الشيخ عبدالعزيز الرشيد محمد حسين غلوم

الشيخ عبدالعزيز الرشيد

سيرة حياته
المؤلف: الدكتور يوسف يعقوب الحجي

لا تعرف الكويت إلا بنفطها، أما تاريخها ورجالاتها ومجتمعها المدني النابض بالحياة وخصوصية تجربتها الديمقراطية فإنها صفحات مجهولة في وعي الإنسان العربي، ولعل ما قام به الدكتور يوسف الحجي - في عمل متميز- مساهمة جادة في إطار الكشف عن بعض تلك الصفحات التي طواها النسيان.

هذا الكتاب عمل استدعى عناءً في البحث عن المادة العلمية المتناثرة في بقاع عديدة تمتد من لندن إلى أندونيسيا مروراً بكثير من المدن العربية والإسلامية التي زارها الشيخ عبدالعزيز الرشيد أو أقام علاقات مع أقطاب نهضتها الفكرية والدينية. ويخفف من عناء قراءة كتاب الدكتور يعقوب الحجي الموسوم بـ "الشيخ عبدالعزيز الرشيد: سيرة حياته"، رشاقة أسلوبه في الكتابة وحسن عرضه للمادة العلمية الغزيرة التي اجتهد في جمعها. إن الكتاب لا يعد سيرة لهذا المصلح الاجتماعي وتاريخاً لبيئته التي انطلق منها فحسب، بل هو أيضاً- وفي الجزء الأكبر منه- سجل حافل حي لأوضاع الجالية العربية في أندونيسيا المنحدرة أصلاً من حضرموت في جنوب اليمن. ويؤكد المؤلف بداية أنه يضع كتاباً في سيرة الشيخ عبدالعزيز الرشيد وليس كتابا في مدحه. لذا فإنه إلى جانب ذكر مناقبه الكثيرة وبالذات حرصه على التزود بالعلم ودعوته إلى الإصلاح وشخصيته القوية وقدرته البالغة على الخطابة والارتجال، فإنه لا ينسى أن يعرض للقارئ خصالاً أخرى تعد سلبية كضيق صدره وسرعة غضبه وتسرعه في بعض أعماله وعدم اكتراثه بأسرته.

ولد الشيخ عبدالعزيز الرشيد في الكويت عام 1887 لأب هاجر وهو صغير مع بعض إخوته إلى الكويت من الزلفى، إحدى القرى النجدية بسبب القحط. عمل أبوه مع أعمامه في تجارة الجلود وصوف الغنم الصغير. فكانوا يشترون الجلود ويغسلونها ويجففونها ثم يذهبون بها في رحلات موسمية عبر العراق وإيران إلى مكان يدعى مكاره بالقرب من بحر قزوين حيث يبيعون الجلود والصوف هناك لسكان المناطق الباردة.

أدخله أبوه إلى الكُتّاب لتعلم القرآن وحفظه وهو في السادسة من عمره عند الملا زكريا الأنصاري حيث أتم ختم القرآن بعد سنتين أو ثلاث. ساعد والده في تجارته وكان مولعاً بالقصص الخرافية. ثم أصبح تلميذاً عند الشيخ عبدالله الخلف وعمره يقارب الرابعة عشرة لمدة سنة أو سنتين. توجه إلى الزبير طلباً للعلم في غيبة أبيه ولازم شيخها محمد بن عبدالعوجان سنة، دارساً الفقه الحنبلي، عاد بعدها في 1903 إلى وطنه فزوجه أبوه إحدى مواطناته وهو في السادسة عشرة من عمره كي يستقر.

غير أن الولع بالأسفار والعلم دفعاه مرة أخرى إلى الرحيل متجها إلى الأحساء في 1906 وإلى مدينة المبرز تحديداً لتلقي العلم على يد الشيخ عبدالله بن عبدالقادر.

ولم يترك المبرز إلا تحت إصرار والده الذي حضر بنفسه طالباً من ابنه الرجوع إلى الكويت والتي لم يمتد بقاؤه فيها طويلاً إذ سرعان ما هرب من والده وأسرته قاصداً الأحساء ثانية في 1908 ماكثاً بها لمدة من الزمن غير معروفة عاد بعدها إلى الكويت وزاول الغوص على اللؤلؤ مع والده.

