أطفالنا وتعليم اللغة الثانية هالة ببيلي الروماني

أطفالنا وتعليم اللغة الثانية

كثر الحوار في هذه الأيام حول جدوى إدخال تعليم اللغة الإنجليزية في مناهج المرحلة الابتدائية، وبينت بعض الآراء المعارضة الصعوبات التي يواجهها معلمو هذه المرحلة في التعامل مع اللغتين، الأمر الذي حمل البعض على الدعوة لإعادة النظر في الموضوع وتأجيل تعليم اللغة الثانية إلى المرحلة الإعدادية.

إن التحديات التي نواجهها اليوم في هذا العالم الجديد تجعل ثنائية اللغة لدى أطفالنا وحتى لدى البالغين منا من ضروريات الحياة والتطور وليست أمرا متمما أو كماليا، وتهيئة أولادنا للتعامل مع هذا العالم للاستفادة من التقدم العلمي والتقني الذي يتميز به هو الوسيلة الوحيدة أمامنا الجديد الذي نسعى إليه والذي يجب أن ينبثق من ديننا وأعرافنا ويتمكن في الوقت نفسه من أن يتفاعل مع حضارة القرن الواحد والعشرين.

وقرار البدء بتعليم اللغة الثانية في مرحلة مبكرة ليس قرارا سياسيا أو عاطفيا، وإنما هو قرار يبنى على الواقع الذي يفرض نفسه، فاللغة وسيلة لاكتساب العلم والمشاركة في الحوار والإعلام الذي يسيطر على هذا العالم، فالغرب تعلم اللغة العربية في العصور الوسطى ليقتبس من الحضارة العربية والإسلامية أيام أوجها حتى وصل إلى ما هو فيه الآن من تقدم علمي وحضاري، ولم يفقده ذلك كيانه أو ولاءه للغاته الأم أو لعاداته وأعرافه. واختيار اللغة الإنجليزية لغة ثانية ليس توجها سياسيا مفروضا أو لأنها لغة التعامل الرسمية وإنما اختيار مبني على واقع كون هذه اللغة في هذه الحقبة من الزمن، اللغة التي توافرت بها أكبر كمية من مصادر المعلومات، وأنها اللغة الأولى للتعليم العالي الذي نود أن نيسره لأطفالنا دون أن تكون اللغة عائقا بينهم وبينه.

قرار لا يقبل التأجيل

ولهذا فإن تعليم اللغة الثانية يجب أن يكون ركنا أساسيا من أركان مناهجنا الحديثة لا يقبل إعادة النظر أو التأجيل، وإن كان لا بد من إعادة النظر بسبب الصعوبات التى قابلتها التجربة، فإن ذلك يجب أن يتم من خلال إعادة النظر في الطريقة التي اتبعت التعليم اللغة الثانية، وإن أردنا إعادة النظر في المرحلة التي يبدأ فيها تعليم اللغة الثانية، فإن ذلك يجب أن يتم من خلال دراسة إمكان البدء في تعليمها في مرحلة أبكر لا في مرحلة أكثر تأخرا، وذلك من خلال دراسة الطريقة التي يكتسب بها الأطفال اللغة خلال مراحل نموهم وبالاستفادة من نتائج تجارب مشابهة لتعليم اللغة الثانية.

إن اكتساب أو تعلم اللغة بشكلها العام لدى الطفل يرتبط ارتباطا مباشرا بنموه الفسيولوجي حيث تتطور الروابط بين الخلايا العصبية في مركز اللغة في الدماغ خلال السنة الثانية من العمر لتصبح قادرة على رسم الأشكال المختلفة للأصوات لتكوين الكلمات ثم الربط بين الكلمات والمعاني. وتبدأ خلال السنة الثالثة من العمر عملية الربط بين الكلمات لتكوين جمل مفيدة تتطور من عبارات قصيرة إلى جمل مركبة أكثر تعقيدا وفق قواعد تتطور من القواعد اللغوية العامة إلى أن تشمل الحالات الخاصة للقواعد بين عمر 3 و 6 سنوات.

وقد أجمع علماء التربية على أن الفترة من عمر الطفل بين سنتين وست سنوات هي الفترة التي يكون فيها الطفل أكثر استعدادا أو حساسية لتعلم اللغة "الفترة الحساسة للغة" وهي الفترة التي يكتسب فيها الطفل لغته الأم. وقد بينت الدراسات أن الأطفال الذين يبدأون تعلم لغة ثانية في نفس الفترة يتعلمون اللغتين معا كأنهما لغة واحدة ويصبح بمقدورهم بشكل تلقائي استعمال اسمين مختلفين لنفس المسمى.

بينما يلاحظ أن الأطفال الذين يبدأون تعلم اللغة الثانية بعد هذه الفترة الحساسة لتعلم اللغة "بعد 6 سنوات" يتعلمونها بشكل يشابه تعلم البالغين للغة الثانية، فهم يتعلمونها كلغة منفصلة وبشكل منهجي مما يجعلهم يتعلمون فقط المفردات التي تضمنتها مناهجهم دون أي ارتباط مع مفردات لغتهم الأم التي تعلموها خلال الفترة الحساسة ودون أي ارتباط جمع خبراتهم المكتسبة، ولذلك نجد أن هؤلاء الأطفال يبذلون جهدا فكريا أكبر عند حاجتهم للتحول من لغة إلى أخرى، كما تلاحظ لديهم أعراض الخلط بين اللغتين بشكل واضح.

وضرر غير قابل للإصلاح

وقد أثبت علماء التربية من خلال تجارب عملية أن الأطفال الذين لم تتح لهم الفرصة لاكتساب اللغة خلال هذه الفترة، سواء لأسباب فيزيائية كفقدان القدرة على السمع أو لأسباب اجتماعية "تجربة جان ايتارد مع طفل آفيرون" فإن الضرر الذي يحدث لديهم يصبح ضررا دائما وغير قابل للإصلاح إلا ضمن حدود تعتمد على درجة الحرمان السابق، فلذلك ذهب بعض التربويين إلى حد تسمية هذه الفترة بالفترة الحرجة لتعلم اللغة تقديرا لمدى أهمية تعليم اللغة خلالها وخطر تأجيل ذلك لما بعدها.

إن الفترة الحساسة لتعلم اللغة لدى الطفل تعطي العملية التعليمية الفرصة الملائمة والتوقيت المناسب لتعريض الطفل للغة الثانية بشكل يمكنه من اكتسابها مع لغته الأم مستفيدا من كل الخبرات التي يختزنها تلقائيا في هذه المرحلة. ومن المؤكد أن تحضير الطفل خلال هذه المرحلة المبكرة سوف يزيد الكثير من الصعوبات التي ظهرت عند محاولة البدء بتعليم اللغة الثانية في المرحلة الابتدائية، ويمكن أن يتم ذلك من خلال وضع الطفل في مرحلة ما قبل المدرسة في بيئة ثنائية اللغة تتوازن في عرض اللغتين وتخلق الفرص المناسبة لاستعمال كل منهما من خلال الألعاب اللغوية والمحادثة والقصص والمساعدات التعليمية للغة دون استعمال العملية التعليمية المباشرة.

ومن الجدير بالذكر في هذا المجال أنه لا مجال لمقارنة تجربتنا في التعليم المبكر للغة الثانية مع التجارب المماثلة في الدول المتحضرة كإنجلترا أو أمريكا، حيث تعتبر اللغات الثانية بالنسبة لها من الكماليات. وربما كان من الأجدر أن نقارن التجربة مع تلك التي تتم في الهند أو اليابان التي تعيش ظروفا مشابهة لظروفنا وحيث يعتبر تعليم اللغة الإنجليزية لديهم من المرحلة المبكرة ركنا أساسيا من أركان برامجهم التعليمية.

 

هالة ببيلي الروماني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات