ولم يهتم بحالتي النفسية أو العقلية، بل إنه لم يضع أصبعه على نبضي... إني طبيب، ولا أنتقد هؤلاء الأطباء حسدا أو غيرة منهم، إنما أنتقدهم لأنهم لم يهتموا بي! اسألوهم لماذا قتلت رئيس الجمهورية، وسترون أنهم لا يعرفون كيف يجيبونكم.. ".

شهود الدفاع

وبانتهاء هذه الخبرة، انتهى دور شهود الحق العام وخبرائه، وجاء دور شهود الدفاع وخبرائه... الذين وافقت المحكمة على سماعهم، حماية لحقوق الدفاع التي يصر القانون على احترامها.

وقال الخبير الأول، الذي لم يفحص المتهم طبيا أو عقليا، وإنما درس خَطّهُ فقط: "إنه حالة صعبة، لأنه يجب أن يصنف في زمرة المرضى الذين يُعرفون بأنهم "حالة حدود"، أي أنصاف مجانين، أنصاف عقلاء، ولا نعرف كيف نعاملهم، لأنه توجد بين المختصين آراء عديدة بشأن معالجتهم... وإذا كان خبراء الادعاء الثلاثة السابقون يؤكدون أن غورغولوف سليم العقل ومسئولا جزائيا، فإن قولهم هذا يعني أن أنصاف المجانين أصحاء العقول مائة بالمائة، وأضاف: إنني شخصيا لو دعيت لفحص المتهم لقررت بأنه مريض عقليا، وإني ألوم الخبراء المذكورين على أنهم جزموا بسلامته العقلية... ولكن الذي يتعمق في دراسته سيجد بأن في حالته ما هو في صالحه وما هو ضده... إنه حالة فيها مجال لشك كبير، وأنا أشعر بكثير من الحرج في اتخاذ موقف مطلق حياله... وخير حل هو أن يقرر المحلفون بشأنه ما يرتاح إليه ضميرهم ".

وانتهز المتهم الفرصة، فصرخ يقول:

"رجل واحد استطاع أن يفهمني، هو هذا الطبيب! وإذا قضيتم علي بالموت، فإني سوف أموت شهيدا، وكأني نبي أو جندي سقط في ساحة القتال.. ".

وقال الخبير الثاني، وهو الدكتور تولوز، صاحب مدرسة شهيرة في دنيا الطب الشرعي: "إني لا أستطيع أن أبدي رأيي في حالة المتهم قبل أن أفحصه بضعة أيام... وأنه لأمر في منتهى السوء أن يختلف الخبراء في قاعة المحكمة، ويصدر عنهم رأيان متناقضان... فقد كان عليهم أن يتناقشوا في غرفة مغلقة... وإذا تعذر عليهم أن يتفقوا على حل موحد، فإن من واجبهم أن يختاروا خبيراً مرجحا يكون حكما بينهم وعليهم أن يقبلوا برأيه، ويقدموا تقريرا موحدا للمحكمة يتبنونه جميعا.. ".

واعترض النائب العام على أقوال هذا الأستاذ الكبير، قائلا له: "إن هذه الطريقة التي تنادي بها تصلح في دعوى حليب (أي في خلاف مدني) وليس في دعوى دم "..

وقال الخبير الثالث: "إن المتهم مريض ذهاني (بارانويا)، وهو ضائع في عالم غير واقعي، وقناعتي أنه مجنون. فهو في كتاباته يقارن نفسه بيسوع الذي بكى على القدس، كما بكى هو على أطلال وطنه الذي خربته الشيوعية". وأنهى الخبير أقواله بالجزم بأن المتهم يمثل جميع أنماط المجانين!..

وأقبلت زوجة المتهم، وهي في ملابس الحزن ودموعها تسيل على خديها وحين شاهدها المتهم، وقف، وهو يتنهد بحرارة ويقول: عفوا، عفوا. وأخبرها الرئيس بأن القانون لا يجيز سماع شهادتها، لا في صالح المتهم ولا ضده، ولكنها تستطيع أن تدلي بأقوالها دون أداء اليمين، وهو يأمل منها أن تقول الحقيقة... وتبين من أقوالها أنها تزوجت المتهم في شهر تموز من العام الماضي، أي قبل بضعة أشهر فقط، وأنها كانت سعيدة معه، وقد تمتعت بلطفه المؤثر، لذلك صعب عليها جدا أن تصدق ما يقال عن زوجها من سوء.

ورفع الرئيس الكلام للنائب العام، ليقدم مطالباته، والحجج التي تدعم هذه المطالبات، فقال في المتهم ما لم يقله الإمام مالك في الخمر، ووصفه بأنه طبيب غريب الأطوار، مستمتع بالحياة واللحم الطيب سادي الطباع، كثير الزوجات... وأنه شره وكأنه "راسبوتين في المهجر"... وهو يتظاهر بالجنون وبعدم خوفه من الموت، ولكنه لا يكل ولا يمل من تقديم الطعون القضائية ليؤخر ما استطاع ساعة العدالة، كأي مراوغ خبيث!.