السعي خلف العلم

لم يستطع الرشيد مقاومة حبه للاستزادة من العلم وهو يكمل عامه الرابع والعشرين في 1911 فتوجه إلى بغداد ملتحقاً بالمدرسة الداوودية أو الحيدر خانه لصاحبها السيد محمود شكري الألوسي الذي بدأ معه نبذة من شرح السيوطي على ألفية ابن مالك ولكنه لم يكملها معه لسبب غير معروف بل أكملها على يد أخيه السيد علاء الدين الألوسي. أما السيد محمود فقد شجع تلميذه الكويتي على البحث في مسألة حجاب المرأة والرد على دعاة السفور وأبرزهم أحد تلامذته وهو الشاعر معروف الرصافي. لم يخيب الرشيد ظن أستاذه فألف كتابه الأول "تحذير المسلمين عن اتباع غير سبيل المؤمنين"- في نفس عام وصوله إلى بغداد 1911- والكتاب عبارة عن بحث من 56 صفحة من الحجم المتوسط ينطلق فيه الرشيد من "أن النساء حبائل الشيطان وبهن يصل إلى بلوغ مقاصده الخبيثة"، وينادى فيه بأن لزوم المرأة بيتها وعدم خروجها إلى المدارس هو ألزم عليها لاسيما في هذا الزمن الفاسد!! ولم يعلم الشيخ عبدالعزيز الرشيد وهو يسطر هذا الكلام أنه سوف يكون هو ذاته بالقريب سيفاً مصلتاً على رقاب الذين.، ينادون بمثل، هذه الأفكار!!. ترك الرشيد بغداد وقصد القاهرة حينما سمع عن افتتاح دار الدعوة والإرشاد في فبراير 1912 على يد الشيخ رشيد رضا. وكانت مجلته المنار تصل إلى الكويت منذ أوائل هذا القرن. وقد طلب الرشيد أن يلتحق بتلك الدار غير أن طلبه رفض لسبب غير معروف فبقي في مصر أسبوعاً غادرها إلى الأراضي المقدسة. إن ترك شاب متحمس مثل الشيخ عبدالعزيز الرشيد- يقول المؤلف- لبلد مثل مصر في تلك الحقبة الزمنية، وعدم البقاء بها أطول من أسبوع واحد أمر يصعب تفسيره.

وصل الرشيد مكة في 1912. وبعد أن تعرف على علمائها وحضر بعضاً من حلقات الدرس عند البيت المحرم واتصل بمدارسها، تركها متجهاً إلى المدينة المنورة التي جاورها زهاء العام، ثم طفق راجعاً إلى مسقط رأسه وقد لبس الجبة والعمامة على طريقة علماء العراق والشام، فأضفى هذا اللباس عليه هيبة بالرغم من قصر قامته.

كانت النهضة العلمية والفكرية قد بدأت لتوها في الكويت حينما عاد إليها الرشيد. فقد أسست أول مدرسة نظامية في أواخر 1911 سميت بالمباركية. كما أن بعض المجلات والصحف كانت تصلها بالأخص المنار والهلال والمقتطف والشورى. فضلاً عن أنها حظيت بزيارة بعض أقطاب النهضة العربية مثل الشيخ رشيد رضا التي زارها في 1912. وما أن استقر الرشيد في بلاده حتى عقد صداقة وطيدة مع الشيخ يوسف بن عيسى القناعي، أحد رواد النهضة الأساسيين. كما ربطته علاقة حميمة مع شاعرها الضرير صقر الشبيب. وما إن تعين ناظراً للمباركية في 1917 حتى كان قد طلق تزمته الفكري وأصبح من دعاة الإصلاح.

في 1921 وما بعدها نمت مؤسسات المجتمع المدني بقوة وساهم الشيخ عبدالعزيز فيها بهمة ونشاط، ففيها تم تأسيس أول مجلس للشورى من أعيان البلاد وكان الرشيد عضواً فيه، وكذلك تم إنشاء المدرسة الأحمدية التي أخذت تدرس العلوم العصرية واللغة الإنجليزية والتي أصبح الرشيد من هيئتها التدريسية، ثم أنشئت المكتبة الأهلية في العام الذي يليه والنادي الأهلي بعد ذلك بعام وكانت له إسهامات واضحة فيه من خلال محاضراته القيمة.

مسرحية حول صراع العلماء

وكان للشيخ عبدالعزيز الرشيد معارضون لم يتركهم دون رد، فقد ألف تمثيلية مسرحية ينتقد فيها الشيخ أحمد الفارسي تورية سماها "المحاورة الإصلاحية" طبعها في بغداد 1924 ومثلت في 3 مارس في المدرسة الأحمدية، وهي تبين الصراع بين العلماء المجددين والمقلدين. ولقد كانت حديث الدواوين والمجالس وكانت بدعة لم يأت بمثلها أحد من قبل "فأضحكت وأبكت وسرت وأساءت" كما يقول.

