الصين: أنشودة الإبداع والبساطة محمد المخزنجي تصوير: حسين لاري

الصين: أنشودة الإبداع والبساطة

ما الذي يجمع بين سور الصين العظيم في امتداده المثابر، وميدان "تيان آنمين" الذي يسع مليونا من البشر، واللوحات المرسومة بدقة داخل زجاجات ضيقة الأعناق، وتدفق ملايين الدراجات في شوارع بكين، والرسم بألوان الماء على الحرير، وفلسفة كونفشيوس، وسياسة الباب المفتوح، والسمك بالعسل، والشاي بالياسمين، ورياضة الكونغ فو؟.. لابد أن هناك روحا لذلك الشعب تجري في ذلك كله، صانعة أنشودة تتردد أصداؤها عبر الزمان والمكان.. فهل نبحث عن نشيد الروح في روعة الأثر ومسعى البشر؟ لنمض في الطريق الصينية إذن، من بكين إلى شنغهاي.. ونرهف كل الحواس.

"أنا من مدينة صغيرة
ليست كالمدن الكبيرة
مدن الضوضاء والغرور
مدينة صغيرة فسيحة القلب"

صباح صيني مبكر، في بهو فندق السلام ببكين، وصوت المغنية "تن بي تشن" يغرد. والغناء الصيني قبل موجات "الروك" و "الديسكو" الزاحفة كان غناء جميلا، حنونا وبه رنين صاف، كأنه تكسر الصدى بين جبال تيريان البنفسجية التي رأينا سور الصين العظيم يرقى ذراها بلا كلل، أو خفق مياه خليج "يانجتسي" حول أحد زوارق "الشانج" المفرودة أشرعتها كجناح الطير والتي ركبناها فيما بعد من شنغهاي.

"تن بي تشن" النجمة الجميلة كفت عن احتراف الغناء الآن، وهي في ذروة شبابها ومجدها. لماذا؟ سألت. فأخبرني أحد العاملين بالفندق أنها: تزوجت. تزوجت؟! تعجبت من سبب كهذا يدعو نجمة غناء للاعتزال. وعرفت أنها "تفرغت لبيتها" لكنها تغني أحيانا متطوعة لجمع التبرعات للمنكوبين سواء كانوا في الصين أو خارجها. ضحايا زلزال أو فيضان أو حريق.

لا أعرف لماذا رأيت في ذلك السلوك الشخصي، لتلك المغنية رقيقة الوجه والصوت، اتساقا مع معطيات روحية وثقافية صينية تبدو بعيدة، في فلسفة الطاوية التي اتخذ منها الصينيون دينا منذ القرن السادس قبل الميلاد حتى حرمها الإمبراطور كوبلاي خان حفيد جنكيز خان، وتقول بأن الكائن ذاتية محضة ومن يطعها ينعتق باتجاه الطاو (الطريق، والقوة القصوى)، وفي معتقدات تقديس الأسلاف التي نشأت في عصر البرونز وعصر شانج وما زالت سارية في حنايا الصين المعاصرة- رغم كل شيء- وفيها تقدس المرأة- متى تزوجت- جد زوجها. وفي البوذية - ديانة الصينيين السائدة - التي توصي بالزهد والتنوير، وفي قانون كونفشيوس الأخلاقي الذي حاربته "الثورة الثقافية" ولم تقدر على اقتلاعه ويقول ضمن وصاياه "إذا قام البيت على أساس سليم أمن العالم وسلم" وكان يعني بذلك احترام التراتب العائلي والحياة الأسرية.

هل أسرفت في التأويل لفرط انفعالي ببساطة الغناء وصفائه في ذلك الصباح الصيني الباكر؟، هل جنحت بي الموسيقى المليئة بالإشراق الذي لا كآبة فيه والذي تشع به آلة "الارهيو" الصينية ذات الوترين، ومجموعات الفلوت الصيني (الدانجزياو والديزي).. ربما!

في ذلك الصباح الانفعالي، راق للنفس أن توغل في شرايين بكين على ظهر دراجة. وتأجير الدراجات متاح في كل مكان، ابتداء من فنادق النجوم الخمسة وحتى أزقة الأحياء الشعبية.

والدراجات أنواع: عادية،. ومتعددة السرعات. وإيجار الواحدة من النوع المتوسط، في الفندق، يصل إلى 25 (يوانا) لليوم الكامل، أي ما يعادل ثلاثة دولارات.

بكين.. على ظهر دراجة

إن قيادتك لدراجة في شوارع بكين، وسط فيض الدراجات، وسيلة للانتقال وللرؤية، ولإبطاء مروق الصور أمام ناظريك لو كنت وراء زجاج باص سياحي أو سيارة ضيافة. إنها وسيلة للاقتراب.ومن ثم، تقبل عليك بهدوء وحميمية لحد ارتواء البصر: الحدائق التي يتشمس فيها كبار السن الذين لم يغير معظمهم سترات الزمن الماوي الزرقاء والرمادية ذات الياقات العائدة إلى (موديل) صن يات سن، والأطفال في ملابسهم الملونة، ولاعبو ملاكمة الظلال البطيئة "تاي شي"، والمعابد البوذية الملونة ذات السقوف الجمالونية الصينية الطرز، والأبنية الحديثة بارتفاعاتها الشاهقة، ومطاعم الأرصفة القماشية المتنقلة التي يتم تركيبها في لحظات وتمتد مئات الأمتار ويلتم عليها آلاف الآكلين، ثم تتلاشى بعد ذلك في لحظات، ومحال التدليك التي ترى عبر أبوابها المشرعة الزبائن أشباه عراه بين أيدي المدلكين المهرة. وحلاقو الأرصفة. ستذكرك اللافتات وزينات الورق الملونة، وملامح الناس بأنك حقا في الصين، في قلب تيار الحياة داخل شوارعها، وستلفت انتباهك حركة الهدم والبناء التي توشك أن تكون نسفا للبيوت القديمة وولعا بإقامة عمائر شاهقة مكانها. لا مبالغة إذا قلنا إن كل شارع في بكين يشهد حركة للهدم وللبناء لا تهدأ، ليلا ونهارا، فالأيدي العاملة متوافرة والعمل في أضواء الكشافات ممكن، والاستثمارات تتدفق بجنون في اتجاه العاصمة. ولسوف يمكنك التوقف لتتبين الإيقاع المجنون لأجهزة الكمبيوتر والفاكس ونداءات الهواتف النقالة والسيارات الفارهة التي تمرق حاملة رجال الأعمال الجدد. والتجارة تشتعل نشاطا داخل المحال الكبيرة وتفيض على الأرصفة: ملابس وكهربائيات وأطعمة ولعب أطفال وأدوات زينة. وأناقة الأجيال الجديدة من النساء الجميلات تخطف البصر. لابد أن بكين تتغير، ومطاعم كنتاكي ومكدونالد وماركات شانيل وبيير كاردان وكوكا كولا تؤكد ذلك، لكن نهر الدراجات الذي ألقيت بنفسك فيه لا يكف عن الجريان. وكل ما تحتاجه في هذا النهر، حتى تمضي سالما، هو أن تظل يداك على المقود، وأن تطيع إشارات المرور نفسها التي تطيعها السيارات فتنطلق مع الضوء الأخضر وتتوقف أمام الأحمر. والزم دائما أقصى اليمين حيث الطريق المخصص للدراجات في الشوارع الكبرى. ولا تخش من حدوث الأعطال. فقط، توقف في مكانك ولا تتحرك، عندئذ سيخف لنجدتك سائق دراجة مجاورة مخرجا صندوق (العدة) الصغير. وإن لم يف بالغرض فستقودك الإشارات والإيماءات إلى أقرب (عجلاتي). كل ما تحتاجه هو أن تقول "دوه شيوه شيين" أي: كم يكلف هذا، ولا داعي لمعرفة أية كلمات صينية أخرى، فالصينيون لديهم نظام إشاري عريق وبسيط. وتكفي دقيقة واحدة لتتعلم هذا النظام. ولقد تأكدت أن الإطار الداخلي للدراجة لا يكلف أكثر من خمسة عشر يوانا (أي دولارا ونصف) مع أجرة التركيب، والخارجي والداخلي معا 36 يوانا أي أربعة دولارات. ولا تدفع أكثر من ذلك.

