صورة العالم الثالث في الرواية الفرنسية المعاصرة محمود قاسم

صورة العالم الثالث في الرواية الفرنسية المعاصرة

المؤلف: جان مارك مورا

هناك حساسية خاصة داخل كل منا إزاء السلبيات التي يعيشها مجتمعنا. ويبدو هذا واضحا بشكل مكثف فيما يتعلق بالآداب والفنون، حيث إنها تكون أكثر اتصالا بوجدان البشر، وأطول عمرا من شتى وسائل الإعلام. ولذا فمن الأهمية أن نعرف صورة عالمنا الثالث كما صورته الآداب العالمية. وكما رآه الرحالة والفلاسفة الذين جاءوا للاتصال بنا.

تجيء أهمية هذا الكتاب من خلال مفتاح الدخول إليه. وهو أن الكاتب آمن بآراء جان جاك روسو، وأندريه مالرو في أن الأوربيين قد انحصروا فيما قبل في معرفة ذواتهم فقط، دون محاولة الانفتاح على ذوات الآخرين، وأنه لم تحدث النهضة الأوربية الحقيقية إلا بعد أن قام كبار الرحالة الأوربيين بالسفر نحو العالم، فجاءوا بخلاصة التجارب البشرية، فاستفادوا منها، وصهروها، كي يخرجوا بتجربة جديدة. ويرى مالرو أن المرء أحيانا لا يرى غير وطنه، وذلك أشبه بالرجل الذي يتصور أنه لا توجد امرأة أخرى غير حبيبته.

وفي مقدمة الكتاب يرى المؤلف أن "العالم الثالث" تعبير لم يكن موجودا إلا في المصطلحات السياسية لكنه ما لبث أن دخل الأدب، وهو أشبه بقناع ملون يستخدمه البعض حسبما يروق له. وفي عالم الثقافة فإن العالم الثالث يمتلك آدابا وفنونا قد تكون أرقى من الدول الأكثر ثراء على المستوى الاقتصادي ومع ذلك فإن "العالم الثالث " هو من صناعة بعض المفكرين الغربيين. ولذا، فالعالم الثالث لا يعني الدول الأقل حضارة وتاريخا، أو كما أطلق البعض تسمية أخرى مهذبة هي دول الجنوب، أي الأكثر فقرا. وهو اصطلاح مبهم، ومليء بالفظاظة. وقد ظهرت مثل هذه المصطلحات بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تم تقسيم العالم إلى مجموعة من الأقسام الجغرافية السياسية حسب أيديولوجيتها في المقام الأول. وفي هذه الفترة بزغت الآداب القومية في العديد من دول العالم، باعتبارها تعبر عن فئة من البشر، دون أن يكون هناك رابط بين سلوك البشر في كل أنحاء العالم، وأن ما يمكن أن يحدث في بلد ما يمكن للناس في مكان آخر أن يحسوا بقيمته. وقد أطلق جان بول سارتر تعبير "آداب الظروف الكبرى" على الإبداعات التي ظهرت في تلك الحقبة، بمعنى أن الكاتب كان خاضعا دوما لما تشاهده بلاده من أحداث سياسية أو حروب هي في أغلب الأحوال نشاط إنساني- عالمي، بالإضافة إلى الحروب الباردة التي شهدت وقائعها أماكن متعددة من أنحاء الأرض. ولا شك أن العالم الثالث كان نتاجا لهذه التحولات.

وتجيء أهمية التعرف على صورة العالم الثالث في الأدب، من خلال أن الإبداع هو حصاد خيال البشر، ومن الغريب أن الكاتب قد حول نصف كتابه إلى محاولة للتعرف على "فكرة العالم الثالث" وذلك في عيون الغرب خاصة من منظور سياسي. وهو تعبير جاء ليحل محل مفاهيم عديدة منها "الدول الأقل تطورا" ولأن العالم قد تغير سياسيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، فإن الباحث البريطاني الفريد ساوفي هو أول من استخدم هذا التعبير في 24 أغسطس عام 1952 في مجلة "الأوبسر فاتور" باعتبار أن العالم في تلك الآونة مقسم إلى ثلاثة أقسام: المعسكر الغربي، والمعسكر الشرقي، ثم الدول الأقل تنمية.

عالم ثالث

في هذه الفترة، وفي فرنسا، كانت هناك ظاهرة لافتة للنظر، وهي أن الأدباء العرب الذين يكتبون باللغة الفرنسية قد وجدوا لهم مكانة متميزة لدى الناشرين الفرنسيين أمثال البير ميمي وكاتب ياسين، وحدث ذلك أيضا بالنسبة لكتاب عديدين يكتبون بالفرنسية في إفريقيا مثل ايميه سيزار، وسنجور كما كشفت التجربة أن علاقة المبدع بالمكان قد أثرت فيه بشكل واضح، من خلال روايات ألبير كامي التي تدور أحداثها فوق أرض الجزائر مثل "الغريب"، و"الطاعون".