إن العمل المميز الذي قام به عبدالعزيز الرشيد حقاً هو وضع تاريخ للكويت نشره عام 1926 معتمداً على الرواية المحلية ووثائق الحكومة. ورغم أن الكتاب ظل رهين الحبس في جمارك الكويت، إلا أن نسخاً كثيرة تسربت منه. وقد أهداه للزعيم التونسي عبدالعزيز التعالي الذي زار الكويت مرتين في تلك الأيام. ولعل من نافلة القول أن نذكر أن هذا الكتاب يبين استقلال الكويت وتميز كيانها السياسي منذ البداية. وما يذكره الأديب العراقي رفائيل بطي في رسالته التي حررها في بغداد في 10 يوليو 1926 تعليقاً على عمل الرشيد يؤكد ذلك، فهو يقول في أحد مواضع رسالته مشيداً بالشيخ عبدالعزيز الذي "أطلعنا على تاريخ بلد من صميم بلاد العرب، لا تعجب إذا قلت لك إنه كان بعيداً عنا فقربته، ومجهولاً فعرفته، ثم حببته إلينا وكشفت لنا خفايا أحواله وعددت مزاياه، فما قرأنا كتابك حتى صرنا ننظر إلى القطر الشقيق نظرة الأخوة الحقة".

كان الرشيد في هذا الوقت، إلى جانب عمله في التدريس، يقوم بنشر مقالات في صحف متعددة مثل جريدة الشورى التي كان مراسلها في الكويت ومجلة اليقين البغدادية ومجلة الهلال. إلا أنه في عام 1928 أصدر مجلة الكويت وهي الأولى في الخليج العربي وطبعها في مصر عند صديقه الأديب السوري خير الدين الزركلي وطبع منها 500 نسخة، بلغ عدد المشتركين فيها 300 شخص وهيئة كان أبرزهم شيخ الأزهر مصطفى المراغي والمجمع العلمي العربي في دمشق وصديقه العالم محب الدين الخطيب والشيخ إبراهيم الخليفة وغيرهم كثيرون. ويبدو أن مجلته لم تحظ بالانتشار الذي كان ينتظره بسبب شيوع الجهل والفقر. فترك الكويت وسكن البحرين ومن هناك ظل مستمراً في إصدار مجلته حتى إكمال عددها العاشر فأوقفها بعد أن أتمت سنتها الثانية في مارس 1930. وقد التقى الشيخ عبدالعزيز الرشيد الملك عبدالعزيز ابن سعود في 14 فبراير 1931 في المأدبة التي أقامها في مكة على شرف كبار الحجاج والأهالي، وألقى فيها الرشيد قصيدة يمتدح بها الملك. وكان هذا ثاني لقاء للرشيد بالملك عبدالعزيز، إذ تم الأول في السنة السابقة حينما قصد الرشيد الأحساء خصيصاً لمقابلة الملك. والحق أن الرشيد كان معجباً- منذ مدة- بإصلاحات الملك عبدالعزيز. وقد اتفق على أن يبعث الشيخ عبدالعزيز الرشيد داعية للمذهب السلفي إلى أندونيسيا ومنشطا لهمم الأندونيسيين على القيام بأداء فريضة الحج. وما أن انتهى موسم الحج في ذلك العام حتى كان الرشيد على إحدى بواخر الحجاج في طريقه إلى جاوة في أندونيسيا، وقد أخذ معه مائة جنيه إنكليزي وكسوة فاخرة تفضل بهما عليه الملك عبدالعزيز بن سعود.

كان الرشيد وهو في طريقه إلى الجزائر الأندونيسية على علم بالصراع الدائر بين أبناء الجالية الحضرمية حيث انقسموا إلى جماعتين متناحرتين: العلوية والإرشادية. أما أصل الخلاف فمتعلق بالموروثات الاجتماعية التي حملها الحضارمة معهم إلى تلك الديار وهي التقسيمات الطبقية التي كانوا يتفاضلون اجتماعيا على أساسها. فكان هناك السادة العلويون (وهم شافعيو المذهب يدعون الانحدار من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم). وهناك القبيليون والضعفاء. وكان الزواج يتم وفقاً للمقام الاجتماعي حسب مبدأ الكفاءة في النسب الذي تطور عبر العهود الإسلامية المختلفة ليكون معياراً اجتماعياً لا يُتخطى.

انفجر الموقف في 1914 حينما سُئل الشيخ أحمد السوركتي (وهو سوداني استدعاه العلويون في 1911 لإدارة جمعيتهم التي أسسوها في 1903 ولنشر العلم) عن صحة زواج العلوية من غير العلوي، فأجاب بصحة هذا الزواج شرعاً دون علم منه بما تنطوي عليه إجابته من إثارة للعلويين. لم يستطع الشيخ السوركتي بعد هذه الفتوى الاستمرار مع العلويين وأسس مع بعض الحضارمة غير العلويين جمعية الإصلاح والإرشاد الإسلامية. وكان إنشاؤها إيذاناً بنشوب حرب طويلة ذكاها ظهور الصحف وانتشارها وتركزت حول مبدأ الكفاءة وهي لغة المساواة واصطلاحاً أهلية الرجل للزواج من المرأة. فكان العلويون يصرون على التمسك بالكفاءة بينما الإرشاديون يدعون إلى المساواة.