في نهر الدراجات ستكتشف يقينا مدى اتزان الإنسان الصيني، المرح بلا صخب أو الحزين بلا اكتئاب، وستكتشف الزهد الذي قد يكون بوذيا أو اشتراكيا، وتكتشف تزاوج الإبداع والبساطة. فالدراجة تحولت في شوارع بكين إلى قناعة ووسيلة متعددة الأغراض، فعلى مقودها سلة معدنية للتسوق، وعلى رفرفها الخلفي كرسي إضافي للزوجة أو الطفل، ويمكن أن تتحول إلى قاطرة تشد عربة خفيفة لنقل خشب التدفئة أو الخضار أو الصحف، بل إن الحيوانات يمكن نقلها على المقعد الخلفي بعد لف الحيوان (ممددا) في حصير وربط الحصير فوق المقعد. وأكثر المناظر التي يمكن رؤيتها طرافة وسط نهر الدراجات في بكين، هو منظر دراجة تجر دراجة أخرى لتخرجها من مأزق في زحام الطريق!!

لكن مأزق الدراجات المستقبلي يبدو أعقد من ذلك بكثير، فالانفتاح الصيني، وما يسمى باقتصاديات السوق الاشتراكي الذي في ظني- وبعد مناقشتي الطويلة لمسئول لجنة التطوير الاقتصادي الحكومية- لا يعدو كونه اقتصادا للسوق الرأسمالية وإن خضع لبعض من النوايا الطيبة لرقابة السلطة الاشتراكية. هل يطيق هذا السوق صبرا على الرفيف الوادع للدراجات الهوائية. وكم عدد هذه الدراجات، وعدد ما يحدق بها من منافسي الطريق؟! أسئلة خطرت لي، ولم أكن أتوقع أن يأتي للإجابة عنها مسئول صيني كبير.

لقد رتبت لنا الجريدة الاقتصادية اليومية- ثاني أكبر الصحف الصينية- موعدا مع نائب رئيس حكومة العاصمة بكين، وكان مكان اللقاء هو مبنى الحكومة، لكنهم قبل الموعد اعتذروا بسبب انعقاد مؤتمر طارئ ورأينا أن نضع بدلا من الموعد زيارة لمقر الجريدة الاقتصادية، وبينما كنا في غرفة الزوار نحتسي الشاي الساخن بالياسمين سمعنا همسات جادة ولاحظنا حركة نشطة، وأخبرونا أن نائب رئيس الحكومة وجد ساعة في برنامجه قبيل انعقاد المؤتمر وساءه ألا يقابلنا كما كان مقررا، لهذا سيأتي بنفسه ليتحدث معنا. وفوجئنا بالمسئول الشاب الذي رأيناه في التلفزيون بالأمس يتحدث عن بيئة العاصمة يهل علينا. "شن باو شانج" طلعة مضيئة وتواضع لا تصنع فيه وأناقة معتدلة كقوامه الشاب، حدثنا باستفاضة عن بكين الهائلة التي تتهيأ للمستقبل، بسكانها الثابتين (11 مليونا) والمتحركين (مليون ونصف) إضافة لزوارها من السياح البالغ عددهم مليونين من كل بقاع الدنيا كل سنة. حدثنا عن جامعات بكين الثماني والستين. وخريجيها الأربعين ألفا كل سنة. حدثنا عن حلقات الطرق الدائرية الثالثة والرابعة الجاري إنشاؤها. وخطوط المترو الستة الجديدة التي سيمر بعضها تحت ميدان "تيان آنمن"، والمحطات العملاقة لإعادة معالجة مياه الصرف، وإخراج المصانع الملوثة للبيئة من رحاب المدينة. وتلقى ملاحظتنا عن تنافر الطراز المعماري الغربي الحديث مع الطراز الصيني بترحاب وموافقة وأطلعنا على قرار حديث لمعالجة هذا التلوث المعماري بتصميمات حديثة تحافظ على الطابع الصيني. وعندما تطرقنا إلى سؤال الدراجات أخبرنا أن عددها في بكين وحدها يبلغ 8 ملايين دراجة. وعرفنا أن هناك زيادة في عدد سيارات التاكسي بلغت سبعين ألفا دفعة واحدة وهي من ماركة فولكس فاجن التي تصنعها الصين الآن. أما الدراجات النارية فهي ممنوعة إلا لتوزيع البريد. بينما الشاحنات يضيق على دخولها المدينة فيسمح لحاملة الأرقام الفردية منها بالدخول في فترة والأرقام الزوجية في فترة أخرى.