كان من الأهمية بمكان الالتفات إلى العالم الثالث، حيث انتقلت الصراعات السياسية بين قطبين إلى امتلاك مقدراته، وتحويله إلى الأيديولوجية التي يتبعها أي من المعسكرين. وانتقلت الحروب إلى أماكن عديدة من هذا العالم في الشرق الأوسط وفيتنام. وبذلك أصبحت دول هذا العالم بمثابة "الحقل العلمي" الذي يمارس فيه الغرب تجاربه في جميع الميادين الاقتصادية والأيديولوجية.

يقول الكاتب إن اصطلاح "عالم ثالث" يعني الآن ما هو ليس محتذيا بالنموذج الغربي سواء الاجتماعي أو الثقافي، باعتبار أن هذا النموذج في رأي الكاتب أكثر تطورا. ولا يمكن حتى الآن النظر إلى هذا العالم دون أن تؤخذ في الاعتبار مسألة "رؤيته الأيديولوجية السابقة للعالم".

ولذا، فإن الآداب المهتمة بهذا العالم يمكن أن نرى فيها ملمحين كبيرين: الاهتمام بواقع المكان، أي تلك الأمكنة التي يكون عليها الناس مجتمعاتهم، ثم نظام حياة الأشخاص وعلاقتهم ببعضهم البعض وارتباطهم بالمكان.

فتحة ضيقة للرؤية

والغريب أن الآداب التي حاولت أن تتعامل مع العالم الثالث، قد نظرت إليه من فتحات ضيقة للغاية تبعا لعلاقة الكاتب الفرنسي بهذا العالم، وذلك من خلال أطر محدودة للغاية، أولها انحسار الاستعمار، ثم روايات التجسس، وروايات المغامرات. وكما نرى، فإنه باستثناء النوع الأول من الروايات فإن بقية الإبداع الأدبي عن هذا العالم كان أقل أهمية ولا يمكن اعتباره أدبا بالمرة. فليست روايات التجسس ولا روايات المغامرات من الأدب.

في أثناء سنوات الاستعمار الفرنسي للكثير من دول العالم الثالث سافر أدباء فرنسا إلى المستعمرات ومن هنا استوحوا بعض رواياتهم، حيث سافر أندريه جيد إلى الكونغو، وأيضا سيلين الذي استوحى روايته المهمة "رحلة إلى أطراف الليل" من أجواء المستعمرات. أما أندريه مالرو فقد قدم روايات عديدة تدور أحداثها في الهند الصينية إبان احتلال فرنسا لها مثل: "قدر الإنسان" وغيرها.

وقد سافر بعض هؤلاء الكتاب حسب رغباتهم إلى تلك الدول للتعرف على ما يحدث هناك، وكان مالرو على سبيل المثال شغوفا بالسفر إلى بقاع عديدة من العالم وليس فقط إلى المستعمرات حيث استوحى روايته "الأمل" من وقائع الحرب الأهلية في إسبانيا.

وقد ألهمت حركات التحرر عن الاستعمار الفرنسي الكثير من الكتاب أن يبدعوا عن المناضلين مثلما حدث في الجزائر. وحول هذه الحرب التحريرية هناك ظواهر عديدة في الكتابة منها أن هناك أبناء فرنسا الذين كانوا يعيشون في الجزائر والذين عرفوا باسم "الأقدام السوداء" ومنهم على سبيل المثال ماري كاردينال ولوي جارديل، والكاتب المسرحي إيمانويل روبليس. أما من بين الذين كتبوا عن هذه الحرب وآثارها على المجتمعين الفرنسي والجزائري من الفرنسيين فهناك كلير أتشرللي صاحبة رواية "اليزا والحياة الحقيقية" التي تروي علاقة مناضل جزائري بفتاة فرنسية وقيام السلطات الفرنسية بالقبض عليه دون أن تعرف مصيره.

ومن المعروف أن حرب الجزائر كانت مادة خصبة للكثير من الأدباء المشهورين ومنهم فيليب لاتور وروايته "انطفأت النيران بشكل سيئ" عام 1967، والكاتب بيير جويوتا وروايته "مقبرة من أجل 500 ألف جندي" عام 1967 أيضا ورواية "الثعابين" للكاتب بيير بورجارد.

