هكذا تكلم نيتشه عن الإسلام.. د. بنسالم حميش

هكذا تكلم نيتشه عن الإسلام.. د. بنسالم حميش

لا يُعرف عن الفيلسوف الألماني الكبير فريدرك نيتشه «المتوفي سنة 1900» في المسألة الدينية إلا إلحاده وانتقاده الشديد للمسيحية، وخصوصاً منها مسيحية الإنجيل الجديد، إنتاج القديس بوليس وحوارييه، أما موقفه ذو الإيجابية العجيبة الصريحة من الإسلام وثقافته، فالقلة القليلة من مؤرخي الفلسفة الغريبة- وحتى من المتخصصين في فكر نيتشه- إما لا يأبهون له، وإما يسكتون عنه تماماً.

معرفة نيتشه بالموضوع المذكور لم تكن موسوعية ولا عميقة، إذ لا يورد في دفاتره سوى مصدرين لمستشرقين ألمانيين شهيرين: يوليوس فلهوزن J.Wellausen صاحب الدولة العربية, وأوجست مولير A.Muller واضع الإسلام في الشرق والغرب، لكن بالرغم من زهادة هذا الزاد، فإن نيتشه قد صاغ بفضل فذوذيته الفلسفية وقوة حدسه الخارق للعادة أفكاراً وخاطرات مدهشة لافتة في شأن الإسلام الثقافي وحتى العقدي. ولعل ما نقدمه من نصوصه مصحوباً بشيء من التعليق يظهر ذلك ويجليه:

النص الأول، وهو الأرأس في كتابه L'Antechrist الدجال، يوجد ضمن الجزء الثامن من أعماله الكاملة «جاليمار، 1974، ص231-232»، وأعرّبه هو وما يليه عن الأصل الألماني والترجمة الفرنسية، يكتب نيتشه:

«لقد حرمتنا المسيحية من حصاد الثقافة القديمة، وبعد ذلك حرمتنا أيضاً من حصاد الثقافة الإسلامية، إن حضارة إسبانيا العربية، القريبة منا حقاً، المتحدثة إلى حواسنا وذائقتنا أكثر من روما واليونان، قد كانت عرضة لدوس الأقدام «وأؤثر ألا أنظر في أيّ أقدام»! - لماذا؟ لأن تلك الحضارة استمدت نورها من غرائز أرستقراطية، وغرائز فحولية، ولأنها تقول نعم للحياة، إضافة إلى طرائق الرقة العذبة للحياة العربية، لقد حارب الصليبيون من بعد عالماً كان من الأحرى بهم أن ينحنوا أمامه في التراب - عالم حضارة إذا قارنا بها حتى قرننا التاسع عشر، فإن هذا الأخير قد يظهر فقيراً ومتخلفاً! لقد كانوا يحلمون بالغنائم، ما في ذلك من شك، فالشرق كان ثرياً!.. لننظر إذن إلى الأشياء كما هي! الحروب الصليبية، إنها قرصنة من العيار الثقيل، لا غير! وطبقة النبلاء الألمانية، وهي في الحقيقة طبقة الفيكنك (Vicing)، كانت معها في إطارها «الطبيعي»: والكنيسة كانت تعرف جيداً كيف تدجن النبلاء الألمان، طبقة النبلاء الألمان، دائماً سويسريو الكنيسة، التي هي دوماً في خدمة كل غرائز الكنيسة السيئة، لكن بأجر معتبر، حينما نرى أن الكنيسة، بعون السيوف الألمانية، أي بإراقة الدماء، وببرودة أعصاب الألماني، فإننا ندرك أنها قادت حرباً شعواء على كل ما تحمله الأرض من سموّ أرستقراطي! هذا ما يطرح كمّا من الأسئلة المؤلمة. إن طبقة النبلاء الألمانية تكاد تكون غائبة كليا عن تاريخ الثقافة العليا: ونتلمس علة ذلك.. المسيحية، الكحول - وسيلتا الفساد الكبريان، وبالذات، ليس حتى من الضروري الاختيار بين الإسلام والمسيحية ولا أكثر بين عربي ويهودي. فالجواب معروض سلفاً: هنا، لا أحد يمكنه الاختيار بحرية. فإما أن نكون تشندله Tchandala، وإما ألا نكون ذلك. «حرب عارمة على روما! سلام وصداقة مع الإسلام». هذا ما شعر به وما فعله هذا العقل الفذ القوي، العبقري الأوحد بين الأباطرة الألمان، فريدرك الثاني. هل يلزم أن يكون ألمانياً عبقرياً وعقلاً قوياً حتى يحس على نحو مهذب. إني لا أفهم كيف أن ألمانيّاً واحداً استطاع يوماً أن يشذ عن إحساسه بصفته مسيحياً..».

رؤية لفرقة الإسماعيلية

وقد ذهب نيتشه إلى التنويه بفرقة الإسماعيلية التي أنشأها حسن الصباح بقلعة الموت شمال - غرب - إيران «أواخر القرن 11 وبداية القرن 12»، وسُمّى أتباعه بالفدائين، ومن طرف أعدائهم بالحشاشين، وهذه التسمية غلبت عليهم، وحوّلها الصليبيون إلى Assassins. يكتب نيتشه: «عندما اصطدم الصليبيون بهذه الفرقة التي لا تغلب، هذا التنظيم لعقول حرة بامتياز، الذي يعيش أعضاؤه الرتب السفلى في طاعة لم يعرف مثيلها قط أيّ تنظيم رهباني، فإنهم «الصليبيون» تلقوا، من حيث لا ندري، بعض الأنوار عن هذا الرمز، هذا الشعار السري بذوي المقامات العليا وحدهم: لاشيء حقيقياً، كل شيء متاح، إذن، هو ما يسمى حرية الفكر، وما يطرد كل إيمان بالحقيقة ذاتها، هل هناك أي فكر أوربي حر، مسيحي، تاه يوماً في هذا القول وفي متاهة عواقبه؟ هل عرف بالتجربة مينوتور هذا الكهف؟ إني أشك في هذا وأعلم أن الأمر خلاف ذلك» (جينيالوجيا الأخلاق، ص 180-181).

أما النصوص الأخرى التي تصب في السياق نفسه، فقد أتت شذرات وتفاريق في كتابات لنيتشه أخرى، نورد أهمها فيما يلي:

لعل ما أسهم في تحبيب الإسلام الثقافي لنيتشه هو أمثولة «أو براديجما» الجنوب، عنوان الفحولة والصحة، فهروبا من «الاختناق الموسيقي» لأستاذه الأسبق ريتشارد فاجنير، المهووس بالنزعة الجرمانية الزاحفة للرايخ الثالث، سارع نيتشه إلى نشدان الهواء والشفاء لدى الحساسية الجنوبية المجسّدة في أوبرا كارمن التي جعله مؤلفها بيزي، كما يعلن: «أحسن حالاً وخصباً». وهكذا فإن أمثولة الجنوب أو الشرق ستكون أكثر فأكثر حضوراً في فكره من خلال ثلاثة عناصر على الأقل: صورة زارادشترا الذي سمّاه نيتشه نبي ديونيزوس، فكرة أن الفلسفة اليونانية هي «أول تركيبة كبرى لكل ما هو شرقي، ومن هنا بالتدقيق مبتدى الروح الأوربية واكتشاف عالم جديد». (إرادة القوة، ص151). تعاطفه مع قانون الرسول محمد، الذي أنشأ، كما كان الشأن في عهد الإنجيل القديم، ديانة سامية غير منهارة، ومن ثم إعجاب الفيلسوف الألماني، كما أسلفنا، بالحضارة الإسلامية، الأرستقراطية، الالتذاذية، الناعمة، وكذلك بالشاعر الفارسي العظيم حافظ الشيرازي، مشبها إياه بجوته من حيث علو اليقظة والرقة (جينيالوجيا الأخلاق، ص 113 ونيتشه ضد فاجنير، ص363).

حول نقط التقاء بل تماهٍ بين فكر نيتشه والإسلام، نقطة تمس هذه المرة البعد العقدي، يمكن بإيجاز إيرادها كالتالي: قول الإسلام بناسوتية المسيح ابن مريم وتحريف حوارييه وصحابته للإنجيل القديم، وكذلك قول النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) «لارهبانية في الدين»، وحظه على رعاية حق النفس وطهارة البدن وتحريمه شرب الخمر (انظر إرادة القوة، ص137).

وعن هذا التحريم الذي يؤيده نيتشه، ولو بقصر إعجابه بديونيزوس على الرقص دون العربدة «حسب صفتي هذا الإله في الميثولوجيا اليونانية» هذا ما يكتب: «الحقيقة في الخمر In vino veritas: هنا أيضاً يبدو لي أني حول مفهوم الحقيقة أختلف مع العالم كله:

- فعندي أن الفكر يحلق فوق الماء» (هذا الإنسان Ecce Homo، ص26).