وتوجه إلى المحلفين، فخاطبهم بما يحرك مشاعرهم الوطنية والإنسانية قائلا لهم: "إنكم، أيها المحلفون أمام طريقين لا ثالث لهما: فإما المقصلة لعنق هذا المجرم أو المصح العقلي لينعم في رحابه المريحة... ولقد سمعتم بآذانكم ووعيتم بعقولكم ما قاله خبراء الاتهام فيه في تقاريرهم الأمينة الدقيقة... أما ما قاله خبراء الدفاع فإنه لا يستند إلى سند سليم، لأنهم قالوا عنه إنه مجنون، في حين أنهم لم يروه ولم يفحصوه... ويقيني أن ضمائركم ستكون في راحة، وكذلك ضميري أنا، إذا أرسلتموه إلى المقصلة! وإني أحب أن تعلموا أن ردائي الأحمر ليس شعارا للانتقام، فأنا لا أخضع إلى أي مؤثر، لا للحكومة ولا للقانون نفسه، لأني لا أستمد قناعتي إلا من ضميري ولا أقدم مطالباتي إلا مستمدة من مشاعري بالمسئولية وحدها... إن يد هذا المجرم الأثيمة، وهو غريب عنا، نشرت الحزن في بلادنا ونكست أعلامنا، دون ذنب جنيناه حياله، لذلك فإني أطالب باسم وطني وباسم الشريط المذهب الذي يرصّع قبعتي بتسليمه إلى أيدي الجلادين، ليذيقوه الموت الذي يستحقه... وأي قرار آخر سيكون في نظري تدنيسا للمقدسات لا يطاق، وتحديا للعقل، وإهانة لأسرة طيبة منكوبة أغرقها في الحزن.. وإذا لم يبادر شعب باريس إلى شنق غورغولوف فور وقوع الجريمة النكراء، فلأنه يثق في عدالتكم، ورجائي إليكم ألا تخيّبوا آماله في هذه العدالة.. ".

الدفاع

وتناول محامي المتهم الكلام، ليقوم بأعباء مهمته العسيرة في الدفاع عنه... لقد كان قانعا تماما بأن القاتل المجنون، لا يمتلك قوى عقلية سليمة... ومن منطلق هذه القناعة خاطب المحلفين: "إني كنت أفهم شعب باريس لو أنه لجأ تحت ضغط الغريزة إلى شنق موكلي فورا وفي مكان ارتكاب الجريمة... أما هنا، فأنتم ونحن في حرم عدالة لا تصدر عن الغرائز... فإذا تصرفتم بالانفعال الذي كان من المحتمل أن يتصرف تحت وطأته الشعب الباريسي، لما كنتم القضاة الذين أوكل إليهم المجتمع إقامة العدالة وإعطاء كل إنسان ما يستحقه منها... وهذا هو واجبكم المقدس!.

ولم يستسغ الحضور هذه الملاحظة، فصدرت عنهم همهمات تعبر عن استنكارهم... ولكن المحامي ظل متماسك الجأش، وتابع دفاعه بثقة وسيطرة تامة على أعصابه: "وإن في جذور هذا الفعل شروداً غير عاقل، لعاطفة وطنية متقدة... وإني أعيذكم أن تفعلوا وأنتم في حرم العدل، ما كان يمكن أن يفعله شعب غير مسئول فقد أعصابه... إن مهمة القضاء هى أن يوصل كل ذي حق إلى حقه، وليس أن يكون أداة للانتقام! وفرق عظيم بين العقاب والانتقام.. ".

وانتصب المتهم واقفاً بقامته الفارعة ليقول: اقطعوا رأسي ولكن بربكم لا تقتلوا مبادئي!..

وكان له ما أراد.. فقد قرر المحلفون أنه مسئول عن قتل الرئيس دومر، وأنه قتله عمداً وعن سابق إصرار وتصميم، وصدر حكم المحكمة بإعدامه بالمقصلة.

وحين سمع المتهم الحكم، قال: "إني حاربت كعسكري شجاع وأريد أن أعدم، كما يعدم الجنود، رميا بالرصاص". غير أنه سُلّم إلى الجلاد يوم 14 أيلول 1932 لتنفيذ الحكم فيه، وحين سئل عن رغباته الأخيرة، قال إني أريد أن يصبح ولدي طبيبا، وأن يربى على كره الشيوعية..

ونزلت السكين الثقيلة على رقبته، وسقط رأسه في سلة أُعدّت خصيصا لاستقباله.

ويظل السؤال القديم جديداً متجدداً...

هل كان غورغولوف فوضوياً خبيثاً ومراوغاً، فكان عقابه عادلاً، أم كان مجنونا حقاً، أو نصف مجنون كما قيل في قاعة المحكمة، فأعدم حرمة لشخصية القتيل ومكانته وسمعته العطرة تحت وطأة الرأي العام وضغطه؟!.

سؤال ليس له جواب حاسم... وتلك إحدى مآسي العدالة الجنائية.

 

عبدالوهاب حومد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الرئيس الأمريكي الراحل كيندي (اغتيل عام 1963)





ابراهام لنكولن- رئيس الولايات المتحدة الأمريكية قتل عام 1865م