كان المسئول الصيني الكبير الشاب واضحا وبسيطا وكانت أحلامه لبكين المستقبل مضيئة وملونة، لكن قلبي ظل يخفق قلقا على مستقبل الدراجات البعيد.. هل تصمد هذه الوسيلة البسيطة والمبدعة أمام طوفان السرعة القادمة في الغد؟

إنه سؤال خاص، وإنساني عام، ولن يجيب عنه إلا المستقبل.

ميدان برحابة التاريخ

بعد مرورنا في طابور طويل أمام جهاز الكشف عن الأسلحة، وبعد مصادرة كل ما يمكن أن يستخدم في حفر أو خدش الجدران والأفاريز والأبواب، صعدنا على درج رخامي عال إلى منصة بوابة السلام السماوي، وهي البناية الشهيرة التي تعلو مدخل "المدينة المحرمة" مواجهة بلونها القرمزي وسقوفها الجمالونية المتعاقبة ميدان "السلام السماوي"، وبعد أن مررنا بالبهو الكبير ورأينا القاعة التي يجلس فيها أعضاء الحكومة الصينية في المناسبات المهمة، خرجنا إلى الشرفة الهائلة المثقلة بالزهور. وفي موقع يحرسه جنديان وقفنا حيث كان يقف ماو تسي تونغ عندما يخطب في الجماهير في المناسبات الحاشدة. ولقد كنا في هذا الموقع لا نستعيد فقط فترة من تاريخ الأمة الصينية، بل كنا نطل على معظم هذا التاريخ فأمامنا كان ميدان تيان آنمين بكل إيحاءات الماضي القريب والبعيد والحاضر واللحظة، وخلفنا كانت المدينة المحرمة والقصر الإمبراطوري. أما المنصة التي كنا نقف عليها ضمن حشود الزوار وأمواجهم المتحركة فإنها كانت الماضي والحاضر وربما المستقبل أيضا. فهذه البوابة توغل بعمرها خمسة قرون أمضتها في ظل الحكم الإمبراطوري. وهي ملتقى السلطات الصينية منذ ذلك التاريخ وحتى الآن. ولعلها تكون أحد الأبنية التاريخية التي لا يوجد مثيل لها من حيث الارتباط بالسياسة والارتباط بقلب العاصمة الممثلة لقلب الأمة الصينية. فمخطط المكان مرسوم على محور يمتد من الشمال إلى الجنوب في مركز بكين. ولقد كان بإمكاننا أن نطل في الخلف على تعاقب السقوف القرمزية التسعمائة وتسعة وتسعين لأبنية المدينة المحرمة ممتدة حتى الأفق وحتى برج الأجراس، وأمامنا كان الميدان الشهير.

إن تاريخ الصين بأسره يمكن أن يحكيه هذا المكان لو تكلم، ولقد تكلم، ففي داخل المدينة المحرمة يمكن للزائر أن يحصل على جهاز تسجيل خاص بسماعة (هيد فون) يحكي له مع كل خطوة أسرار البنايات وتاريخها، ويتم تسليم هذا الجهاز عند بوابة الخروج.

نمضي ونجول بين أبنية المدينة المحرمة والميدان، بين الماضي والحاضر، ونصغي للصوت الذي يروي لنا:

في القرن الخامس عشر عندما ظهرت أول أعراض الرأسمالية في أوربا وبدأت التطلعات الاقتصادية الأوربية تتجاوز الحدود. في ذلك الوقت كان الإمبراطور "جودي" الحاكم الثالث في مملكة مينج (1368- 1624) قد بدأ في تجديد السور بقرب بكين حتى يحمي ملكه. وبدأ في الوقت نفسه إنشاء المدينة المحرمة التي كانت مجموعة من القصور الإمبراطورية رائعة التشييد. أما "تيان آنمين"- المدخل الرئيسي للمدينة المحرمة فقد كانت معروفة باسم (شنج تيان مين) أو (بوابة استقبال أوامر السماء) وكانت عبارة عن قوس خشبي هائل. وفي عهد مينج وفينج (1644- 1911) كانت الاحتفالات العظيمة والفرمانات ومراسم الأعراس الإمبراطورية والاستعراضات العسكرية تجري في أو على مرأى من "تيان آنمن ". لقد استمر عهد مينج حوالي ثلاثة قرون انتهت بثورة الفلاحين التي قادها "لي زيشنج" الذي اضطر آخر أباطرة أسرة مينج إلى الهروب من المدينة المحرمة وشنق نفسه في شجرة صينية عند قمة جنجشان الواقعة خلف القصر الإمبراطوري،. ولقد ذاقت "تيان آنمين" نار الحريق مرتين وأعيد بناؤها عام 1651 واكتسبت اسمها الحالي، وقد شيدت أعلى وأفخم من أي مدخل آخر للمدينة المحرمة من طابوق وردي على قاعدة من رخام. وكان يمر أمام المنصة جدول يسمى نهر المياه الذهبية الخارجي تقوم عليه خمسة جسور من المرمر تواجه المداخل الخمسة تحت المنصة وما زالت كلها موجودة. وتحيط بجانبي البوابة أسود حجرية وأعمدة من المرمر. وفي كتابه "الرحلات" وصف "ماركوبولو" الصين بأنها "البلد الذي تجد فيه الذهب والتوابل في كل مكان"، ولقد كشف الكتاب للأوربيين عن الصين وبدأ تدفق التجار الأوربيين، وفي عامي حرب الأفيون 1840- 1842، اقتحم البريطانيون أبواب الصين بالقوة مستخدمين البارود الذي كان اكتشافا صينيا وفي مدى المائة سنة التالية حدث الكثير أمام بوابة تيان آنمين، وفي أغسطس 1900 غزت جيوش الحلفاء المكونة من ثماني دول بينها إنجلترا وأمريكا بكين وصار ميدان تيان آنمين معسكرا لقوات الغزاة. وما زالت أعمدة المرمر تحمل آثار طلقاتهم. وفي يناير 1919 عقد المنتصرون في الحرب العالمية الأولى مؤتمر السلام في باريس وأخضعت الصين للسيطرة اليابانية ولقد لاقى هذا رفضا واسعا لدى الصينيين. وفي 4 مايو 1919 تجمع آلاف من الطلاب الصينيين مخترقين حواجز الشرطة وتظاهروا في ميدان تيان آنمين ولقد سميت هذه التظاهرة "حركة 4 مايو". وفي عام 1935 احتلت اليابان ثلاث مقاطعات من شمالي شرقي الصين. وفي أثناء الزحف الطويل للجيش الأحمر تجمع الطلاب في الميدان مطالبين الحكومة في 9 ديسمبر بوقف الحرب الأهلية والتصدي لليابانيين ورغم قمع المظاهرة إلا أن هذه كانت مفترقا مهما في تاريخ "الصين السياسي". وفي أول أكتوبر 1949 تجمع سكان بكين للاحتفال بإعلان قيام جمهورية الصين الشعبية وقام ماو تسي تونغ برفع العلم الأحمر خماسي النجوم. ومن ثم كان الميدان يمثل الصين وسياستها:

جانبه الشرقي متحف التاريخ الصيني وفي جانبه الغربي قاعة الشعب العظمى حيث تعقد الاجتماعات المهمة وتصنع السياسة الصينية ويرقد جثمان ماو تسي تونغ. وخلال عشر سنوات عاصفة، ظل الميدان مكانا يتجمع فيه الناس للتعبير عن أفراحهم وأتراحهم. في 5 أبريل 1976 أثناء احتفالات كنج مينج التقليدية لتقديس أرواح الموتى تجمع الناس لتحية روح شو إن لاي الذي كان مؤيدا لدينج زياو بنج الذي نفي في الثورة الثقافية ولقد كانت هذه بداية التغيير الذي هز الصين لمراجعة سياسة الحزب التقليدية. وفي 24 أكتوبر 1976 تجمع آلاف الصينيين ليؤيدوا سقوط عصابة الأربعة معلنين نهاية السنوات العشر من عمر الثورة الثقافية. ومنذ نهاية السبعينيات والصين تتبع سياسة "الباب المفتوح" والإصلاح الاقتصادي.

ولقد ظلت منصة تيان آنمين ممنوعة على الجمهور حتى عام 1987 ثم فتحت للسياحة في أول يناير 1988 وتجمع آلاف الصينيين لمشاهدة هذا الحدث الذي كان بطلاه فلاحا صينيا هو "جاو زيو" وزائرا أمريكيا هو "ريتشارد كارتر".

أما آخر أحداث تيان آنمين الشهيرة فهو أحداث الطلبة عام 1989 والتي ازدهرت في أعقاب زيارة جورباتشوف للصين، وكانوا في الغرب يتصورون أنها ستتطور إلى ما يشبه تراجيديا الانهيار في أوربا الشرقية، لكن جورباتشوف كان أصغر من الصين بكثير، والدعاية الغربية كانت أكبر من الحقيقة بكثير، وقدرة الصين على التوازن لم يحسب الخصوم حسابها بدقة. وتحولت الأحداث التي وصفت في الغرب بأنها "مذبحة الديمقراطية" إلى مجرد ذكرى يمثلها مجموعة أفراد عاصرنا الإفراج عن بعضهم في وقت زيارتنا وكان الشارع الصيني في إيقاعه الجديد- المنفتح- يكاد لا يذكرهم.

لقد كان التاريخ الصيني المعاصر كله أمام أبصارنا في ميدان واحد، يصنع لمحة أخرى من لمحات الخصوصية الصينية التي أظن أنها حمت الصين من انهيار كارثي مماثل لانهيار الاتحاد السوفييتي. وبغض النظر عما يمكن أن يحمله المستقبل من تغيرات فإن الانهيار الدراماتيكي الذي حدث في شرق أوربا غير قابل للحدوث في الصين.الصين التي تحترم ماضيها وتقدس أسلافها. فرغم إدانة النظام الجديد لأحداث "الثورة الثقافية" التي باركها ماو إلا أن صورته ما زالت مرفوعة على صدر بوابة "تيان آنمين"، وضريحه تحرسه الزهور والشموع في قاعة الشعب.

وكان المشهد الختامي لإطلالنا على المكان والزمان في ساحة ميدان السلام السماوي احتفاليا مدهشا. فمن تحت البوابة القرمزية ظهرت فرقة الحرس لتحية العلم الأحمر ذي النجوم الخمسة، قاطعة شارع السلام العريض، ثم داخلة الميدان، في إيقاع صيني دقيق، ميزانه 108 خطوات في كل دقيقة، وكل خطوة طولها 75 سنتيمترا.. بالضبط!

