عبدالحليم وأغاني الزمن الناصري

عبدالحليم وأغاني الزمن الناصري

يرتبط زمن عبدالحليم في ذاكرتي بثلاثة أشياء أساسية، أولها - ذكريات الحب الأول بكل أحواله وأفراحه وأحزانه وأمانيه وأشواقه، وظني أن أغاني عبدالحليم عن الحب الأول قد أسهمت في تعليمنا معنى الحب، ولا أظن أن أحدا من أبناء جيلي ينسى أغنيته التي رددناها وراءه «أول مرة تحب يا قلبي، وأول يوم أتهنى، ياما على نار الحب قالولي، ولقيتها من الجنة» وكانت الأغنية من فيلم «الوسادة الخالية» الذي عرض سنة 1957.

وثانيها - طموح ابن الطبقة الوسطى بشرائحها الفقيرة الذي يرفعه كفاحه في مجاله، مندفعا بموهبته الأصيلة وأحلامه العظيمة، إلى ذرى النجاح، في أفق مفتوح من الآمال العريضة، وذلك في زمن كل ما فيه يدعو إلى الصعود، ويدفع الطامحين إلى التقدم مع قادة الثورة الذين كانوا هم أنفسهم أبناء شرائح الطبقة الوسطى التي تمردت على الطبقات الإقطاعية والرأسمالية لتجد لها مكانا تحت الشمس، فاتحة الأمل لشرائح الطبقة الأدنى كي تحصل على نصيب عادل في ملكية الوطن، وحق التعليم المجاني حتى الجامعة والعلاج.

والحق أن تاريخ عبدالحليم الفني هو تاريخ الثورة، خصوصا في أغانيه الوطنية التي كانت تفتح لنا الآفاق التي كان جيلي يحلق فيها، متوثبا بالأمل، مملوءا بالأماني الممكنة، والأغاني التي كانت تعبر عن مشاعر كل فرد فينا، نحن جيل الثورة الذي فتح عينيه على الدنيا مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وما أن وصل إلى الطفولة حتى سمع عن مأساة فلسطين التي ظلت دائما في الوجدان، وما أن تجاوز العاشرة حتى شاهد انتصار 1956واندحار العدوان الثلاثي، وعرف منظمة التحرير وشعار «الاتحاد والنظام والعمل» وانتقل من خيمة «الاتحاد القومي» إلى «الاتحاد الاشتراكي»، وعاش انتصار الدولة الوطنية التي سرعان ما مضت نحو الاشتراكية والعدالة الاجتماعية التي تحولت إلى أحد أطراف الثالوث «الحرية، الوحدة، الاشتراكية» وعرفنا الطريق إلى «بستان الاشتراكية».

أغنيات صعود الثورة

ولذلك كان زمن عبدالحليم حافظ هو زمن صعود ثورة يوليو، وسجلها الذي ينطوي على انتصاراتها، وأمانيها العظيمة الذي بدا تحقيقها قاب قوسين أو أدنى من التحقق، فكانت أغنياته السياسية أغنيات صعود هذه الثورة، منذ انفجارها في يوليو 1952 إلى انكسارها العظيم والأليم في يونيو1967، وبين هذين التاريخين عاش جيلي تحول الحلم الذي صعد بنا إلى عنان السماء المفتوحة ،إلى اتساع هوة الكابوس الذي غاص بنا إلى قرارة القرار من اليأس ولنبدأ من البداية.

كانت أغنية عبدالحليم الأولى بعد قيام ثورة 23يوليو1952، وتغنى فيها بشعار «الاتحاد والنظام والعمل» الذي نادى به الرئيس الأول محمد نجيب، أول رئيس لجمهورية مصر الجديدة التي قامت على أنقاض النظام الملكي، بعد رحيل الملك فاروق وولي عهده في السادس والعشرين من يوليو 1952على يخت المحروسة، فاتحا الباب لصعود «العهد الجديد» وهو الاسم الذي حملته الأغنية الوطنية الأولى لعبدالحليم عبدالحافظ، على نحو ما وجدتها في كتاب صديقه الحميم مجدي العمروسي الذي حمى تراثه بعد وفاته، وقد عرفته، بعد وفاة عبدالحليم بسنوات عديدة، وجمعتنا صداقة مودة واحترام متبادل، قبل أن يرحل عن دنيانا ليلحق برفيقه، ولكنه قبل رحيله بسنوات أهداني الأعمال الكاملة لكل أغاني عبدالحليم التي أحتفظ بها كالكنز الأثير، ففيها مرايا حياتي الشخصية بأحلامها الفردية، وأحلام وطني على السواء. وقبل موته - رحمه الله - أهداني كتابه «كراسة الحب والوطنية السجل الكامل لكل ما غناه العندليب الأسمر»، وقد عرفت من هذا السجل أن أغنية عبدالحليم الوطنية الأولى هي «العهد الجديد» الذي اشتركت معه في غنائها عصمت عبدالعليم، وهي من تأليف محمود عبدالحي وتلحين عبدالحميد توفيق زكي الذي عرفته في سنواته الأخيرة، حين كان عضوا في لجنة الموسيقي بالمجلس الأعلى للثقافة الذي كنت أمينا عاما له لما يقرب من خمسة عشر عاما وتبدأ الأغنية بصوت المجموعة:

«حيوا فجر البعث في يوم الخلود
واطلبوا الآمال في العهد الجديد».

ويلي ذلك صوت عصمت عبدالعليم التي كانت أكثر شهرة من عبدالحليم في تلك الأيام، إلى أن يأتي دوره الذي يتبادله وإياها إلى أن يختم الأغنية بصوته:

«وشباب النيل للنيل فداء
يبذل الروح له بذل السخاء
وشعار العهد من نور الأمل
اتحاد ونظام وعمل
نبلغ المجد بها في العالمين»

أغنية لصلاح عبد الصبور

والأغنية مكتوبة بالفصحى، كعادة الأناشيد القومية في ذلك الوقت، ولذلك لم يكن مفاجأة لي أن حكى الصديق صلاح عبدالصبور - رحمه الله - نظير عبدالحليم في رحلة الكفاح التي بدأت من مدينة الزقازيق، أنه أعطى عبدالحليم قصيدة من شعره، غناها في بدايات حياته الفنية، قبل أن يصبح عبدالحليم الشهير الذي عرفناه، فقد عرف صلاح عبدالحليم من الزقازيق التي يشتركان في الانتساب إليها مع صديقهم الثالث، كاتب الأغنية مرسى جميل عزيز الذي ورث تجارة والده في الفواكه، وأصبح ثالث الشلة الزقازيقية التي انتسب إليها الدكتور أحمد هيكل أستاذ النقد الأدبي في كلية دار العلوم، قبل أن يصبح وزيرا للثقافة - رحم الله الجميع - وكانت قصيدة «لقاء» غير موجودة في دواوين صلاح عبدالصبور أول ما غناه عبدالحليم في الإذاعة المصرية من تلحين كمال الطويل صديقه في معهد الموسيقى والقصيدة موجودة في موسوعة العمروسي عن أغاني صديق عمره وكان مطلعها:

«بعد عامين التقينا ها هنا والدجى يغمر وجه المغرب
وشهدنا النور يخبو حولنا فسبحنا في جلال الموكب
وانتبهنا فتبعنا ظلنا دمعنا ينطق والدمع أبي
لو تدرين ما أكتمه
في دمى يا واحة المغترب»

وقد حدثني صلاح عبدالصبور - رحمه الله - أن هذه كانت القصيدة الأولى التي يغنيها عبدالحليم في حياته، وكان تأثير أستاذه إبراهيم ناجي واضحا فيها، خصوصا في بيتها الثالث الذي يذكرنا بقول إبراهيم ناجي «وعدونا فسبقنا ظلنا».

والمسافة الزمنية بين قصيدة «العهد الجديد» و«لقاء» مسافة قصيرة، يصل بينها بداية صعود ثورة يوليو 1952 على يدي جيل جديد من أبناء الطبقة الوسطى التي صنعت زمنا جديدا في تاريخ مصر.

ويمضي زمن الثورة الصاعد الذي يصعد معه عبدالحليم، فيغني أغنية «بدلتي الزرقاء» وهي من تأليف عبدالفتاح مصطفى وتلحين عبدالحميد توفيق زكي، وهي أغنية عن العامل الذي يزهو ببذلته الزرقاء في المصنع الجديد الذي يعمل فيه، والذي جعل من البذلة علامة على زمن صاعد يدخله هذا العامل ذو الأصل الريفي الذي يرى في لون بذلته وقربها من السماء الصافية لقريته، دلالة على بداية زمن واعد من التصنيع وتأتي بعد هذه الأغنية، الأغنية الأولى التي أخذنا نرددها وراء عبدالحليم، بعد أن دخلت المدرسة الإعدادية وهي بعنوان «ثورثنا المصرية» من تأليف مأمون الشناوي وتلحين رءوف ذهني وتبدأ على النحو التالي:

«ثورتنا المصرية أهدافها الحرية
وعدالة اجتماعية ونزاهة ووطنية
ثورتنا المصرية ثورتنا ثورتنا»