محاولات للإصلاح

وصل الرشيد إلى بتافيا (جاكرتا) في يوليو 1931 بعد أن قابل في الطريق (سنغافورة) صديقه السائح العراقي يونس بحري حيث اتفقا على السعي لتأليف قلوب الحضارمة في تلك الديار. حل الرشيد ضيفاً على الشيخ أحمد السوركتي. وبعد أيام حاولا للمرة الأولى الصلح بين الفريقين على أساس "أن كل ما اختلف فيه الفريقان يجب أن يرفع إلى علماء الشرع في الأزهر ليفتوا فيه بمقتضى مذهب الإمام الشافعي".

لم تفلح هذه المحاولة- وغيرها في الطريق- ووجد الرشيد نفسه ينزلق رويداً إلى جانب الإرشاديين ضد العلويين وبالذات حينما أخذ يصدر هو وصاحبه البحري "مجلة الكويت والعراقي" من سبتمبر 1931. إن هذا الموقف من الرشيد كاد أن يدفع حياته ثمناً له فيما بعد.

أما عن اسم مجلته الجديدة فيكتب الرشيد موضحاً في أحد أعدادها قائلاً: "احتفظ صاحبا هذه المجلة باسم "الكويت " (المجلة) التي أصدرها الرشيد خارج أندونيسيا سنتين كاملتين، وبه اشتهرت في العالم العربي، كما اشتهرت به مدينة الكويت التي هي مسقط رأس صاحبها أيضا. وأضيف إلى هذا الاسم في أندونيسيا القسم الآخر من اسم السائح العراقي الذي هو أحد صاحبي هذه المجلة، ليدل على اسمه الكامل المعروف- مع ملاحظة قطره الذي ينتمي إليه".

استمرت "مجلة الكويت والعراقي" إلى أن اختفى يونس بحري فجأة في 25 يناير 1933 من أندونيسيا دون أن يترك أثراً ليظهر صوته مدوياً في الحرب العالمية الثانية في القسم العربي لإذاعة برلين!!.

تزوج الرشيد بفتاة أندونيسية وأنجب منها بنتين أخذ يعمل بالوعظ والتدريس ويعطي دروساً في الفقه الحديث واللغة العربية. وبعد سنة عاد في زيارة لوطنه حيث كانت تمر ببلاء جراء انتشار وباء الجدري وحالة الركود الاقتصادي بسبب الكساد العالمي.

مكث بها أسبوعين ثم رحل إلى البحرين فميناء العقير لمقابلة الملك عبدالعزيز بن سعود في أكتوبر 1932. وكانت هناك مفاجأة تنتظره حيث أبصر وسمع اللاسلكي لأول مرة في حياته، كما سمع الراديو وشنف سمعه بغناء من تركيا ولندن وبموسيقى تعزف من إيطاليا. ولقد علق الرشيد على هذه المخترعات بقوله إنه "ليس في هذا كله من غرابة، فلا سحر ولا تنجيم ولا شياطين ولا كهنة، وإنما هي العقول الجبارة التي أوصلت أربابها إلى ما نرى ونسمع".

وعند عودته إلى أندونيسيا في أوائل 1933 أصدر الرشيد مجلة أخرى أسماها "التوحيد" استمرت إلى آخر ذلك العام ثم توقفت لانتقال الرشيد إلى مدينة أخرى (بكالونجان) حيث عمل ناظراً لمدرسة الإرشاد وأقام فيها طيلة سنوات ثلاث.

وبعد غياب أربع سنوات متصلة عاد الرشيد ثانية إلى وطنه الكويت في 18 يناير 1937 وأمضى بها أربعة أشهر قام خلالها بزيارة للبصرة وبغداد لتجديد الوصل بأصدقائه. ثم ترك الكويت في 12 مايو 1937 عائداً إلى أندونيسيا، فمر على البحرين ثم قصد الرياض فقابل الملك عبدالعزيز وذهب إلى مكة معتمراً ووصل إلى سنغافورة في أغسطس ومنها إلى جاوة.

عاجله الموت هذه المرة ولم يتعد الحادية والخمسين من عمره، حينما توقف قلبه في الثالث من شهر فبراير 1938، ودفن في "فردوسه الاستوائي" الذي أحبه.

 

محمد حسين غلوم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الشيخ عبدالعزيز الرشيد





صورة نادرة للشيخ عبدالعزيز الرشيد بلباس أهل نجد





غلاف الكتاب





مجلة الكويت التي أصدرها الشيخ عبدالعزيز الرشيد عام 1928 في الكويت