قضية: ليس بالديمقراطية وحدها تبنى الأمم! سامي منصور

إننا كثيرا ما نتحدث عن المعجزات الاقتصادية الآسيوية، ولكن نادرا ما نبحث عن الأسلوب الذي تحققت به هذه المعجزات.

بداية لابد من تأكيد ما ليس في حاجة إلى تأكيد بأن طرح القضية ليس دعوة ديكتاتورية أو تشجيعا لنظام عربي على قهر واحد من الشعوب العربية أو كلها، فالعالم العربي خارج الحوار لأنه ليس فيه لا تنمية ولا غيرها.

إن طرح القضية ليس ردا على هذه الموجة التي وصلت أحيانا إلى درجة الهيستريا حول الديمقراطية، رغم أنه ليس هناك إجماع بين هذه الأصوات على إطار واحد للديمقراطية وإن كانت الأغلبية تتحدث عن الأسلوب الغربي رغم تعدد نماذجه.

إن طرح القضية دعوة للتفكير الجاد "وليس التقليد الأعمى" فيما إذا كانت الديمقراطية المطلوبة هي لبناء الأمم أم لهدم الكيانات القائمة، سواء كانت في شكل دول أو إطار أمم، فأداة الهدم ليست أداة بناء.

قطار النمور

والمعجزات الاقتصادية الآسيوية التي يطلق عليها الإعلام الغربي اسم "النمور" هي تايوان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وهونج كونج وتلحق بها في المقطورة الأخيرة من القطار ماليزيا وتايلاند. وسبقتها اليابان والصين الشعبية.

والأرقام تتحدث عن هذه المعجزات أو النمور: معدل النمو (81- 1990)

الدولة

الناتج القومي

الصادرات

كوريا الجنوبية

تايوان

هونج كونج

سنغافورة

الصين

9.5%

8.4%

7.6

7.1%

9.3%

14%

12%

13%

15%

11%

وتقول مجلة الإيكونومست البريطانية- 16 نوفمبر 91- إن معدل نمو النمور يزيد مرتين أوثلاثا على الدول الصناعية القديمة. ومع بداية القرن القادم الدولة، الناتج القومي الصادرات سوف يكون المواطن في تايوان أغنى من نظيره في نيوزيلندا، وفي هونج كونج أعنى ممن في بريطانيا، وفي سنغافورة أفضل ممن في إيطاليا. وتقول المجلة إن آفقر من في النمور سوف يصبح دخله السنوي أكثر من 6 آلاف دولارت

وقد زرت خلال العامين الماضيين ثلاثة من النمور الأربعة أكثر من مرة وهي هونج كونج وسنغافورة وكوريا الجنوبية، وحاولت الوصول إلى سر هذه المعجزات، إذ ليس من المعقول التسليم بمقولة "أن الإنسان الآسيوي له سمات خاصة". فذاك أمر غير مقبول ولابد من وجود عناصر حقيقية. والمسألة حتى ليست اشتراكية ورأسمالية، بدليل أن هونج كونج مثلا التي يضرب بها المثل في الحرية الرأسمالية نجد حوالي 40% من منازلها مدعمة، نعم.. مدعمة، وكوريا الجنوبية تصر على إبقاء الشركات الأجنبية خارجها، وسنغافورة بتجربتها الرأسمالية تتحكم فى كل شيء حتى حركة البشر، وجميعها تشارك في تحقيق نظام يسمح بتوزيع متوازن للدخل وتخفيض ضرائب الدخل على القوى العاملة الإنتاجية. فالمسألة ليست نظريات حتى يمكن إرجاع النجاح لها.

الأحزاب الحاكمة

العامل المشترك بين هذه المعجزات لنمور آسيا هو غياب الديمقراطية بالشكل الغربي للديمقراطية. فهناك أحزاب ولكن الحاكم حزب واحد يستمر سنوات قد تزيد على ربع قرن، وحتى في الحزب الواحد الحاكم القيادات فيه لا تتغير إلا بالشيخوخة الكاملة وليس شيخوخة السن، أو بالوفاة. وأمامنا الأمثلة في اليابان والصين وتايوان وكوريا الجنوبية وسنغافورة، والصحافة مقيدة- رغم تعددها- بقوانين عديدة، بل كانت كوريا الجنوبية تعيش في ظل قانون حظر التجوال بين الساعة الحادية عشرة مساء حتى الخامسة صباحا لأكثر من ربع قرن.

ولم يحدث انتقال للسلطة في كل نمور آسيا إلا بالعجز أو الوفاة، حتى في تايلاند التي تبدو استثناء فإن الجوهر واحد وهو بقاء الحكم في يد نخبة والباقي مجرد قناع خداع.

والغريب أن الدولة التي تفكر في الديمقراطية الغربية هي انتي يسقط فيها معدل النمو وتتعثر المسيرة، ومثال ذلك كوريا الجنوبية . فالتنمية تحتاج إلى الاستقرار وتماسك المجتمع مع التزامه بمجموعة من القيم والأهداف المشتركة، مع الإيمان بالعمل الشاق والجاد في ظل عدالة اجتماعية.

هذه ليست كلمات جمال عبد الناصر مثلا حتى يصاب البعض بالحساسية، ولكنها كلمات "لي كوان يو" مهندس معجزة سنغافورة وحاكمها لأكثر من 31 عاما حتى تنازل عن الحكم بإرادته في العام الماضي.

التنمية والحرية

وكأن قدر البشرية هو العجز عن الجمع بين الديمقراطية والتنمية أو بين الحرية السياسية والحرية في البناء. فإذا كانت تجارب الشعوب عبر التاريخ قد فشلت في إيجاد الصيغة التي تجمع التنمية والحرية السياسية فإن ذلك لا يعني التوقف عن التنمية.

فالواضح حتى الآن أن الفكر السياسي لم يستطع إيجاد إطار يجمع بين الحرية وعملية بناء المجتمع. والدول التي تتغنى بنظم حرياتها حققت البناء الأساسي في غياب الديمقراطية بالمعنى الشائع.

فالتنمية إذا كانت تحتاج إلى ترابط المجتمع واستقراره فإن الاستقرار لا يتحقق في نظر البعض بدون الديمقراطية السياسية، بينما نجد أنه في تجارب نمور آسيا تحقق الاستقرار من خلال عدالة توزيع الدخل، وهو ما أطلق عليه "النمو والمساواة" باعتبارهما وجهي عملة لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر.

واستقرت هذه التجارب الآسيوية على أن عدالة توزيع الدخل لا تتحقق بدون نظام تعليم جيد وإتاحته لكل الناس بالمجان، خاصة في التعليم الأساسي، كما أنه يتحقق من خلال مضمون برامج التعليم التي تخلق قيم العمل والعدالة في الإنسان. وفي دراسة أجريت بماليزيا اتضح منها أن زيادة سنوات التعليم عاما أتاحت زيادة أجر العامل بحوالي 16% والفلاح بحوالي 5%.

والأمر الذي لا يعرفه الكثيرون هو أن ارتفاع إنتاجية الفلاح في داخل قلاع النمور وهي اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والصين، قد تحقق بفضل قانون إصلاح زراعي بالغ الراديكالية..!!

مأزق عالمي

لعل دراسة عكسية تماما تكشف عن حقيقة المأزق الذي يعيش فيه الفكر السياسي العالمي. فأوربا الشرقية شعرت بحاجتها إلى الديمقراطية ورفض النظام الماركسي، وتم التغيير بالفعل، فإذا الجماهير تعاني من الجوع والبطالة بصورة لم تعرفها في حياتها، واكتشف الناس الخيار الصعب الذي وقعوا فيه، فقد كانوا يعيشون في ظل أنظمة غير ديمقراطية بالمعنى الغربي ولكنها كانت تضمن لكل منهم فرصة عمل ومسكنا وطعاما رخيصا، وحين اختاروا الديمقراطية تضاعفت الأسعار ليس مرة أو اثنتين بل حوالي مائة مرة عما كانت عليه في خلال أشهر، وارتفعت معدلات البطالة بدرجة خطيرة، وأصبحت دولة مثل بولندا يتنافس علي برلمانها حوالي مائة حزب، وتفكك البناء بل والمجتمع كله.

والحقيقة التي يتفق عليها الكل هي أن النظام الأمريكي بكل مميزاته وعيوبه هو نظام خاص لا يصلح إلا في الولايات المتحدة الأمريكية بل إنه لا يصلح حتى لأكثر الدول عراقة في الرأسمالية مثل بريطانيا أو غيرها.

والنمور في آسيا لم ينظر أحدها إلى أوربا أو أمريكا ولا بحث عن مدارس ومذاهب، بل بحث عن أفضل طريق يحقق التنمية وعدالة توزيع الدخل وبعضها حقق التنمية بما يشبه المعجزات حيث لا تتوافر معظم عناصر التنمية، ولعل أبرز وأشهر مثال على ذلك سنغافورة التي تستورد كل شيء ابتداء من الكهرباء وانتهاء بالأرض.. نعم الأرض!!

مرة أخرى هذه ليست دعوة إلى الديكتاتورية، ولكنها مجرد دعوة إلى التفكير العقلاني من منطلق الانتماء أساسا، والرغبة الصادقة في غد أفضل ليس للفرد رغم أهمية ذلك ولكن للأمة كلها. وينال الفرد نصيبه من هذا المستقبل المشرق. وهي مناقشة لا تقف عند حدود مدلول الديمقراطية أو التنمية، بل تشمل كل مقومات بناء الأمم.