مساحة ود هناء عطية

مساحة ود

لوحات من الرخام

جلست أمي فوق الأرض.. ثم راحت تحدق إليهما طويلا، وهما مستندان إلى الجدار المواجه لها،

قالت: أعيدي تنظيفهما من جديد. قلت: إنني أنظفهما كل يوم.

تفرست في أحدهما، ثم أشارت إليه قائلة: ما المكتوب هنا؟! قلت: لقد قرأته لك مرارا.

أطرقت برأسها صوب الأرض.. شاردة، وإحدى كفيها تتحسس السجادة، أخذت أتفرس في الكلام المحفور فوقهما، وكأني أفعلها للمرة الأولى!! قلت هامسة: صنعتهما كما تريدين ومع ذلك!!.

- اقرئي مرة أخرى.. أرى أحدهما سيسقط فوق الأرض.

وتذكرت أنني حين ذهبت أول مرة لصانعهما، أخبرته أن أبي في الخمسين من عمره، وخيل إلي أنني طلبت منه أن يكتب ذلك فوق اللوحة، ورأيته يخفي ضحكة باهتة، مبتورة.

تحسست الرخام بحذر، وسرعان ما تسللت البرودة إلى جسدي، رحت أقرأ ما فوق اللوحة الأولى من تاريخ الوفاة، واسم أبي، انتهاء بكلمات من القرآن، في قراءة سريعة، دون أن أجرؤ على الالتفات إليها، وبسرعة انتقلت إلى اللوحة الثانية، وحين رددت: فقدنا الحبيب الغالي.. قاطعتني قائلة: لا يكفي هذا.. لا يكفي..

ثم عادت إلى صمتها، وكانت تحدق في اتجاه نافذة الحجرة المطلة على "المنور"، وعندما جلست بجانبها متكئة إلى الحائط، أخذت أحدق مثلها هناك، وأراقب الظلال التي تمسح نافذة الحوش المغلقة، ومن جزء من زجاجها المتكسر رأيت السلم، ووجها لامرأة تبينته بصعوبة في ظلال الضوء المتسلل من الشقق إلى عتمة السلع، وفكرت أن تلك النافذة ترعبني في الليل.

قلت: أريد يا أمي أن أغير موضع الفراش. التفتت إلي، وحدقت في عيني طويلا.

قالت بصوت ضعيف: كم قلت ذلك مرارا.. من صغرك وأنت لا تحبين النوافذ المطلة على السلم!!.

نظرت إلى اللوحتين من جديد وهي تتمتم: لا يكفي أبدا.. وكنت أعلم أنها تفكر في لوحة أخرى وكلمات جديدة.

شهور وهما بحجرتي!! في الليل أخبئهما بين الكتب أو تحت الفراش، وعندما أستيقظ أعيدهما إلى الجدار، فوق الأرض. قالت: اختاري أنت، وسافري بإحداهما. قلت: حقا!! ألم تمنعيني؟.

امتدت أصابعها إلى ركبتي، وراحت تمسح عليها برفق قائلة:

- إنني لا أفهم في الكلمات.. ابحثي أنت.. نعم.. لا أفهم!!.

وسمعت حشرجة لأصوات رجال يصعدون الدرج، وكانوا يعبرون بتثاقل خلف النافذة، وتملكتني صورة القبر بلا لوحة، وحيدا وسط الحقول، وطيور هاربة تحط عليه.

- أمي.. هل أقرأ لك مرة أخرى؟!. نامت على أحد جانبيها، وهي تصنع من فخذي وسادة، ووجهها في اتجاه الرخام، وسمعتها تهمس بكلمات مبهمة تخللها اسم أبي مرات عديدة، وشعرت بخدر غامض يتسلل إلي، وراحت في غفوة.. وكنت أسمع أنفاسها المنتظمة.. وأنا أغرق معها في نوم عميق.

 

هناء عطية

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات