عبدالرحمن الشرقاوي كاتبا إسلاميا سامح كريم
مرت الذكرى الرابعة على رحيل الشاعر الفنان، والروائي المبدع، والكاتب الاجتماعي، والمفكر الإسلامي عبد الرحمن الشرقاوي. وهي مناسبة جديرة بوقفة للتأمل. فيها يراجع المرء ما بقي من هذا الراحل للتاريخ.
طبيعي أن يكون ما يبقى لراحل كانت صناعته الكلمة: مواقفه وأعماله، فأما المواقف فقد حفلت بها حياته، وأما الأعمال فقد سجلتها كتاباته. ومن مزيج الاثنين معا كان الشرقاوي الذي عرفه القارئ العربي وعرف مواقفه لأقرب من نصف قرن. هذه المواقف جسدتها كتاباته- وإن كان لم يحرص على كتابة ترجمة ذاتية لنفسه على عادة كبار الكتاب، باستثناء هذه الإشارات السريعة التي جاءت في "مقدمة " أحلام صغيرة" - بصورة إن لم تكن صريحة فهي على الأقل ضمنية. على أن بعض الكتابات قد غطت هذا الجانب المفتقد من كتاباته فرصدت العديد من مواقفه، سواء في حياته أو بعد رحيله.
الكاتب الحقيقي وسط المعركة
تبقى الأعمال. وهنا يحار المرء بسبب غزارتها وتعدد توجهاتها. فهل يكتب عن الشرقاوي الروائي صاحب رائعة "الأرض" التي تعد واحدة من عيون الأدب العربي الحديث، وغيرها من الأعمال الروائية الخالدة؟! أم يكتب عن الشرقاوي كاتب القصة القصيرة وإسهاماته في هذا الميدان بمجموعات منها "أرض الأحلام" و "أحلام صغيرة" وأمله مع أبناء جيله أن يرقى هذا النوع من الأدب إلى المستويات العالمية؟، أم يرصد هذه الكتابات السياسية والاجتماعية والفكرية بوجه عام، والتي نلمحها في الكثير من أعماله سواء ما نشر في كتب مثل "رسالة إلى شهيد" أو "باندونج والسلام العالمي "أو مقالات في صحف ومجلات الشعب والمساء وروز اليوسف والأهرام، حيث كان يواكب الأحداث، مؤكدا بصورة أو بأخرى مقولة أن الكاتب الحقيقى وسط المعركة قاسم وشريك، وأن صمته أحيانا عن الأحداث يعتبر موقفا في حد ذاته؟، أم يسجل المرء لمسرحه الشعري وتجربته الرائدة في استخدام الشعر الحر في الدراما الشعرية، فاتحا بذلك آفاقا جديدة للمسرح الشعري أسهمت إلى حد كبير في إثراء الحوار المسرحي ليشمل الكثير من قضايانا من خلال مسرحيات منها " مأساة جميلة " و " الفتى مهران" و "وطني عكا" و " الحسين ثائرا" و " الحسين شهيدا" و "النسر الأحمر" و "عرابي زعيم الفلاحين" وغيرها من الأعمال التي وظف بعضها التراث العربي والإسلامي توظيفا فنيا مبدعا، فلم يتعامل مع هذا التراث كمادة خام تنتمي إلى الماضي، بل كمواقف وحركات تسهم إلى حد كبير في تطوير المجتمع العربي المعاصر، وكأنه يؤكد أن أصالة إبداعنا هي الرؤية المعاصرة لتراثنا؟، أم ترانا نسجل لإسهاماته في ميدان الكتابة الإسلامية، وهو الميدان الأثير بلى نفسه حتى آخر أيام حياته، وهو في الوقت نفسه الميدان الذي تمثل فيه بحق وهج تفكيره شابا ناضجا، وعمق تجربته كاتبا كبير. وخاض من أجله الكثير من المعارك الفكرية التي ناله منها ما ناله من متاعب مصدرها وضعه حذا فاصلا بين معنى الدين الإسلامي في عظمته وجلاله من ناحية، والمتحدثين باسم هذا الدين والمتاجرين به من ناحية أخرى؟.
ورغم أن هذا الميدان الذي كان أثيرا، لديه، والذي قدم فيه إنتاجا غزيرا نذكر منه " محمد رسول الحرية " و"الفاروق عمر" و "علي إمام المتقين" و "أول الخلفاء أبوبكر الصديق" و "عمر بن عبد العزيز" و "الأئمة التسعة" و "ابن تيمية الفقيه المعذب" و "قراءات في الفكر الإسلامي"، والذي لم يتوقف عن الإسهام فيه حتى آخر أيام حياته، فإنه لم يقيم التقييم الواجب الذي يعطيه ما يستحقه ويأخذ منه ما يزيد على حقه.
