الأعشى صناجة العرب (شاعر العدد)

الأعشى صناجة العرب (شاعر العدد)

سئل أحد نقاد الشعر العربي القدامى يوما عن أشعر الناس فقال: «امرؤ القيس إذا غضب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب»، وسنتجاوز عن الغضب والرهبة والرغبة الآن لنعيش في أرجاء الطرب الشعري بتوقيع الأعشى، ويبدو أن ذلك الطرب المنتهي بالقصيد هو الذي أهدى الأعشى لقبه الشهير «صناجة العرب».

إنه ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل من بني قيس بن ثعلبة الملقب بالأعشى والمكنى بأبي بصير. ولم يذكر من ترجم له تاريخا محددا لميلاده لكنهم ذكروا أنه ولد في قرية منفوحة بأرض اليمامة وسط الجزيرة العربية، وأنه توفي بعد الهجرة بسبع سنوات (628م) وقد بلغ من العمر عتيا. وبين لقبه المستمد من ضعف بصره الذي أسلمه للعمى في أواخر عمره، وكنيته التي أطلقت عليه تفاؤلا على عادة العرب وإعجابا بتلك البصيرة التي تجلت فيما أنتجه من شعر، مارس حياته كلها تحت ظلال موهبته الشعرية الفذة، والتي حجزت له مكانا فسيحا ومكانة مهمة في ديوان الشعر العربي، حتى أن كثيرين أدرجوا لاميته الشهيرة ضمن معلقات العرب المذهبة تفضيلا لها على غيرها من المعلقات السبع المجمع عليها. وكان غزير الشعر.

وقد ترحل الأعشى كثيرا بين ملوك العرب وزعماء قبائلها، راجيا عطاءهم الذي كانوا يبذلونه إعجابا بالشعر ومكافأة لصاحبه على مدائحه لهم. ولم يكن الأعشى ممن يجد غضاضة في طلب المال من أصحاب المال بواسطة القصيدة، فعلى الرغم من أن أبا الفرج الأصفهاني قال في أغانيه «إن الأعشى أوّل من سأل بشعره»، فإن الشاعر لايرى ذلك سؤالا بل سيرورة للقصيدة وشهرة لصاحبها، ومالا يمكن أن ينفقه على السائل والمحروم وعلى أصدقائه وندمائه وقبل كل هذا على مواطن اللذة لديه وهي الخمر التي كانت سلواه في حله القليل وترحاله الكثير، والنساء وعندهن كان البحث الدائم عن سر الحياة الكامن في العلاقة ما بين الرجل والمرأة.

وعلى الرغم من لوم الكثيرين له على مسلكه في المبالغة بالتكسب الشعري تطوافا على علية من يعرف ومن لا يعرف من الأقوام والقبائل، ومن اللائمين ابنته التي كانت تفتقده ولا تراه من بين رحلاته الطويلة وأسفاره الكثيرة إلا لماما، لكنه لم يرعوِ يوما، بل كان يبرر ذلك بالإضافة إلى رفضه الثواء على الفقر والحاجة، بتأملات إنسانية وفلسفية تقترب إلى الفكر الوجودي بمعناه المعاصر. فلديه تتساوى كل الأفكار وتنتهي إلى نقطة اللاجدوى.

والأعشى إلى ذلك جريء في كل شيء؛ في سلوكه وعلاقاته وشعره وتوظيفه لهذا الشعر وفقا لرؤيته للحياة من منظور عبثي صرف. ولعل ذلك المنظور تحديدا هو الذي جعله يتصرف بلا مبالاة مع فكرة اعتناقه للدين الإسلامي عندما ظهر في أرض العرب، فقد أقدم على تنفيذ الفكرة ثم أحجم. وعلى هذا الصعيد تحكى أكثر من حكاية، تجمع كلها على أنه كان شيخا طاعنا في العمر عندما بلغه أمر الإسلام، فعقد الأمر على اللحاق بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، ربما استكشافا لأمر هذا الدين الجديد منه أو لعله أراد أن يمدحه على عادته في مديح كبار القوم استجلابا لعطاياهم، ولعل ما يؤيد الرأي الأخير أن بعضهم قال له إن الدين الجديد يحرم الخمر والزنا والقمار، فقال الأعشى المولع بثالوث اللذة هذا: «أما الخمر فقد قضيت منها وطرا، وأما الزنا فقد تركني ولم أتركه، وأما القمار فلعلي أصيب منه عوضا»!، وهذه إجابة تدل على ذلك الهدف المباشر من فكرة اقترابه من حمى الإسلام، ولهذا فقد أحجم عن بلوغ غايته تلك عندما حصل عليها بطريقة أخرى، فقد وفر له أعداء الدين الجديد من المال ما كفاه؛ مائة ناقة حمراء، فأخذها ورجع، حتى إذا دنا من اليمامة، حيث أهله المنتظرين، سقط من فوق ناقته فدقت عنقه ومات. لكن شعره - أو أغلبه على الأقل - لم يمت معه لحسن الحظ، بل بقي ليجمع بديوان فخيم، حظي باهتمام محبي القصيدة العربية قراءة وتذوقا، كما حظي بعناية الكثير من النقاد واللغويين والمستشرقين شرحا وتفسيرا وتحقيقا وترجمة أيضا.

 

 

سعدية مفرح