عن النصوص النيتشوية

إن الغاية من رفع حجب النسبي أو التناسي العمد عن تلك النصوص النيتشوية حول الإسلام وثقافته لهي ذات شقين:

أولا- التعريف بها وتقريبها من مدارك المهتمين بشئون الفكر وتاريخ المفاهيم والتمثلات المقارن، هذا علاوة إظهارها كنموذج ضمن نماذج عدة «جوته، شبنجلر، توينبي، ماسينيون، بيرك..» نسجل من خلالها الشرخ الشاسع بينها وبين ما يفيض به حديثاً سوق النشر ويغلي منذ ثلاثة عقود ويزيد من كتابات عن الإسلام مفصولاً عن تاريخه وحضارته، مختزلاً ومحشوراً في ما تفعله به في عصرنا جماعات سمّوا قديماً بالغلاة والخوارج في مقالات الإسلاميين «بالمعنى الذي لهذا الاسم عند أبي الحسن الأشعري كما عند البغدادي والشهرستاني وغيرهم». وإنها جماعات لها نظائرها وأشباهها في كل الأديان والأيديولوجيات - والبحث في أسباب نشأتها واشتغالها مطلوب علمياً - وهي عموماً لا تستجيب في مقولاتها وممارساتها لوسطية الإسلام، ولا للحديث النبوي الشريف «لا تغلوا في دينكم»، ولا لتنبيه الإمام سفيان النوري الكوفي «المتوفي في 161هـ» «إنما الرخصة من فقيه ثقة، أما التشديد فيحسنه كل واحد».

في الديوان الشرقي

وعلى سبيل المثال لا الحصر، حينما نقرأ في الديوان الشرقي لجوته: «إذا كان الإسلام معناه التسليم لله، فعلى الإسلام نحيا جميعاً ونموت»، فأين نحن منه لما يطلع علينا برنارلويس - واضع مفهوم «صدام الحضارات» - الأسبق - بحكم قاطع متطرف، لا فرق عنده فيه بين الإسلام وغلاته، كما يدل عليه عنوان كتابه «عودة الإسلام» The return of Islam، إذ يسجل في مقام آخر «إن الأمر ليس أقل من كونه صدام حضارات، فعودة الإسلام اليوم ردة فعل لاعقلانية من خصم قديم، مناوئ لإرثنا اليهودي - المسيحي ولما نحن عليه اليوم. إنه من الأهمية البالغة ألا نسقط، من جهتنا، في ردة فعل تكون هي أيضاً لاعقلانية وقديمة ضد هذا الخصيم». («جذور السعر الإسلامي»، Atlantic Monthly، شتنبر 1990). إنها كلمات راجمة، مشحونة بتصوير حربوي للتاريخ، لا يبشر بأي خير لإعادة تأسيس ثقافة السلام المنشودة، ثقافة تكون مخلصة أخيراً من سيكولوجيا الغل والضغينة، ومن أي ذاكرة أحادية البعد، مسكونة ومسكوكة بصراعات الماضي وصداماته.

ثانياً- هناك في كتابات نيتشه وقفات تأملية وشذرات عميقة خصّ بها النخب المثقفة في عصره، وأرى أنها تعني إلى حد كبير نخبنا نحن في بلدان الجنوب عموماً، والبلدان العربية على وجه الخصوص. فكيف لا نفكر في وضع أعضاء هذه النخب ونزوع أغلبيتهم، ولو من دون خوض معارك، إلى التقاعد المبكر والاهتمام بفلح حدائقهم الخاصة، ويصح عليهم وصف نيتشه للمنحلين المنهارين Les Decadents «وهي كلمة يوردها بالفرنسية في نصّه الأصلي»: «إنهم أناس متكسلون، تالفون، لا يخشون إلا شيئاً واحداً: أن يصيروا واعين». (جينيالوجيا الأخلاق، ص 178-179)؟ ويضيف في السياق نفسه: «إن شخصية وهنة، منخورة، منطفئة، تنفي كيانها وتنكر نفسها لا تساوي أي شيء يذكر»، وذلك بفعل الإيحاء الذاتي الدوني وازدراء الذات وتدهور الإحالة عليها، أي ما يسمّيه الفيلسوف Selbstosigkeit. وكل هذه الأوصاف والحالات كان سلفه مواطنه هردر يرصدها عند جيله ويشعر بها بحدّة متناهية في ظل هيجمونيا فلسفة «الأنوار» الفرنسية مشخّصة أساساً في كتابات فولتير وفي عرضها لمبادئ هذه الفلسفة الفرنسية النشأة والتكوين كمبادئ شمولية ضرورية، وكذلك كان الاعتقاد في بروسيا القيصر فريدرك الثاني المبهورة الشغوفة بالأنموذج الثقافي الفرنسي وبحامل ألويته ورسالاته، ولو بالغزو والاكتساح، لوي نابليون بونابرت، الذي رأى فيه هيجل من على شرفته بإيينا التشخيص الحي للفكرة - المثال ممتطية على صهوة فرس. وكان هردر عهدئذ يقف من ذلك، وحده تقريباً، موقف النقد والمقاومة ويصيح باسم وطنيته وحق الشعوب في ثقافاتها ولغاتها:

«كيفما كنت، فإن السماء تصرخ للأرض أني ككل موجود لي مكان ولوجودي معنى». (فلسفة للتاريخ أخرى، ص703)، وكذلك في مقام آخر: «لنسر على طريقنا الخاص، تاركين الناس يقولون خيراً أو شراً عن وطننا وأدبنا ولغتنا: فهذه مقوماتنا، وهي ما نحن عليه، وهذا في حد ذاته يكفي».

روح الشعب

ولما حلّت بروسيا هزيمة إيينا واحتلت جيوش نابليون ألمانيا المنقسمة إلى إمارات أخذ صوت الفيلسوف هردر يسمع أكثر فأكثر ومفهومه «روح الشعب» Volksgeist ينتشر ويؤدي دوراً وحدوياً ما كانت ألمانيا أحوجها إليه! وبعده ظهرت الحركة الرومانسية الألمانية معززة أفكاره، رافعة مفهوم الثقافة Kulture نقيضاً للناموس المثالي والعقل الشمولي. ورديفاً لروح الأمة المتأصلة في هويتها المتطورة كمعين خلق وإبداع. ولاريب أن هناك وجوه تناظر وتماهٍ بين ألمانيا الإمارات للنصف الثاني من القرن الثامن عشر، ووضع العالم العربي القائم اليوم، المتولد عن أحداث وواقعات جسام نعلّمها ببعض تواريخها على سبيل التمثيل فقط، 1860: فرنسا تتدخل في لبنان بزعم حماية المارونيين ضد الدروز... 1881-1882: قنبلة الإسكندرية وسحق الثورة العرابية في التل الكبير، فاحتلال الإنجليز لمصر في عهد الخديو توفيق، وكل هذا بعد ما عرفه هذا القطر العربي من تغلغل أوربي بدعوى مراقبة فرنسية - إنجليزية للميزانية المصرية المنهكة بالقروض في عهد الخديو إسماعيل.. 1883: استعمار فرنسا الاستيطاني للجزائر.. 1888: بداية التسرّب الإنجليزي إلى الحجاز بدعوى مساعدة القومية العربية بزعامة شرفاء مكة على مناهضة العثمانيين.. 1912: فرض نظام الحماية الفرنسية على المغرب بحجة عجز هذا الأخير عن تسديد ديونه الخارجية لبنك Paribas الفرنسي.. 1916: اتفاقية سايكس - بيكو الإنجليزية - الفرنسية لتقسيم الشرق الأوسط إلى مناطق نفوذ وانتداب.. إلخ.

إن وجوه التناظر والتماهي تلك قد تفضي بنا على الصعيد الفكري إلى إثبات الطابع التعددي لمقاصد النهج التوليدي اللاتبعي الإيجابية، إنما أعلاها وأعزّها يكمن في التخلّص من عمل التدمير الذاتي عبر إشاعة الشعور المتصل المتجدد - إيحاء وترديداً - بقدرية التخلّف أو برسوخه الكياني. وما يفرضه لزوماً فك ارتباط الذات بهذا العمل السالب يتمثل أساساً في تحصين الاختيار السيادي وتعزيز إرادة القوة الواقية، كما في توليد أوامر التغيير القطعية من الذات، أي من صلب «الأنا» التاريخي، وهذا كله في حق المجموعات التاريخية الواقفة ضد مخاطر التفسّخ والمسخ، التوّاقة إلى الانخراط الفعلي في صنع الدلالة والمعنى على مسرح التاريخ، كما في التأثير على سير العالم وتوجهاته. وإنه لا قدرة لها على ذلك إلا باستثمار كل النوابض والحيويات التاريخية والثقافية - المؤسسة لهويتها - في تسييد وإنعاش قيم التحرر والنمو المتكافئ والسلم العادل.

 

 

 

بنسالم حميش