الكتابة الإسلامية وخلاصة الفكر
ولعل المرء لا يبالغ في القول إن في إسهام الشرقاوي في ميدان الكتابة الإسلامية مادة خصبة تغريه بالتأمل، بل تجعله يفضله على غيره من الميادين الآخرى التي أسهم فيها الشرقاوي، لسبب بسيط هو أنه في هذا الميدان بالذات تتزكز خلاصة فكر الشرقاوي العلمية والعملية معا.
ولهذا ولغيره من أسباب، تقدم هذه السطور محاولة متواضعة أو مجرد إشارة إلى إسهام الشرقاوي في ميدان الكتابة الإسلامية، حيث تختبر هذا الإسهام بعدد من التساؤلات منها: هل أضافت جديدا إلى تفكيرنا الإسلامي؟ وهل كانت مميزة عما كتبه عدد من الرواد؟ وهل تضمنت حقا خلاصة تجربة الشرقاوي سماء العلمية أو العملية؟
وللإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها نسجل بادئ ذي بدء أن الشرقاوي في اختياره لهذا النوع من الكتابات، قد أدرك أن الكتابة عن هذه الشخصيات الإسلامية أو غيرها من المادة الإسلامية عمل فكري لا يقحم أمره على تجارب حاضرة تهدم أخرى قديمة، أو برهان جديد ينقض آخر قديما. بل الأمر فيها قائم على رواية الخلف عن السلف والمحدثين عن الأقدمين، منذ قام الإخباريون المسلمون الأوائل يتناقلونها حتى وصلت في شكل سير وتراجم مكتوبة.
هذا الأمر لم يكن خافيا على الشرقاوي، فقد أشار إليه في كتاباته الإسلامية المتعددة. فنراه في تقدمته لكتاب "محمد رسول الحرية" يقول: "أنا لا أقدم كتابا جديدا في السيرة، فمكتبة السيرة غنية زاخرة بالمؤلفات القديمة، وما أحسب أن كتابا جديدا يمكن أن يضيف حقيقة جديدة إلى ما كتب عن السيرة".
وإذا كانت المادة في هذه الكتابات واحدة، فلابد أن يكون في تناولها ما يميز كاتبا عن آخر. وهنا نجد الشرقاوي قد اختار لنفسه ذلك اللون الفني في التناول وهو لون يصبغ العمل ككل بصبغة الإبداع. فالكاتب يجمع بين يديه كتب السابقين والمحدثين ليخرج في النهاية بعمل مبدع مؤلف، في ظاهره له، وفي حقيقته لمن سبقه من الرواة والكاتبين. وهذا الأمر لم يكن خافيا على الشرقاوي، ففي تقدمته لأغلب الشخصيات الإسلامية التي اختارها كان يعلن عن ذلك، مثلا في تقدمته لى " أئمة الفقه التسعة" يقول: " أحسست أن من الواجب علي أن أنشر صفحات نضال هؤلاء العلماء والفقهاء، وأن أتقصى مواقفهم من الحياة والناس، وأن أرسم بقدر ما وسعني الجهد صوراً لهم أضعها أمام القارئ المعاصر".
وكلا الأمرين- اختياره للشخصيات الإسلامية الفذة، وتناولها بأسلوب فني- يضع الباحث في إسلاميات الشرقاوي أمام مسئوليات جسام، لعل أولها أن يكون على معرفة بالمصادر القديمة التي يرجع إليها، بالضبط مثل معرفته بالعمل الجديد. خاصة أن الشرقاوي كان أمينا حين رد مادته الجديدة في شكلها وتناولها، القديمة في جوهرها وأصلها إلى مصادرها الأولى، لكنه مع ذلك أ يذكر في بعض أجزاء من كتبه أرقام الصفحات التي كان يرجع إليها. وهذا بالطبع يرهق الباحث، فيكفي أن أذكر أن مصدر، واحدا من عشرات المصادر التي رجع إليها وهو كتاب " الأغاني " للأصفهاني يتفرع إلى أكثر من عشرين مجلدا، كل مجلد يتضمن مئات الصفحات من القطع الكبير، لكن هذا أيضا لم يكن خافيا عليه، بل كان يتعمده. وكانت حكمته في ذلك أن يثير لدى القارئ إمكان البحث وهو ما عبر عنه صراحة في كتابه "علي إمام المتقين " قائلا: " فليرجعوا إلى هذه الموسوعات وليبذلوا ما بذلت من جهد ".
