سُقوط الأسَاطير السّيَاسيّة

ليس هناك من شك في أن ما اصطلح على تسميته أزمة الخليج قد أثار مشكلات متعددة في النطاق العربي وعلى المستوى الدولي على السواء. ولعل أبرز هذه المشكلات ظهور عجز النظام العربي ليس عن احتواء الأزمة وحلها فقط، ولكن أهم من ذلك عن منع حدوثها، ثم ظهورها وتفاقمها إلى هذا الحد الذي نشهده، والذي يهدد كيان الوطن العربي ذاته. ومن ناحية ثانية تظهر أمامنا قضية بالغة الأهمية هي بروز ما يطلق عليه "النظام العالمي الجديد" وتأثيره الحاسم على التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الوطن العربي.

إذا كنا هنا لن نستطيع الإحاطة بكل المشكلات التي يثيرها النظام العربي من ناحية، والنظام العالمي الجديد من ناحية أخرى، فإننا سنركز على أبرز الإشكاليات، لكي نحاول ربطها بموضوع بحثنا عن الديمقراطية باعتبارها أحد المكونات الأساسية في النظام العربي الجديد، الذي تعالت أصوات المفكرين والباحثين بضرورة صياغته بعد انتهاء أزمة الخليج.

أتت أزمة الخليج- ولعلها ليست محض مصادفة- في مرحلة تاريخية تتسم بسقوط الأساطير السياسية على المستوى العالمي. ومما لا شك فيه أن عام 1989 سيعد في المستقبل إحدى العلامات الفاصلة في التاريخ العالمي. ففي هذا العام سقطت أسطورة سياسية كبرى مفادها أن الشمولية كنظام سياسي أفضل من الليبرالية وأكثر منها كفاءة في تحقيق العدالة الاجتماعية، وفي تطبيق الديمقراطية. ولعل ما حدث من تطورات مذهلة في الاتحاد السوفييتي، منذ أن أعلن الرئيس جورباتشوف سياسته المعروفة بالبريسترويكا، وتكشف حقيقة الأوضاع الاقتصادية المتردية، والتي وصلت إلى حد المجاعة، وتدفق المساعدات من الدول الرأسمالية لكي تساعد الشعب السوفييتي على الصمود في فصل الشتاء، لهو أبلغ دليل على أن الشعب السوفييتي- ومن ورائه شعوب البلاد الاشتراكية في أوربا- قد عاش في ظل أسطورة سياسية كبرى أكثر من سبعين عاما منذ اندلاع ثورة أكتوبر الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي. وعبر كل هذه العقود، قدم الشعب السوفييتي المقهور باسم الثورة، والاشتراكية، ملايين البشر، راحوا ضحايا القمع المباشر والقهر الوحشي، في ظل معادلة زائفة مفادها العدالة الاجتماعية في مقابل التنازل عن الحريات الديمقراطية، التي وصفت بأنها حريات بورجوازية ثم ثبت أن هذا النظام الشمولي لم يستطع حتى إشباع الحاجات الأساسية لجماهير الشعب، التي حرمت بالإضافة لذلك من التمتع بالحريات الأساسية.

علاقة سقوط الشمولية في البلاد الشيوعية بالنظام - العربي

إن تتبع نشأة النظام العربي يكشف عن التأثر الشديد بالعديد من الأفكار التي سادت في البلاد الاشتراكية، وقد ترجم هذا التأثر عن نفسه في تبني سياسات محددة أدت إلى الوضع الراهن الذي نعيشه في الوطن العربي، ونعني على وجه التحديد سيادة النظم السلطوية، التي قضت على المجتمع المدني بمؤسساته، وذلك باسم الثورة والاشتراكية والوحدة. لقد عشنا منذ عهد الاستقلال العربي في أوائل الخمسينيات في ظل ثلاث أساطير سياسية.

الأسطورة الأولى هي: الثورة بغير ديمقراطية.

والأسطورة الثانية هي: الاشتراكية بغير مشاركة شعبية.

والأسطورة الثالثة هي: إمكان تحقيق الوحدة العربية باستخدام القوة.

ثورة.. ولا ديمقراطية

إن مصطلح الثورة الذي أسرفت الانقلابات العسكرية العربية في استخدامه، قام في التطبيق على أساس استبعاد الجماهير الشعبية، وانفراد مجموعة صغيرة من الضباط الانقلابيين بالحكم، وتأسيس نظم سياسية سلطوية قامت على أساس القمع، ومحو التعددية السياسية، وتدمير الحريات العامة، وبعبارة مختصرة، قامت هذه النظم على أساس محو المجتمع المدني بمؤسساته الفاعلة، كالأحزاب السياسية، والنقابات المهنية والعمالية وإخضاعها مباشرة للسلطة السياسية، والقضاء على استقلال المؤسسات الثقافية، ومحو دولة القانون، وتأسيس الدولة البوليسية، لن نستطيع الدخول في تفصيلات التطور السياسي للبلاد التي شهدت هذه الانقلابات العسكرية، أو الثورات كما جرى الخطاب السياسي على تسميتها، ولكن ما يجمعها جميعا بالرغم من بعض الخلافات الجزئية، أنها وبلا استثناء قامت على أساس الانفراد بالسلطة، ونفي التعددية السياسية والفكرية في ظل هيمنة تنظيم سياسي واحد، يدعي المعرفة المطلقة بالحقيقة السياسية ويحتكرها، ولا يقبل على وجه الإطلاق أي معارضة لسياساته، حتى لو أدت إلى الهزيمة العسكرية على يد أعداء الأمة العربية.

قامت هذه " الثورات " إذن، رافعة شعار تحديث المجتمع. وانغمست في تطبيق سياسات تصنيعية وزراعية، كان القرار يتخذ بشأنها من قبل نخبة بيروقراطة وتكنوقراطية، لا تخضع في ممارسة سلطاتها إلى أي نوع من أنواع الرقابة الشعبية، وبالرغم من بعض الإنجازات التي تم تحقيقها في هذه المجالات، فيمكن القول إن مئات الملايين قد أهدرت نتيجة تبني سياسات لم تخضع للنقاش العام، ولم يتح للجماهير فرصة محاسبة المسئولين عنها. غير أنه أهم من ذلك كله، أن التنمية كشعار رفعته هذه " الثورات " كانت تعني تطبيق بعض السياسات في سياق تمحى فيه تماما شخصية الأفراد، الذين تم تحويلهم ببساطة من مواطنين " إلى رعايا " يتقبلون من السلطة السياسية السلطوية الغاشمة المنح بين الحين والحين، ويخضعون للقهر العنيف في جميع الأحيان.

ثم طورت بعض هذه الثورات من برامجها، وانتقلت من مرحلة " الثورة " إلى مرحلة تطبيق الاشتراكية، غير أنها كانت اشتراكية بغير مشاركة شعبية، وكانت هذه هي الأسطورة الثانية، التي تحطمت على صخرة الواقع. وهل كان من الممكن أن تطبق أيديولوجية سياسية هي الاشتراكية تنادي بتحرير الإنسان من الاستغلال الاقتصادي ومن القهر السياسي، في ظل سلطوية غاشمة تقوم على أساس تحكم أجهزة المخابرات في مقدرات البشر؟ لقد انتهت كل هذه الأنظمة الاشتراكية المزعومة في الوقت الراهن إلى أنظمة تطبق نوعا من الرأسمالية الفجة في ضوء سياسة الانفتاح الاقتصادي، وضاعت الشعارات الاشتراكية واندثرت، بعدما كانت هي عمود الخطاب السياسي لهذه النظم في مرحلة الستينيات.

منطق القوة.. والوحدة العربية

وتأتي أخيرا الأسطورة الثالثة، والتي لم تظهر للحق بقوة إلا بعدما اندلعت أزمة الخليج، وهي الخاصة بضرورة تحقيق الوحدة العربية بأي وسيلة ولو باستخدام القوة العسكرية، حتى لو تم ذلك ضد إرادة الشعب المراد ضمه في إطار الوحدة.