وبشكل عام فقد انعكست آثار تلك الحرب على الإبداع الفرنسي، باعتبار أن ما حدث فيها كان صدمة، ليس أبدا بسبب انفصال الجزائر عن فرنسا، ولكن لأن الفرنسيين كانوا ينظرون إلى البلدة العربية باعتبارها نجعا، أو حيا في مدينة. ولذا تباينت الرؤى نحو الجزائر، رغم الموقف العام من الأدباء الذين ناصروا ثورة الجزائر، وجبهة التحرير، على الأقل فوق الورق، وفي إبداعاتهم.

وفي روايات التجسس وروايات المغامرات كانت بلاد العالم الثالث بمثابة أرض أجنبية تدور في ساحتها مغامرات عديدة. ورغم أن الفرنسيين غير بارعين في كتابة روايات التجسس مثل الإنجليز فإن أغلب هذه الروايات المكتوبة بالفرنسية هي في المقام الأول روايات مغامرات، وذلك مثل المجموعة التي كتبها جيرار دوفييه وتدور أحداثها في كل أنحاء العالم. والغريب أن الجاسوس في هذه الرواية "بالكو" يحمل اسما من العالم الثالث، ولكنه يخدم الاستخبارات البريطانية. وقد جاء إلى مصر ليتنبأ باغتيال أنور السادات في رواية، "اغتيال في القاهرة" وذهب في العام الماضي إلى طرابلس في رواية "انقلاب في طرابلس" عقب قرار مجلس الأمن بفرض حصار جوي على الجماهيرية الليبية.

ورغم كثرة هذه الروايات بما يوحي أن مؤلفها قد كتبها في أيام قلائل فإن هناك تفاصيل دقيقة عن الأماكن التي تدور فيها هذه الروايات من ناحية، ثم هناك إلمام بتاريخ هذه البلاد الحديثة وأيضا بلغة الناس فيها. وقد سافر مالكو على سبيل المثال إلى كل بلاد العالم الثالث في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.

وفي هذه الروايات يبدو العربي ساذجا، أما الآسيوي فهو قدري، والأمريكي اللاتيني ثوري، أما الإفريقي فهو متواكل، ولكل منهم دوره في العالم حيث يقوم الغرب بتوزيع الأدوار. والجواسيس في هذه الروايات لا يذهبون إلى العالم الثالث من أجل التجسس على أبناء البلد، بل سعيا لمحاربة الشيوعية وأنصارها حتى لا تستشري بين أفراد الشعب.

وفي بعض الروايات هناك محاولات لاستقدام أحد العلماء الأذكياء، أو لمنع مجابهة عسكرية وشيكة الوقوع.

وغالبا ما يبدو المواطن المحلي في هذه الروايات بمثابة شخص سلبي يتطلع حوله دون تدخل، ويبدو هذا واضحا في شخصية رجل الاستخبارات أو رجل الشرطة المحلي، فعليه فقط مساعدة زميله القادم من بلاد الغرب، دون أن يكون له رأي أو حتى شرف المشاركة.

المغامرون.. سياسيون..

وعن روايات المغامرات التي تتناول العالم الثالث، نرى أن هذا النوع الأدبي يرجع إلى الثقافة اليونانية اللاتينية. وهي بمثابة قصص لمغامرات تقوم حبكتها على المصادفة، والمصير البشري في الحياة اليومية. وقد كان فرسان هذه الرواية في القرن التاسع عشر كلا من الكسندر ديماسو وجوزيف كونراد ورفائيل ساباتيني.

والرحيل إلى بلاد أخرى من أهم سمات المغامرات، ولذا اتجه المغامرون من الغرب نحو بلاد العالم الثالث بدواعي استكشافها والتعرف عليها، والمغامر يختلف تماما عن الجاسوس فهو لا يعيش في الخفاء وبأسماء مستعارة بل هو يعلن نشاطه على الملأ، ويفخر بأنه رجل ذو مواهب، وقدرات خاصة.

والمغامرون دائما في هذه الروايات إما من الصحفيين أو رجال الجيش وأيضا من المرتزقة، مثلما حدث في رواية "إبحار من الشمس" وهي ثلاثية كتبها جوليان ماني بين عامي 1978 و 1981 وفيها يلتقي صحفي وضابط ودبلوماسي في أحد بلاد الشرق. ويتعرضون لبعض الأحداث المثيرة فيحاولون الخروج من المأزق تلو المأزق.

وفي هذه الثلاثية مثل- أغلب روايات المغامرات- هناك قصص الحب، وحكايات حول النبل البشري.