موائد صينية

كنا على موعد مع الطعام الصيني في مطعم "الاستماع للصفير" في قلب "قصر الصيف". فكأنما كنا نتهيأ للطعام بمقدمات من صنوف الإبداع الصيني القديم والجديد لنتذوق فلسفة هذا الطعام مع طيب مذاقه ونمنمة تقديمه وتناوله. ففي الطريق رأينا بيوت الفلاحين في القرى الواقعة عند أطراف بكين، صغيرة ومتواضعة، كأنما لتبرز جبروت أسوار القصر القريب. وعند ما كنا ندور لندخل القصر من بوابته الشمالية لفتت نظري مساحات واسعة مربعة ومستطيلة الشكل تغمرها المياه. ولقد أدركت أن هذه المساحات المائية هي التي لفتت نظري وأثارت تساؤلي ونحن نحلق بالطائرة قبل الهبوط في بكين. ظننت وقتها أنها حقول للأرز مغمورة بالمياه في مرحلة الشتلات، لكن الوقت لم يكن وقت "شتل الأرز". واستبعدت أن تكون حمامات سباحة بالطبع أو أحواضا لتخزين المياه لكثرتها اللافتة والتي تعتبر ملمحا جويا لم أر مثله في أي بلد طرنا في سمائه من قبل. وشرح مرافقنا جوانج: إن هذه أحواض لتربية الأسماك، فبكين البعيدة عن البحر والتي حرمت من الأنهار الطبيعية، عوضت نفسها بنفسها إذ شقت عدة أنهار صناعية مبطنة الضفاف على أطراف المدينة، وأنشأت أحواضا عملاقة لتربية الأسماك توشك أن تكون بحيرات كاملة، وحتى يمارس هواة الصيد ما يرغبون فيه، فإنه يسمح لهم بالتصيد من هذه الأحواض مقابل رسم معين يدفعونه، ولقد كان هذا الحل الصيني، الشعبي، الحديث، يجد معادله الموضوعي، القديم، والإمبراطوري والراجع إلى القرن الثامن عشر في "قصر الصيف" الذي عبرنا بوابته الشمالية، فالقصر الذي يتكون من سلسلة من البنايات الإمبراطورية وسط الحدائق يمتد على بحيرة هائلة تسمى بحيرة "كيو نمنج" حفرها مائة ألف إنسان بالإضافة لفيالق كاملة من أفراد البحرية الإمبراطورية. ومن الطريف أن أبنية هذا القصر أعيد بناؤها مجددا عام 1888 بأمر من الإمبراطورة "دو سيسي" مستخدمة في ذلك ما كان مرصودا في الميزانية الإمبراطورية لبناء سلاح بحري حديث. إن تصرف "دو سيسي" يوصف الآن بالحماقة، لكن ترى ماذا كان يبقى من "السلاح البحري الحديث" مقارنة مع ما بقي من عمارة مذهلة الجمال وحدائق تغني فيها الروح وبحيرة تسرح فيها الأبصار رضية وتجوبها زوارق العشاق الملونة ويمرح فيها الأطفال في زوارق أخرى بلون البرتقال والشفق وعلى هيئة تنانين ضاحكة. صحيح أن الإمبراطورة، كامرأة، شطحت في الأبهة كثيرا إذ بنت سفينة من الرخام تسمى "القارب الحجري" عند طرف البحيرة ووضعت عند أركان البحيرة مرايا عملاقة تملأ البحيرة والأرجاء بالألق. إلا أنها لم تهمل صالة العرش، وقاعة العمر المديد. والأبراج التي دمرتها القوات الأنجلو فرنسية وأعيد ترميمها، ومعبدبحر الحكمة البوذي. ولعل الشيء الذي سيظل الحاضر مدينا فيه للماضي، لهوس المرأة الإمبراطورة، هو ذلك "الممر الطويل" على الضفة الشمالية للبحيرة، إذ إن السقف الخشبي الملون لهذا الممر الرخامي الممتد 700 متر تحكي الرسوم الملونة، على سقفه كل حكايات الصين الخرافية وحواديت ا لأجداد، وما زال الكبار يأخذون بأيادي الصغار، آباء وأبناء، أو تلاميذ ومعلمين ومعلمات، وتراهم في "الممر الطويل" ماضين على مهل ووجوههم شطر السقف الملون. يتأملون الرسوم ويسمعون الحكايات التي تمثلها. ألا تستحق حماقة "دو سيسي" المسرفة بعضا من الامتنان؟ بلى. وإننا لنرسل إليها ببعض من امتناننا إذ تمتعت أبصارنا بجمال البحيرة والحدائق وعبقرية العمارة وبهجة الألوان. ثم إن امتناننا بلغ ذروته، عندما وصلنا أخيرا إلى مطعم "بتيخليجوان" الذي يرتفع فوق أحد التلال وسط الأشجار الإمبراطورية.

وللطعام فلسفة

صعدنا درجا من رخام نحو بوابة تتدلى من عارضتها القناديل الملونة وتحيط بها الصبايا الرافلات في ثياب الزمن الإمبراطوري البعيد الملون. ثم كان الضوء الهادئ ينير المكان العتيق بموائده الخشبية الواسعة و (البرفانات) الصينية المنقوشة والقناديل ولوحات الرسوم المائية على الحرير والمزهريات الخزفية. وكانت هناك على المائدة المستديرة عصي الطعام الخشبية، كل عصاوين تحملها قنطرة منمنمة من الخزف الملون. وبدأ مجئ الأطباق.

الطعام الصيني حكاية لم أشبع منها طوال الأيام الاثني عشر التي قضيناها في الصين، وفلسفة أحاول العثور على ملامحها من بين ثنايا الحكاية.

ولقد حاول مرافقنا أن يفسر لي سبب التنوع المدهش لأطباق المطعم الصيني، فقال إن الصين في كل عصورها كانت كثيرة السكان ومن ثم ظل الطعام هاجسا ملحا وصنع ذلك فيضا من الحيل والإبداعات للاستفادة بكل ما هو متاح". نعم، كل ما هو متاح، حتى أن هناك مزحة تقول إن الصينيين يأكلون كل ما يمشي على الأرض باستثناء العربات وكل ما يطير باستثناء الطائرات وكل ما يعوم باستثناء السفن!. وقد يكون في المزحة بعض الحقيقة. المائدة الصينية عامرة بالمدهشات، أعشاب وفطر ولحوم وتوابل. ولقد أكلنا في أحد مطاعم الحي الصيني القديم في شنغهاي وجبة مريبة لأننا رأينا عند المدخل صندوقين زجاجيين بأحدهما ضفادع خضراء اللون وبالآخر نوع من الأفاعي المرقشة، ورغم أن أننا تلقينا تأكيدا بأن ما نأكله ليس ضفادع أو ثعابين إلا أننا مكثنا مرتابين ولاحظنا أن الطعام كان شهيا. والمطعم الصيني طيب المذاق رغم مفاجآته، فهناك البيض الأسود الذي يسودون بياضه بطريقة ما لكنه لذيذ، وأيضا السمك المنقوع في العسل والخل قبل وضعه في الفرن، وشرائح الأحشاء الشفافة المتبلة، والأعشاب المسلوقة بالبخار، والخبز المحشو بالخضر والمطهو بالبخار أيضا، تحسبه كريات من العجين الأبيض لكن مذاقه لا ينسى، ثم هذه السمكة المغطاة بأوراق الغار والتوابل التي يتم إنضاجها أمامك في وعاء للبخار وعلى موقد وسط المائدة، وبطريقة تشبه السحر تأتي فتاة المطعم الصينية وبضربتين رشيقتين من سكين صغير عند الذيل وتحت الرأس تخرج لك كل عظام السمكة دفعة واحدة ليبقى أشهى لحم سمك مسلوق يمكن أن تتذوقه. أما "بطة بكين" الشهيرة فهي سلسلة من الطقوس. فالطاهي يأتي إليك أولا بالبطة لتعاينها قبل طهوها، ثم تتبل وتوضع في الفرن معلقة بحيث يطالها الوهج والدخان دون أن تلمسها النار وهي تؤكل في شرائح وبطريقة معينة.. شريحة من البط مع شريحة من الخيار الأخضر وقليل من "صلصة" خضراء من الأعشاب والثوم والخل.. كل هذا في رقيقة مدورة من الخبز الخفيف جدا وتؤكل (كساندوتش) صغير. وحكاية دجاجة الشحاذ واحدة أخرى من ذخائر المطعم الصيني، إذ يتم إعدادها بعد تتبيلها وتغطيتها بالطين ثم تدخل الفرن وتخرج ناضجة في قالب الطين الذي تحول إلى فخار تقشره وتأكل شاكرا فضل الشحاذ الذي اكتشف هذه الطريقة عندما سرق دجاجة ووضعها في النار ثم عندما أحس باقتراب عساكر الإمبراطور أسرع إلى تغطية الدجاجة بالتراب ورش المكان بالماء لكن الدخان كشف خبيئته التي أخرجها العسكر وأكلوا منها فسحرهم طعم دجاجة الشحاذ. وسحرنا أيضا عندما تذوقنا شيئا منها في "مطعم الصفير" في "قصر الصيف".

لقد لاحظت شيئا جوهريا لعله يشير إلى فلسفة الطعام عند الصينيين، فالأطباق عديدة وصغيرة وتوضع على مائدة دوارة يحركها الجالسون فتمر الأطباق على الجميع ليأخذ من يشاء ما يشاء، وكل شيء قابل للالتهام دون ترك بقايا، ولا توجد قطع ضخمة، بل منمنمات يتم التقاطها بالعصي. ولقد فشلت في استخدام العصي وإن كنت قد اكتشفت قانونها الذي يتمثل في تثبيت العصا السفلى وتحريك العليا متقاطعة معها كأنها طرف ملقط يمسك بقطع الطعام. ورغم فشلي فإنني أشهد أن الأكل بالعصي الصينية ربما يكون أكثر صحة من الأكل بالملاعق فالملعقة تدخل الفم وتخرج وتدخل أما العصى فإنها لا تفعل ذلك، كما أنها تهذب الكمية التي يتم دفعها إلى الفم. أما الحساء فإن له آنية خاصة وملعقة من الخزف عالية الحواف لا تدخل الفم أيضا.

إنها مائدة شعب كبير، وتراث ضخم، وفلسفة ابتهاج بالجميل القليل، وتواضع أرواح لا تستعلى على خيرات الأرض جميعا، وتحترم النعمة فلا تلقي بأي جزء منها في صفائح القمامة، لأنها عبر تاريخها وكثرتها الكاثرة أدركت أن الإسراف سفه، وربما خطأ روحي.. وتاريخي أيضا.

العائدة إلى البحر.. أي بحر؟

"عدد السكان 13.5 مليون. المساحة 6341 كيلو مترا مربعا. تنتج 1/ 16 من مجمل الإنتاج الصناعي الصيني. عدد الشركات 40.000 شركة، العاملون فيها 3.4 مليون إنسان، الإنتاج 327.2 مليار يوان".

هكذا كانت تترى الأرقام عن شنغهاي على لسان "لو بو وانج" أحد مسئولي لجنة الاقتصاد لكنني لم أكن مع الأرقام تماما، فلم تستوقفني إلا بعضها مثل أن شنغهاي تصدر سنويا ما قيمته 7.4 مليار دولار وتستورد 3.6 مليار دولار. وصناعة التكنولوجيا العالية والسيارات والكمبيوتر قفزت 50% هذا العام. و 1200 شركة تملك حق التجارة الخارجية دون تدخل حكومي. هذه إذن شنغهاي التي يسمونها "رأس التنين" الزاحف لتبوؤ مركز المال والتجارة الأول في العالم في القرن القادم.

كنت أتابع الأرقام متابعة الحالم لضوضاء اليقظة. فقد كان ميناء شنغهاي يبدو وراء النافذة، والسفن تروح وتجيء في حوض نهر "هوانجبو" الذي يلتقي بعد قليل مع مصب نهر "يانجتسي" في البحر الأصفر المفتوح على المحيط الباسفيكي. ورأيت عبر الزمان مدافع الإمبراطورية البريطانية تضرب المدينة الصينية بالبارود الذي اكتشفه الصينيون، والسبب أن التجار الأوربيين تفتق ذهنهم الشيطاني عن حيلة جهنمية، فبعد أن كانوا يدفعون بالفضة ثمنا للتوابل والحرير والبارود والورق الصيني (إذ لم يكن لدى أوربا ما تقدمه) سربوا الأفيون إلى الصين حتى شاع إدمانه، ومن ثم راحوا يدفعون بالأفيون بدلا من الفضة، لكن الإمبراطور الصيني- بعد أن رأى دمار شعبه- حرم الأفيون، فقامت قيامة أوربا آنذاك، وتدخلت السفن الحربية البريطانية لتدك مدافعها شواطئ الصين، مهددة: إما العودة إلى الدفع بالأفيون، أو تعويض التجار الأوربيين- والإنجليز خاصة- عن أفيونهم المكدس في مخازن كانتون وشنغهاي! إنها مدافع حرب الأفيون التي زعقت بالباطل في منتصف القرن التاسع عشر معلنة عن إحدى أحقر عمليات "البلطجة" الأوروبية لابتزاز الشرق، وأي شرق؟ الصين. وكان ثمن الأفيون الأوربي باهظا.. قهر العملاق الصيني وانتزاع هونج كونج بعقد ايجار مدته 99 عاما. ومن خلف المدافع الإنجليزية جاءت حقوق الامتياز الأجنبية، للإنجليز، عام 1842، ثم الفرنسيين عام 1847، ثم الاستيطان الدولي عام 1863، واليابان أخيرا عام 1895. ولم يكف تدفق الأجانب على شنغهاي، ليمتلكوا فيها أعلى بنايات آسيا في ثلاثينيات هذا القرن، وأفخر دور السينما، والفنادق، والبارات، والسيارات، وأقوى بيوت المال. وما زالت بقايا الأحياء الأوربية ماثلة في المدينة تعطي لها طابعا مختلفا وتذكر بالمأساة والملهاة رغم أناقة بيوت الأوربيين وهو ما شعرت به وأنا أشاهد الفيلات الأنيقة والأبنية الكولونيالية الباقية. ومن مساخر الصور أن الفرنسيين كانوا يستخدمون الفيتناميين كعساكر للشرطة في "المدينة الفرنسية". بينما يستخدم الإنجليز الهنود السيخ في "المدينة الإنجليزية". لقد كانت هناك إمبراطوريات "الدم الأزرق" التجارية، ماركات جاردين وماتيسون وساسون الذين بدأوا نشاطهم بتجارة الأفيون. وكانت تنافسهم الشركات الأمريكية الناشئة ذات الطبيعة المغامرة والعدوانية والاستعداد للتجارة في أي شيء، ثم صنوف وألوان من التجار والمستثمرين والمغامرين الأوربيين. وكانت السفن الحربية الأجنبية تحرس كل هذا الجراد الأبيض. وفي مناخ كهذا قيل إن من لديه المال كان يستطيع شراء أي شيء في شنغهاي العشرينيات والثلاثينيات..: صالات الرقص، والقمار، ومستلزمات الأفيون، والمطاعم الفاخرة، وجيش قوامه ثلاثون ألف بغي من اللحم الصيني المهيض.أما وقود ذلك كله فكان جهد 200.000 من العمال الصينيين المهرة الذين يعملون في ظروف تشبه الاعتقال داخل مصانع شنغهاي التي كانت أكبر مدن آسيا الصناعية آنذاك. ولقد تذكرت وأنا أسرح البصر في مدى شنغهاي، صفحات شريفة كتبها الأديب الأمريكي إدجار سنو الذي زار شنغهاي، في أواخر العشرينيات من هذا القرن وفضح عمليات استعباد الأطفال الصينيين- بنين وبنات- في عمر 12 و 13 سنة للعمل- خاصة في مصانع الحرير- وكيف أنه لم يكن مسموحا لهم بمغادرة أماكن إقامتهم داخل أسوار المصانع ليلا أو نهارا ولمدة 4 أو 5 سنوات كاملة.

تذكرت ذلك كله، فأعلنت ضجري من لغة الأرقام، وفضلت أن أقرأ لغة الحياة في الشوارع وكان الشارع الأفضل للقراءة هو شارع "نانجين" الذي يمنحه العارفون بالتجارة لقب "الميل الذهبي" ففيه تتكدس أشهر متاجر شنغهاي وتتدفق أمواج البشر. في شارع نانجين تحس فعلا أنك في الصين الشعبية، زحام هائل من البشر وحركة بيع وشراء لا تهدأ منذ الخامسة صباحا وحتى العاشرة ليلا واختناقات المرور في الشارع تبدو بلا نهاية رغم الجسور العلوية والمخارج والمداخل العديدة. ولقد لفتت أنظارنا براعة البيع رغم الزحام فالفتيات البائعات يرتدين نماذج مما يبعنه كأنهن يقمن بعرض أزياء مستمر والفواتير مملوءة ومختومة وكل شيء يتم بسرعة ورقة وابتسامة لا تنقطع. وفي هذه الأجواء تبدو قفزة الجمال والأناقة الصينية ملحوظة جدا. الشعب الصيني شعب جميل له جماله الخاص، أعواد معتدلة ووجوه فيها رقة ونمنمة ولطف.

من شارع نانجين ذهبنا إلى المدينة الصينية القديمة فكنا نخترق شوارع ضيقة تشبه شوارع مصر القديمة أو دمشق القديمة ولكن على الطريقة الصينية. محال الحرفيين ومطاعم المقليات السريعة والخبز المعمول بالبخار. ثم دلفنا إلى سوق مغطى يسمى سوق حديقة الماندارين فكنا نمر عبر محال متواصلة يفضي كل منها إلى ما يليه تعرض الحرير والخزف ولعب الأطفال والمنسوجات والمراوح الملونة والأجهزة الكهربائية والمصنوعات اليدوية من الخشب والنحاس والفضة. ولأن هذا السوق يقدر زواره بنحو 200.000 زائر يوميا فقد كان تيار الحركة ينقلنا من مكان إلى آخر ثم انتهى بنا المطاف أخيرا إلى حديقة الماندارين "يويوان". وهي حديقة استغرق تشييدها 18 عاما (من 1577 إلى 1559) لكنها دمرت في أيام إذ أصابتها قذائف من حرب الأفيون عام 1842 وأعيد ترميمها. وفي الحديقة الملحق بها معبدبوذي يسمى معبد آلهة المدينة "شنج هوانج مياو" ثم البحيرة المحدقة بذلك وجسر الرخام الزجزاجي المفضي إلى "قصر الشاي" المطل على البحيرة والحوانيت المائة في محيط المكان. كل ذلك كان يعطي لمحة عن تكامل الأزمنة وتناسج القديم والجديد واختلاط الروحي بالدنيوي في معزوفة صينية توشك أن تبلغ حد الكمال حيث لا يترك الصيني فضاء إلا وجمله.

ومن المدينة الصينية القديمة إلى شنغهاي الجديدة، أو حي "بادونج" توجهنا فبدا لنا أننا نغادر زمنا لنواجه

سفراء.. عرب، وصينيون

ليلة مغادرتنا لبكين كنا على موعد مع الدبلوماسية العربية، التي ما زالت مستودعا زاخرا للعقول اللامعة - ثقافة ووعيا ورؤى ثاقبة- فليس يحيى حقي وعمر أبو ريشة وشاكر مصطفى وغازي القصيبي آخر نماذجها. وقد أقام الدبلوماسي والإنسان العربي الممتاز الأستاذ غازي الريس سفير الكويت في الصين حفل عشاء على شرف مجلة "العربي" حضرة السادة سفراء البحرين والإمارات العربية وسلطنة عمان وأعضاء السفارة الكويتية في بكين. وعلى العشاء كان السؤال الصيني هو الضيف البارز والمحتفى به من قبل كوكبة العقول العربية هذه، وقد كان حصاد الكلمات تعبيرا عن التعاطف مع معجزة بلد يستطيع إطعام البشرية كلها وجبة كاملة كل يوم - على حد تعبير السفير الكويتي- ما دام يطعم سكانه ثلاث وجبات يوميا وهم قرابة المليار وثلث. وكان ثمة إجماع على ضرورة الوجود العربي في الأفق الصيني، لأنه أفق مستقبلي بمعطيات تاريخ هذا الشعب ووقفاته الثابتة مع الحق العربي وإخلاصه الحضاري لقيم العمل والإبداع والإنسانية. وإذا كانت هذه هي رؤية الدبلوماسية العربية النيرة، فإن هناك دبلوماسية أخرى تستحق إيلاء النظرة فثمة صرخة ننقلها عن قسم اللغة العربية بجامعة شنغهاي- عميدا وأساتذة وطلابا- وهم بكل المعايير سفراء للثقافة العربية في الصين. ويصدرون على نفقتهم مجلة بالصينية تسمى "العالم العربي". إنهم يشكون الإهمال العربي، ومطالبهم تبدو ممكنة: بضعة برامج عربية للكمبيوتر، ومسابقات ثقافية يرعاها العرب، وزيارات ميدانية لساحات لغة الضاد.

ينبغي ألا نتركهم وحمدهم في هذا الشرق البعيد، وينبغي ألا ننسى أن هناك نحو 18 مليون مسلم صيني - على الأقل - نمثل الثقافة العربية عمقا لنداء أرواحهم. فهل نلبي النداء؟

العنوان: جمهورية الطين الشعبية: البروفسير "زو ويلي" 200083

(W (SHANGHAI 550 DA Lian Road

آخر. فالطريق العلوي الممتد وسط المدينة يطيح بمئات البيوت القديمة في ضاحية "شينجدولو" لينهي كل الأزمات المرورية في المستقبل. أما بناء البورصة في منطقة "لو جيا زيوي" فهو يوحي بالطموح المالي العملاق في القرن القادم، والمنطقة الصناعية الحرة.. "في واي جاو فياو" ترتفع وتنتشر بعملقة حتى أن الكلام عن أن هونج كونج ستكون تابعا لشنغهاي في القرن القادم يبدو قابلا للتصديق.

لقد عبرنا النهر فوق جسر يربط بين طرق دائرية ومتعددة الطوابق، وعدنا نعبره سالكين نفقا تحت الماء يسمى "لو جيازيو"، وتوقفنا على الضفة لنتذوق طعم الإبحار في زورق صيني شراعي من نوع الشانج، ثم عدنا إلى شارع نانجين المزدحم، وفي هذه الدورة كان واضحا تفتح شهية سكان شنغهاي للعيش ببحبوحة. ورغبتهم في امتلاك المزيد من الأشياء، السيارات والفيديو والدراجات المزودة بمحركات صغيرة رغم ارتفاع أسعارها، بل حتى القطط والكلاب ولقد توقفنا فيما بعد في شارع "هونج كياو" بطريق المطار لنشاهد مركزا تجاريا ضخما لبيع الحيوانات الأليفة والخدمات البيطرية بالتنسيق مع شركة مثيلة في تايوان، ووجدنا إلى جوار الكلاب البكيني والشيهتزو الصينية أنواعا مثل الاسبا تيلز واليوركشاير التي يصل سعر بعضها إلى مائة ألف يوان (أكثر من ألف دولار). وعرفنا أن هناك مائة وخمسين ألف رخصة لكلاب أليفة يقتنيها سكان شنغهاي. وأثارت اهتمامنا صور زخرفية ملونة للكلاب منتشرة في الملصقات والمجلات، وبعدما سألنا عرفنا أن العام الصيني الذي يبدأ من 11 فبراير 1994 هو عام الكلب تبعا لنظام الأبراج الصينية التي تضم اثنى عشر عاما باثني عشر برجا يرمز إلى كل منها حيوان معين.

وتبعا لقراءة طالع عام الكلب يقول المنجمون الصينيون إنه عام طيب إذا اتبع الإنسان صفات الكلب الطيبة وابتعد عن صفاته الرديئة، فلا نباح ولا عض، بل صبر وترقب. وترجمة ذلك في عالم الاقتصاد هو عدم المغامرة في استثمارات جديدة بل التكريس للحفاظ على القديم حتى يأتي الوقت المناسب للجديد. ومن الغريب أن هذه القراءة التنجيمية الصينية تتفق مع رأي راسمي السياسة الاقتصادية الصينية، فقد أخبرنا "دينج زيان هاونج" رئيس لجنة الإصلاح الاقتصادي الصيني أن معدل النمو الذي بلغ 13.4% لا بد من إبطائه حتى لا تتفاقم نسبة التضخم التي بذلت الدولة جهدا كبيرا لإبقائها في حدود 13% حتى لا تقفز الأسعار ويضر ذلك بالتوازن الاجتماعي.

لكن هل يطيق الناس صبرا على الانتظار بينما سوق التجارة والاستثمارات في الصين لا تهدأ؟ وهل يضبط السوق إيقاعه ليناسب إيقاع الحكمة الصينية بينما الرأسمال بطبعه برجماتي وسريع الهجوم ونهاز للفرص؟.

إنها معادلة صعبة تمثلها شنغهاي خير تمثيل. ومن المفارقات أن اسم شنغهاي يعني: "العائدة إلى البحر"، فإلى أي بحر الآن تعود؟؟ إلى بحر الحكمة الصينية، أم بحر البرجماتية الرأسمالية؟ أم أن هناك طريقا ثالثا؟ هذا هو السؤال الذي لا يجيب عنه إلا الصينيون، والمستقبل.

 

محمد المخزنجي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




صورة الغلاف





جزء من سور الصين العظيم الذي يمتد بطول خمسة آلاف كيلومتر ويبلغ من العمر 2000 عام





ملامح من المدينة الإمبراطورية المحرمة





عالم الدراجات





ناطحات السحاب في الصين





خريطة جمهورية الصين الشعبية في أقصى شرق آسيا





بوابة ومنصة السلام السماوي تيان آنمين وعليها صورة ماوتسي تونغ ولا فتتان تحييان جمهورية الصين الشعبية ووحدة شعوب العالم





منذ رفع شعار طفل واحد لكل زوجين عام 1970 هبط معدل زيادة السكان إلى الثلث





ببساطة وتواضع يقوم هذا الفنان برسم لوحة ملونة فائقة الدقة داخل زجاجة صغيرة





بطول كيلو متر تمتد هذه المطاعم في الشوارع عند نهاية يوم العمل الساعة 5





بوابة أحد الأبنية داخل القصر الصيفي وتعكس ألوانها الإشراق الروحي لدى الفنان الصيني





نائب رئيس حكومة العاصمة بكين جاء بنفسه للقاء العربي الصورة مع المحرر





الجمال الصيني حقيقة تجاهلها الإعلام الدولي طويلا لكن الآن لم يعد التجاهل ممكنا





الجمال الصيني حقيقة تجاهلها الإعلام الدولي طويلا لكن الآن لم يعد التجاهل ممكنا





الجمال الصيني حقيقة تجاهلها الإعلام الدولي طويلا لكن الآن لم يعد التجاهل ممكنا





انتشار قيم للسوق الذي يفيض حتى الأرصفة بالأزياء الغربية التي تنتشر في الصين





انتشار قيم للسوق الذي يفيض حتى الأرصفة بالأزياء الغربية التي تنتشر في الصين





الدراجة تمثل قناعة صينية تنم عن روح الزهد فهي صديقة البيئة ورياضة للجسد





شاب يلعب دور امبراطوريا سياحيا عند مدخل القصر الصيفي





ممثلة في أوبرا بكين تعتبر عروضها نماذج رائعة من عبقرية البساطة وسمو الابداع





مفرق في شارع تانجين اهو شوارع شنغهاي التجارية





كهل صيني في ثياب تقليدية