اهتمام مبكر بالإسلاميات
وكاتب كبير مثل الشرقاوي، يدخل ميدان الكتابة الإسلامية على هذا النحو لابد أن يثير في الذهن التساؤلات حول بداية الاهتمام بهذا الجانب من الكتابة، والمؤثرات والأسباب، والمراجعة تكشف عن أن اهتمام الشرقاوي بهذا الجانب بدأ عنده مبكرا، لتظهر بذوره في خمسينيات هذا القرن في سلسلة مقالات نشرها تحت عنوان "ثورة الفكر الإسلامي" لتصدر فيما بعد في كتاب هو " قراءات في الفكر الإسلامي" عام 1972، وبين نشر هذه المقالات وإصدارها في كتاب، أصدر كتابه الخالد " محمد رسول الحرية " عام 1962 الذي كان يعده منذ عام 1953 كما تقول مقدمته، لتتوالى من بعد كتاباته الإسلامية وكان آخرها عن "الصديق أبوبكر لما الذي صدر بعد وفاته بأيام. وهذا الاهتمام كان له ما يبره من ظروف وراثية وأخرى مكتسبة.
أما الظروف الوراثية فنلمح ظلالها حتى في رائعته الأدبية " الأرض"، في حديث يجري على لسان راويها أو كاتبها فيه يظهر كيف اهتم والده بتأديب ابنه بآداب الدين. كذلك نرى كيف كان تقدير القرية لشيخها فهو فقيه القرية ومفتيها، وخطيب مسجدها ومأذونها الشرعي، ومعلم الصغار، وواعظ الكبار.
كذلك نلمح في إهداءاته لكتبه الإسلامية دلالات تقربنا من هذا الاهتمام. مثلا يهدي والده كتاب "محمد رسول الحرية " قائلا: "إلى أبي الذي غرس في قلبي منذ الطفولة حب محمد "، ويهدي والدته مسرحيتي " الحسين ثائرا " و " الحسين شهيدا " مسجلا كيف علمته حب الحسين، ولشقيقه يهدي كتاب " علي إمام المتقين" مذكرا إياه حبهم للإمام علي وقرابتهم لابنه الإمام الحسين، ولأولاده يهدي كتاب " عمر بن عبد العزيز " راجيا أن، يحبب لهم تراثهم العظيم وأن يجدوا فيه العبرة والأسوة.. فإذا أخذنا بمقولة أن الكاتب هو ما يكتب، أصبح لدينا سبب وراثي لظهور هذا الاهتمام نابع من الوسط الاجتماعي. وقلنا إن للوراثة وظروف النشأة دخلا كبيرا في هذا الاهتمام الذي لازمه إلى آخر أيام حياته.
يضاف إلى هذا الاهتمام الموروث آخر مكتسب، خلاصته أن الشرقاوي عرف فيما قرأ لجيل الرواد أنه كانت هناك هجمة ضارية على الإسلام في ثلاثينيات هذا القرن، جعلت كتاب الجيل يتفقون فيما بينهم على إعادة كتابة التاريخ الإسلامي بصورة تقربه إلى الناس حتى لا يلتمسوا معرفته من كتاب غير مسلمين.
كان ذلك فيما عرفنا بمشروع إعادة كتابة التاريخ الإسلامي الذي دعا إليه طه حسين ليكتب الجانب الأدبي من هذا التاريخ، ويتولى أحمد أمن الجانب الفكري، وعبد الحميد العبادي الجانب السياسي، ويواكب هؤلاء في الاهتمام بالكتابة الإسلامية كل من العقاد وهيكل والحكيم.. ولابد أن يكون الشرقاوي قد قرأ لهؤلاء ما حبب إليه الكتابة في هذا الميدان.
وعلى هذا الأساس يمكن القول بأنه ليس مصادفة أن يقتحم ميدان الكتابة الإسلامية أديب مثل الشرقاوي، إذ كان قد سبقه من قبل أدباء كبار منهم طه حسين والعقاد وهيكل وأحمد أمين والحكيم، عندما كانت مصر تبحث عن تحقيق ذاتها في ثلاثينيات هذا القرن، ففكروا في إيجاد وسيلة لربط حاضر الأمة بماضيها من ناحية، وتفنيد افتراءات أعداء الإسلام ومزاعمهم من ناحية أخرى، وأن يكون ذلك بإعادة كتابة التاريخ الإسلامي، وقد أشار إلى شيء من ذلك هيكل في كتابه " حياة محمد " قائلاً: "خيل إلي كما خيل إلى أصحابي أن تاريخنا الإسلامي هو وحده البذر الذي ينبت ويثمر".
وليس مصادفة أن يقتحم ميدان الكتابة الإسلامية كاتب كالشرقاوي، مدافعا عن قيم ومبادئ هذا الدين، بعد أن سلك دراسة القانون، وأبسط ما تتيحه هذه الدراسة لصاحبها أنها تجعل منه مدافقا عن حق يراه مشروعا. لذلك نراه فيما يكتب عن النبي الكريم، وخلفائه الراشدين وأئمة الإسلام خير مدافع، حيث يجلي الكثير من المعاني التي تمثلت في هؤلاء جميعا، ومنها التطور الذي كان يمثله هؤلاء الأفذاذ، والعدل الاجتماعي الذي كان مطلبهم، والقدوة التي سارت عليها شئون حياتهم. هنا نرى الشرقاوي في كل ذلك يهتم بتصوير الجانب الإنساني للإسلام كدين سماوي جاء للناس كافة، وميراث حضاري لكل البشر مهما اختلفت آراؤهم معلنا أننا نملك من حقائق التاريخ الثابتة، ما يقطع بأن للإسلام دورا فعالا استطاع أن يؤثر به في ماضي البشرية، بالقدر نفسه الذي يمكن أن يؤثر به في مستقبلها.
بين الشعر والقصة
يضاف إلى ذلك أن حياة الشرقاوي العملية قد وهبها للأدب شاعرا وقصاصا. وبين الشعر والقصة صلة رحم وقربى، فمنذ القدم والقصة لا تفترق عن الشعر. أليس "هوميروس" الملقب بأبي الشعراء كان في الأصل قصاصا، في حضانته الشاعرية تربت القصة في مهدها الأول؟ وأليس " شكسبير لما و " جيتي" وغيرهما من النوابغ استمدوا القصة من الإطار الشعري؟.
ها هو الشرقاوي يبدأ الكتابة الإسلامية بعد أن استوى شاعرا وقصاصا فلابد أن يكون لذلك أثره المباشر على أسلوبه واختياراته. وأول ما نستشعره هو شاعريته في سرده للأحداث التاريخية، ولعلنا نتأمل ذلك في عبارة من آلاف العبارات جاءت بكتابه " محمد رسول الحرية " فيها يصور حلم النبي الكريم بعالم جديد: " يحلم- عليه الصلاة والسلام- بأشياء رهيبة حقا. يحلم كأن أصنام الكعبة تسقط، ودولة الطغيان تتقوض، بكل دعارتها وترفها المستبد، من أقصى بلاد الروم والفرس بد الجزيرة العربية، وكأن الناس قد تحولوا إلى بشر آخرين لا يرفع أحدهم السيف في وجه أخيه، ولا تمتد يد بالعدوان على أحد. كلمة الحق ترتفع كالراية تظلل جموعا لا حصر لها من رجال شرفاء، ونساء فاضلات، وأطفال سعداء.. ".
ونلمح أيضا أسلوبه القصصي في تركيباته واختياراته. فبينما نجد أن معظم أعماله سير وتراجم لا نجد في الدراسات غير كتاب واحد هو " قراءات في الفكر الإسلامي"، وهذا في حد ذاته يشير إلى دلالات منها إيمان الشرقاوي بصلاحية القيم والمثل التي ازدهرت في حضانة الدين الإسلامي ورواها الخلف عن السلف، قاصدا معنى أكبر وأبعد هو تشكيل الحياة المعاصرة ببث روح الطمأنينة في النفوس القلقة، على نحو ما كان أجدادنا الأقدمون الذين لم تخل حياتهم من المشاكل.
لون خاص ورؤية متميزة
ويضاف إلى كل ذلك أن الشرقاوي- وقد كان في الأصل شاعرا قصاصا- يجتذبه من المادة التاريخية جوهرها وروحها، وليست وقائعها وتفصيلاتها. فهو حين يقوم بالترجمة لواحد من عظماء الإسلام، فإنه يقدم صورة فنية أدبية مبدعة، لا عملا تاريخيا موثقا، فليست الأخيرة مهمته كأديب بل هي مهمة المؤرخ الذي يتسلح بالمنهج العلمي. فهو فيما كتب أديب فنان يستلهم التاريخ في إبداعه الفني. وهو حين يعتمد على الحدث التاريخي كمادة أولية، فإنه يرى في هذا الحدث ركيزة ينطلق منها إلى عالم التصورات والرؤى، مستشرفا آفاق الإنسانية في رحلة الإسلام عبر القرون.
ويبقى سؤال: هل كان الشرقاوي في إسلامياته صورة لأي واحد من جيل الرواد؟ بالقطع لا، إن للشرقاوي لونه الخاص، ورؤيته المتميزة، ومذاقه المختلف، وربما يتفوق واحد من جيل الشرقاوي على واحد من جيل الرواد، إلا أن حق الريادة محفوظ. والتجربة خير دليل على اختلاف كتابات هؤلاء وهؤلاء. مثلا لو قرأنا كتاب "محمد رسول الحرية" للشرقاوي نجده يختلف عن "حياة محمد" لهيكل و "عبقرية محمد " للعقاد و "محمد الرسول البشر" للحكيم و"على هامش السيرة" لطه حسين و" فجر الإسلام" لأحمد أمين.
وبعد، فهذه مجرد إشارة إلى إسهام عبد الرحمن الشرقاوي في مجال الكتابة الإسلامية.