وتتحدث الأغنية التي سرعان ما رددناها عن عزيمة الأحرار وأيدي الثوار التي شتت الأشرار وجيوش الاستعمار، فتدفعنا إلى القسم بصيانة هذه الثورة في أعيننا من نظرة أعادينا بشجاعة وطنية. ولاأزال أذكر هذا الجزء الذي أصبح معناه مقترنا في ذهني بدعوة عدم الانحياز في مؤتمر باندونج الذي حضره عبدالناصر وسوكارنو وتيتو ونهرو وشوان لاي، وكان ذلك قبل شهرين من إعلان عبدالناصر عن صفقة الأسلحة التشيكية التي هندسها الاتحاد السوفييتي ولم يكن من الغريب أن نكرر وراء عبدالحليم هذا المقطع:

«عواطفنا الدولية لسلام البشرية
وجيوشنا نسلحها لحماية الحرية
لا لكتلة شرقية ولا كتلة غربية
للأمة المصرية واخواتها العربية
والعزة القومية ثورتنا ثورتنا»

وأحسب أن هذه كانت المرة الأولى التي أعرف فيها معنى «العزة القومية» ويتجسد في وعيي رمزية الحضور القومي الذي أخذ يستوعب الحضور الوطني، ويكاد يعلو عليه، وذلك على نحو جعلنا نزداد وعيا بقضايا الاستقلال الوطني موصولة بالاستقلال القومي، بل نجاوز ذلك إلى ما يصل المعنى القومي بقضية فلسطين التي تجسده، ضمن قضايا نضال آسيا وإفريقيا التي أخذت أقطارها تتمرد على الاستعمار مثلنا، خصوصا بعد أن وجدت قوة دافعة في مؤتمر باندونج ولم يكن من الغريب أن يعلن عبدالناصر عن صفقة الأسلحة الجديدة في شهر سبتمبر من عام 1955، وأن يقوم شكري القوتلي بانقلاب ثوري، ويصبح رئيسا للجمهورية السورية، وأن تقوم في نوفمبر من العام نفسه (1955) ثورة في قبرص يقودها المطران مكاريوس ضد الحكم البريطاني للاستعمار، الذي انتصر عليه عبدالناصر، بعد أن أصبح رئيسا للجمهورية، إثر الإطاحة بمحمد نجيب في أكتوبر 1954، وانفراده بقيادة الثورة التي أصبحت قوة فاعلة في حركة عدم الانحياز، وقائدة المد القومي الصاعد، ومعادية للصهيونية وهي المعاني التي كان يؤكدها المقطع الأخير من الأغنية:

«ضد الصهيونية بالمرصاد واقفين
وهاترجع عربية حبيبتنا فلسطين
وهاتفضل للدنيا نور يهدي البشرية
وفي آسيا وأفريقيا حانصحي المدنية
ثورتنا المصرية».

ولم تكن هذه مجرد كلمات، وإنما معان انحفرت في وعينا الذي أخذ يتحسس العالم من حوله، وتخترقه بقوة الإمكانات الصاعدة لوطنه الذي أخذ يجاوز بحلمه حدوده الوطنية لتمتد عبر حدوده القومية، مجاوزا إياها إلى آسيا وإفريقيا، ويصبح نورا تهتدي به البشرية.

أغاني الشعب

وأذكر أنني أخذت أعرف بمثل هذه الأغاني ما معنى أن تصبح مصر قوة دولية كبيرة، وقائدة للعرب في معركة التحرر القومي والتحرر العالمي من الاستعمار في كل مكان، ولم نكن نعرف في ذلك الوقت الأثر السلبي الذي بدا كأنه علامة حكم ديكتاتوري عسكري، خصوصا عندما أعدم خميس والبقري اللذان تزعما إضراب العمال في كفر الدوار مع أوائل حكم الثورة في كفر الدوار، ولم نكن نعي، بعد، معنى الانقلاب الديكتاتوري الذي قاده عبدالناصر، وسقوط الديمقراطية على يديه في أزمة مارس 1954، أو كتابة صلاح عبدالصبور قصيدته الرمزية «عودة ذي الوجه القبيح» وحتى لو عرفنا ذلك لاغتفرناه، فقد كانت صورة عبدالناصر مع أقطاب عدم الانحياز (نهرو وتيتو وسوكارنو وشوان لاي) واعدة بصورة مصر القادمة، القائدة التي سوف تحقق الانتصار على إسرائيل، وتحقق أحلام العرب في التحرر من الاستعمار، ومد يد العون إلى كل الدول المقاومة للاستعمار الذي أخذ يتهاوى أمام أعيننا، على أيدي أبطال جدد يصادقون عبدالناصر، ويمدون أيديهم إلينا، نحن الذين أخذنا نشعر بحضور وطننا وصعوده الباهر ولذلك كان طبيعيا أن نشارك آباءنا حماستهم للذهاب إلى صناديق الانتخاب، وانتخاب عبدالناصر رئيسا للجمهورية المصرية ولم يدر بأذهاننا شيء عن تزوير الانتخابات، ولا شككنا في النسب المعلنة، فمن الذي كان يمكن له أن يكون آثم الفكر ليظن هذه الأشياء بالزعيم الصاعد كالنجم الأوحد في سماوات أحلامنا وكانت النتيجة أننا غنينا من قلوبنا؟! مع عبدالحليم:

«احنا الشعب احنا الشعب اخترناك من قبل الشعب
يا فاتح باب الحرية يا ريس يا كبير القلب».

وكنا فرحين كآبائنا الذين ذهبوا لانتخاب عبدالناصر رئيسا للجمهورية في يونيو 1956، وكنت في الثانية عشرة من عمري، والمذياع لا يكف عن إذاعة أغنية «احنا الشعب» التي كانت من تأليف صلاح اهين وتلحين كمال الطويل، وكانت تلك الأغنية بداية لقاء الثلاثي الذي سبقنا في الحلم، والانتماء إلى شرائح الطبقة الوسطى، والإيمان بالمستقبل الواعد الذي سوف يتحقق على يدي عبدالناصر، ولم يكن من الغريب أن يقول صلاح اهين في الأغنية:

«احنا الشعب احنا الشعب اخترناك من قلب الشعب
يا فاتح باب الحرية
يا ريّس يا كبير القلب».

وكنا نردد هذه الأغنية وسط الحبور الجماهيري العام، فقد كنا في العام الذي سوف تخوض فيه الناصرية أولى معاركها المظفرة، وكان المستقبل يبدو مشرقا للجميع، ولذلك اهتززنا مع مقطع الختام:

«ياللي واعدنا بأيام عيدنا هل هلالك
بكره يا بكره مشتاق نظره لسحر جمالك
بكره بطلنا بجهد عملنا يحيي آمالك».

وبالرغم من أنني لم أكن تجاوزت الثانية عشرة من عمري، لكني لازال أذكر الفرحة الغامرة وحرارة التفاؤل التي كانت تملأ قلوب الناس، في أيام الوعد التي كانت إشارة إلى بداية تحقق الأحلام التي بدأت بشعار: «ارفع رأسك يا أخي، فقد مضى عهد الاستعباد». وسرعان ما جاء العدوان الثلاثي بعد هذه الأغنية، ولكنه لم يحقق غرضه، فانسحبت إسرائيل تاركة سيناء، وعاد الجيشان الإنجليزي والفرنسي، واستقال إيدن الذي سقطت حكومته، وانتهى حضوره السياسي إلى الأبد، وجاء يناير 1957بتحقق النصر الكامل لمصر الناصرية، وأصبح الطريق ممهدا لفتح قناة السويس للملاحة العالمية في أبريل 1957، بعد أن أعلنت بريطانيا - التي لم تعد عظمى - عن رغبتها في سحب قواتها من الأردن، وسرعان ما أعلنت الجمهورية التونسية بقيادة الحبيب بورقيبه في أغسطس من العام نفسه، وأصبحت مصر منارة العرب، وقائدة التحرر الوطني في كل مكان، وسمعنا أغنية عبدالحليم:

«الله يا بلادنا الله على جيشك والشعب معاه
في جهادك قوة وسلامك غنوه يا بلادنا الحلوه
بتسابقي في المجد علاه
الله يا بلادنا».

وكانت الأغنية من كلمات أنور عبدالملك ولحن محمد عبدالوهاب في أول لقاء فني يجمعه بعبدالحليم، وكان ذكاء من عبدالوهاب أن يتعاون مع عبدالحليم في ذلك الوقت، فقد رأى فيه نموذج الجيل الفني الصاعد الذي لابد من التعاون معه، أما نحن الصغار، فقد رددنا في فرحنا الوطني البريء:

«بسلاحنا وعزيمتنا الحاميه ما اقدرش الغاصب يغلبنا
ده كفاحنا لمبادئ ساميه حالفين نحميها بقلوبنا
وعلمنا الغالي في مكانه العالي لو قال يا رجالي
حانقدم أرواحنا فداه
الله يا بلادنا».