ويرى الكاتب جان مارك مورا أنه رغم الشكل الظاهر لهذه الروايات بأنها من أجل التسلية فإن أغلبها يحمل وجهات نظر أيديولوجية وسياسية. فهناك استعلاء خاص من ناحية هؤلاء المغامرين الذين يتعاملون مع الوطنيين على أنهم بشر أقل تحضرا. وهي أفكار أشبه بتلك التي حملها المستعمرون القدامى إلى تلك الدول حينما جاءوا بأسلحتهم وسفنهم لاحتلالها في القرون الماضية، فالاستعمار لم يتغير ولا تزال نفس أفكاره ماثلة في ذهنه وتنعكس في أدبه.

الديكتاتور.. والثورة

في الفصل الثالث من القسم الثاني من كتابه يتحدث المؤلف عما أسماه أدب الاستعمار الجديد وهو بذلك يؤكد على النقطة السابقة الذكر. حيث يتحدث عن الدول الناطقة بالفرنسية باعتبارها بلادا تنتمي إلى الثقافة الفرنسية، حتى وإن كانت الحكومة الفرنسية لا تحكمها. وهناك قصص حب، وهي قصص إنسانية بين الفرنسيين وبين أبناء تلك الدول. مثلما فعلت الكاتبة مورييب سيرف المولودة في لبنان في روايتها "الشيطان أخضر" والكاتب جورج كونشون صاحب رواية "الدولة المتوحشة" التي تدور في إحدى الدول الإفريقية من خلال علاقة قديمة بين رئيس الدولة ورئيس فرنسا ولعله بذلك يؤرخ للصداقة القديمة بين الرئيس والشاعر السنغالي السابق ليوبولد سيدار سنجور، وبين الرئيس الفرنسي الراحل جورج بومبيدو. وقد حصلت هذه الرواية على جائزة جونكور عام 1964 ثم تحولت إلى فيلم في عام 1977.

وفي هذه الروايات هناك تصور أن الغرب قد فعل شيئا من أجل تطوير بلاد العالم الثالث، كما أن هناك إشارات في روايات عديدة أن هذه البلاد تجيد صناعة الديكتاتور مثل "لوكر" كما في رواية "اللامعون" وهو بمثابة كاليجولا معاصر. ومثل "جوهاندا" في رواية "الدولة المتوحشة" وتبعا لأن هناك ديكتاتورا فيجب أن يكون هناك ثوار ومتمردون. مثلما حدث في روايتي "النضال الأخير" و"حزام النار" للكاتب كونراد ديتريه. وهذه الرواية الأخيرة تدور أحداثها في "نيكاراجوا". حيث العاصمة لم تعد سوى مدينة مدمرة. أو فلنقل أطلال مدينة وعلى الثورة أن تنجح من أجل تحقيق الديمقراطية.

غالبا، ما يجد المرء نفسه في حيرة شديدة، وهو يقوم بعرض كتاب من ذلك النوع الذي قدمناه في هذه الصفحات، ليس أبدا لأنه من الصعب تلخيصه في بضع فقرات ولكن لأن نماذج الرواية التي ذكرها الكاتب تكاد تكون شبه مجهولة بالنسبة للقارئ العربي وحتى الأفلام المأخوذة عنها التي لم تعرض على الشاشات العربية، وبالتالي فإن متابعة مثل هذا الكتاب تستلزم بالضرورة متابعة الروايات، ونحن لا نطالب بترجمة هذا الكتاب. بل من الأحرى أن نقرأ هذه الروايات، لأنها عن عالمنا العربي وهو جزء من هذا العالم الثالث، صحيح أن دولا كثيرة في المنطقة العربية لم تذكر في الرواية، مثل مصر وبعض دول الخليج وليبيا والسودان باعتبار أنها لم تكن مستعمرات فرنسية أو تحمل الثقافة الفرنسية لكننا جزء من إفريقيا غربا ومن آسيا، وهي أقرب في عاداتها وظروفها الاجتماعية إلى ظروفنا، ومن هنا تجيء أهمية الاتصال مجددا بهذه الكتابات ليس فقط لأنها عن جلدنا ولكن بكل بساطة إذ كانوا هم يغزوننا برواياتهم، فلماذا لا ننفتح على هذه الروايات ونقابلها بما فيها من حقائق وأكاذيب؟.

الغريب أن الكتاب لم يقترب من الكتب المهمة التي سجلها الأدباء الفرنسيون عن رحلاتهم إلى الشرق مثلما فعل جان كوكتو في "بقشيش" وأندريه جيد في "رجل عديم الأخلاق" وغيرهما من الأعمال التي يعتبرها الكاتب من الأدب المعاصر، حيث إنه اهتم في المقام الأول بالروايات المنشورة في ربع القرن الأخير.

 

محمود قاسم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




أندريه مالرو





غلاف الكتاب





لقطة من فيلم قلعة ساجان عن رواية للوي جارديل





ماري كاردينال





جان كوكتو