خلاصة تطور النظام العربي منذ بداية الخمسينيات حتى الآن، هي سيادة السلطوية السياسية، التي استبعدت الجماهير نهائيا من الساحة، والتي تخفت وراء شعارات الثورة الاشتراكية والوحدة.

غير أن النخبة السلطوية العربية أدركت في العقد الأخير- ولعل ذلك الإدراك جاء نتيجة رغبتها في تحسين صورتها أمام قادة النظام العالمي، ورغبة في الحصول على المساعدات والقروض الاقتصادية- حاجتها إلى النزوع إلى نوع من أنواع التعددية السياسية، وهكذا شهدنا في بعض البلاد تحولات تتجه إلى تعددية سياسية مقيدة، تكفل للنخب السياسية السلطوية أن تمسك بمقاليد الأمور، في إطار يسمح للقوى السياسية المختلفة بأن تعبر عن نفسها تعبيرا محدودا في ظل قيود سياسية وإدارية لا حدود لها.

إذا كان هذا التطور المحدود قد حدث في البلاد التي قامت فيها نظم سلطوية بعد الثورات التي قامت فيها، فإن هناك نظما عربية أخرى تمارس فيها السلطوية السياسية من خلال نظم حكم تقليدية خففت- إلى حد ما- من آثار ممارساتها الثروة النفطية، والتي سمحت لهذه البلاد أن تتبني سياسات في التوزيع رفعت مستوى المواطنين المادي، بحكم ضخامة الثروات التي انهالت عليها، من بيع النفط في الأسواق العالمية.

خلاصة هذا كله أن المشكلة الحقيقية التي تواجه الديمقراطية العربية في الوقت الراهن، هي سيادة وترسخ السلطوية العربية، والتي تأخذ شكل نظم ملكية أو جمهورية أو مشيخية.

مواجهة صراع المشاريع السياسية

يعيش المجتمع العربي منذ هزيمة يونيو 1967 مرحلة تتسم بالنقد الذاتي العنيف. ذلك لأن الهزيمة في رأينا- بالرغم من كل ما تبعها من أحداث جسام، ومن أهمها حرب أكتوبر المجيدة ضد العدو الصهيوني- كانت نقطة فاصلة في الوعي العربي المعاصر، كما تؤكد ذلك عديد من الدراسات والبحوث والشهادات الشخصية لأبرز المثقفين العرب. ولعل ذلك يرجع إلى أنها هي التي كشفت الأساطير السياسية التي رفعت شعارات الثورة والاشتراكية والوحدة، والتي سقطت في الامتحان المصيري، وهو المواجهة الفعالة لإسرائيل، والتي، كانت أحد مبررات سياسات القمع السياسي.

لقد كانت هزيمة يونيو 67 أحد الأسباب الرئيسية في تصاعد قوة وحركة التيار الإسلامي في غالبية البلاد العربية. وهي نفسها التي أدت إلى انبعاث المشروع الليبرالي العربي من جديد، داعيا إلى الحرية الاقتصادية والحرية السياسية على السواء. ولأن هذين المشروعين نشطا في ظل النظم السلطوية، التي لا تقبل أصواتا أخرى في الساحة غير أصواتها، فإن بعض دعاة المشروع الإسلامي انحرفوا إلى تبني الإرهاب والعنف المسلح طريقا للوصول إلى السلطة، في نفس الوقت الذي تبنت فيه السلطوية السياسية الحرية الاقتصادية التي يدعو إليها المشروع الليبرالي ولكن بشرط أن تتم عن طريقها وبوسائلها وتحت رقابتها، في حين لم تقبل من الحرية السياسية، إلا التعددية المحاصرة والمقيدة، حفاظا على استئثارها بالسلطة. بعبارة أخرى رفضت السلطوية السياسية جوهر العملية الديمقراطية، وهو فكرة تداول السلطة.

وهكذا يمكن القول إن المناخ السياسي العربي اليوم، الذي تسوده السلطوية السياسية بكل صورها وأشكالها، يمور اليوم بمحاولات تهدف لتحدي هيمنتها الكاملة على مجمل حركة المجتمع، في ظل مشاريع سياسية متعددة ومتصارعة يمر كل منها بأزمة حادة نتيجة ظروف داخلية وخارجية متعددة.

وفي الساحة الآن المشروع السلطوي الذي تآكلت شرعيته، وهو في حاجة إلى تجديد كامل لاتجاهاته، وهي عملية لا يستطيعها، بحكم غلبة جماعات المصالح وجماعات الضغط عليه. وهو لذلك في موقف الدفاع والتراجع، ويضطر من حين لآخر إلى تقديم تنازلات في مجال الحريات العامة ومجال التعددية السياسية، وحقوق الإنسان.

وفي مواجهته يقف المشروع الإسلامي الذي استطاع أن يجذب إليه جماهير متعددة، اندفعت إليه نتيجة خيبة أملها في المشروع السلطوي الذي فشل في إشباع حاجاتها الأساسية المادية والروحية، غير أن أزمته تتمثل في عمومية شعاراته، وعجزه عن بلورة برنامج متكامل متميز عن برنامج المشروع السلطوي، بالإضافة إلى انزلاقه إلى هاوية التطرف والعنف والإرهاب، مما جعل قهر الدولة السلطوية له يبدو كما لو كان أمرا مشروعا، بالرغم من تجاوزاتها في مجال حقوق الإنسان. ثم هناك المشروع الليبرالي الذي يطرح نفسه بديلا عن المشروع السلطوي، والذي لم يستطع حتى الآن ولأسباب شتى أن يجذب إليه عددا كافيا من الأنصار. ولدينا المشروع الماركسي، الذي زاد من أزمته الأصلية والتي تتمثل في أنه كان دائما مشروعا منعزلا عن الجماهير، سقوط الأنظمة الشمولية الماركسية وتحولها إلى الرأسمالية بخطوات متعثرة ومضطربة.

وأخيرا هناك المشروع القومي، الذي تتمثل أزمته في صعود المشروع الإسلامي على حسابه، وفي تعثر العمل العربي المشترك، وفي جموده وعجزه عن تجديد فكره، وربما في تجاهله القديم لحيوية موضوع الديمقراطية، بحكم تركيزه الشديد على الوحدة، وبغير أن يحدد المضمون السياسي لدولة الوحدة.

أي ديمقراطية نريد؟ هذه هي- بإجمال شديد- صورة المناخ السياسي العربي في الوقت الراهن، بها يتضمنه من مشاريع سياسية متصارعة. ولعله من بين الجوانب الإيجابية في هذه الصورة- التي قد تبدو قاتمة في مجملها- أن هذه المشاريع السياسية المختلفة، قد أدركت عجزها عن تغيير المجتمع العربي، بالمنطلقات النظرية التي صدرت عنها حتى الآن وبالوسائل التي اتبعتها، ومن ثم قامت بعملية نقد ذاتي، هي في رأينا دليل على شجاعة أدبية ورغبة في التطور.

ومن أبرز هذه المحاولات التي قامت بها الحركة الإسلامية مجموعة الدراسات التي أشرف عليها المفكر الكويتي الإسلامي المعروف الدكتور عبد الله النفيسي والتي نشرت في كتاب بعنوان الحركة الإسلامية : أوراق في النقد الذاتي. كما أن بعض أنصار المشروع الماركسي قاموا بمحاولة شبيهة، من أبرزها كتاب المفكر اللبناني كريم مروة. بالإضافة إلى الندوة الهامة التي عقدها أنصار المشروع القومي عن " ثورة 23 يوليو " والتي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالقاهرة. وهذه المحاولات في النقد الذاتي هي الخطوة الأولى نحو إقامة حوار ديمقراطي عربي واسع المدى بين أنصار هذه المشاريع السياسية جميعا، من شأنه أن يقرب مرحلة المواجهة المجتمعية الشاملة مع أنصار السلطوية السياسية.

غير أن هذه المواجهة، لابد أن يسبقها تحديد واضح لنوع الديمقراطية التي نريدها، ووسائلنا في تحقيقها.