ولا تزال تتردد في أذني عبارة «دايما حانبص لقدامنا» وكانت هذه العبارة كأنها المفتاح السحري لزمن صاعد بنا إلى المجد، وكنا على موعد مع المجد فعلا مع الانتصار على العدوان الثلاثي وعودة الغاصبين مندحرين، وسرعان ما تحققت الوحدة، بعد عام من تحقق النصر، وأصبح جمال عبدالناصر رئيسا للجمهورية العربية المتحدة مع تحقق الوحدة بين مصر وسورية وجاء عيد الثورة السادس في يوليو 1958مختلفا، وكان لابد أن يكتب إسماعيل الحبروك بصدق المؤمن بالبطل الذي أصبح زعيما للعرب، والذي أكّد لمصر هويتها القومية، ويلحن كمال الطويل بالصدق نفسه أغنية «يا جمال يا حبيب الملايين» وهو عنوان أصبح منطبقا على الواقع القومي، وناطقا بما أخذته صورة عبدالناصر في وجدان الملايين العربية، بعد أن خرج منتصرا من حرب 1956، وأصبح أول رئيس لدولة «الوحدة» التي كانت الخطوة الأولى لتحقيق حلم قديم، وهكذا رددنا وراء عبدالحليم:

«يا جمال يا حبيب الملايين
ماشيين في طريقك ماشيين
للنور طالعين، للخير رايحين، وياك يا حبيب الملايين».

زعيم الملايين

وما أذكره، الآن، هو نبرة الفرح التي كانت تنطق بها نبرة الأغنية، وصوت الكورس الذي كان يضم الأطفال رمز المستقبل، وأهم من ذلك التفاؤل بالمستقبل في كلمات إسماعيل الحبروك الذي أخذنا نعرفه كاتبا في جريدة الجمهورية، ولا أبالغ لو قلت إنني، في سحر الأداء، كنت أحلم بوعي الفتى الذي دخل مرحلة المراهقة بالنور القادم للطالعين إليه، والخير المبذول للذاهبين إليه مع هذا القائد الذي أصبح رمزا للصحوة القومية وأهم أيقونات الشرق الذي صعد بشعوبه إلى المستقبل، محطما قيود الاستعمار، وفاتحا بقوة الإرادة القومية الأبواب المسدودة التي صنعها المستعمر، فانطلقت الملايين العربية حرة، عفية، إلى الاستقلال والكرامة الوطنية والقومية على السواء، كأنها الغرس النابت الصاعد، المشرئب إلى الفضاء، مشتاقا إلى أنوار الحرية والكرامة والمبادئ القومية التي ينطقها المقطع الأخير من الأغنية:

«وزرعت الأرض الخضرة أفكار ومبادئ حره
خلتنا عشنا في بكره
نورنا على الدنيا بحالها احنا الملايين».

الطريف أنني لم أنتبه في ذلك الوقت - فقد كنت في الرابعة عشرة - إلى دلالة السطر «خلتنا عشنا في بكرة» وكيف يتجاوب مع الشعور بالمستقبل الواعد الذي أخذت أحلامنا تلامسه، ونشهد بدايات تحوله من أحلام إلى حقائق لكن من المؤكد أنني كنت أشعر بذلك على نحو لا واع، فقد كنت أدخل إلى المدرسة الثانوية التي أصبحت طالبا فيها، وأتطلع في إعجاب إلى التمثال النصفي لعبدالناصر الذي يتصدر مدخل إدارة المدرسة، حيث غرف الناظر والوكيل والمعاونين، ولم يكن من الغريب أن أقبل حضور تمثال عبدالناصر تقبلا بدهيا، بالرغم من أن المدرسة كان اسمها مدرسة طلعت حرب الثانوية، وبنتها شركة مصر للغزل والنسج التي أسسها طلعت حرب وافتتحها سنة 1927، بوصفها إحدى شركات بنك مصر، ولذلك لم أسأل نفسي، مرة واحدة، ولماذا لا يضعون تمثال طلعت حرب، مؤسس الاقتصاد الوطني المصري، وأحد الرواد الذين صنعوا وحققوا أهداف ثورة 1919؟! لكني لم أكن عرفت ذلك كله، ولم أكن مؤدلجا بواسطة الأجهزة الإيديولوية للدولة الناصرية، التي سعت إلى أن تمحو من ذاكرتنا ما قبل يوليو 1952، وإنما كنت بعض الوجدان القومي العارم الذي رأى في عبدالناصر قائدا وزعيما اختارته الملايين بإرادتها الحرة، أملا في الغد المنبثق من فجر القومية العربية، ليحقق كل أحلام الحرية والوحدة والاشتراكية.

 

 

جابر عصفور