نزار غانم وأشرف أبو اليزيد.. البحث عن أوطان عربية جديدة!

نزار غانم وأشرف أبو اليزيد.. البحث عن أوطان عربية جديدة!

له في الطب شأنٌ، فهو دارس وممارس له، وعنده في الفنون شئون، فهو موسيقي بالفطرة، وعازف على العود، وباحث في أصول الموسيقى والأداء الحركي، وملحن للشعر الغنائي. كما أن لديه مع الآداب شجونًا، فهو شاعر، في أسرة عُرف أهلوها جميعهم بانتمائهم للحرف مبدعين له ومناضلين به. وقد سار على درب العمل الأهلي فبات رائدًا له، يخرجه من عباءة الخاص إلى خيمة العام. خَبَرَ الرِّحلة والإقامة في أكثر من مكان، فكان حديثه شجونا تفتح أبوابًا وتطرق أخرى. إنه الباحث والطبيب والموسيقي اليمني نزار غانم، متحدثا إلى الكاتب أشرف أبو اليزيد من أسرة تحرير (العربي).

في حياةِ المرءِ محطاتٌُ راسخة لا تُنسى. تستدعي الذاكرة مشاهدها بين الحين والآخر، أو تفرض هي سطوتها على الذكريات. وحين نتحدث مع طبيب يمني مهتم بالعمل الأهلي، وباحث أريب في فنون بلدِه اليمن، ومنطقته العربية، وموسيقي بارع عازف للعود وملحن للشعر، وابن نجيب لعائلة تفشي سرَّ الأعراق العربية الثرية بالجذور والفروع معًا، تبدأ الحيرة في اختيار محطات البدء. لكننا مع الدكتور نزار غانم سنختار أن نبادره بالسؤال عن تلك المحطات التي تضيء بين الحين والآخر لتنير أيام الطفولة وليالي الصبا ومدارات الشباب.

شكرًا جزيلا على الدلالة الواضحة فيما تطرحون في التساؤل عن مشوار تراكمت فيه المحطات بحيث أصبح مسارًا من أحداث فلا يكاد يقف عند حدث يتيم معين مهما كان كبره، إلا أنه بتراكمه يرسم المسار الذي أظنني اخترت أن امضي فيه مقدرًا التحدي وحجم هذا التحدي. وفي التساؤل عن الدور الذي لعبته نشأتي في كنف أب من النخبة المستنيرة في الوطن العربي المعاصر، وفي الرقعة اليمنية بدرجة أساسية، ينبغي أن أبدأ فأقول إن هذا الحضور وتلك التنشئة التربوية بجوانبها المعرفية والأخلاقية، جاءت كمهمة نهض بها الشاعر الراحل محمد عبده غانم، ومعه والدتي طيب الله ثراها، المثقفة باعتبار المرأة اليمنية في ذلك العمر، منيرة ابنة محمد علي لقمان رائد الصحافة الأهلية العربية والاستنارة في جنوب الجزيرة العربية، فهي بإذن الله تنشئة تناغمت فيها أدوار الأب والأم، كما أنها تنشئة تأخذ في اعتبارها أنني أصغر أبناء الأسرة أولادًا وبناتا، وبالتالي فإن تربيتي جزء منها قد نهض بها أخوتي الأكبر مني وخاصة الدور الطيب الذي قام به الدكتور والشاعر والمهندس شهاب غانم الذي أجد أنني أتشاطر معه مشتركًا كبيرًا في نمط الحياة وفي الهم العام الذي كنا - وما زلنا - نعتقد أن فيه استمرارا لمشروع محمد عبده غانم التحديثي، ولكن أيضا فيه بلا مناص محاولة بأن يكون كل منا وجهًا مغايرًا زمانا ومكانا، وتحديات للأبوة الراحلة، من باب الاعتراف بأن من ينشأ في مثل تلك البيئة لا بد أنه يتأثر بها، ولكن هذا التأثير إذا وقف في حد التأثر لا يتحقق معه ما يسميه ماسلو بتحقيق الذات في تسميته لهرم الاحتياجات الإنسانية. فلا شك أننا في مرحلة أخرى بدأنا كل يحاول أن يتقبل ذلك التشظي الجغرافي (على الأقل) الذي عشناه في أكثر من بلد عربي وغير عربي، والإصرار في الآن ذاته على أن يكون لكل منا خصوصيته التي تتفق مع ميوله وانبثاق مواهبه.

معشوقة الملايين

  • أعتقد أن الحديث عن الوالدِ الرَّاحل الشاعر محمد عبده غانم رحمه الله، يعد بوابة أولى لأحاديث عدة في هذا الحوار. وقد خصصتَه بأحد كتبك الذي صدر في العام 1993م. أرجو أن نسهب في هذا المجال الذي هو تأريخ لأديب أكثر منه تأريخًا للوالد نفسه إذ يتخطى هنا الخاص العام؟

- هناك ملامح لا شك للمنصف، وينبغي أن يكون ولستُ أنا في هذه الحالة المحايد عاطفيا أن يقرأها في أعمال الدكتور والتربوي والشاعر والفنان محمد عبده غانم. في اعتقادي أنني إذا مارستُ شيئًا من هذا التجرد سأجد أنني خصصتُه بكتاب تحدثت فيه عن حُمينياته، والحُميني هو شعرٌ يكتب خاصة للغناء، ويمتد في مشروعيته إلى مئات من السنين الموغلة في حياة الأدب اليمني البسيط والحديث والمعاصر. بالنسبة لي وقبل أن أطوف بمناحي أستقرؤها في شخصية رجل امتدت حياته من سنة 1912 و1994، وكان نشيطا فيها حتى السنوات الأخيرة من حياته. قبل أن تتداعى مثل هذه الرؤى أقول إنني اهتممت مثلا بأن ألج إلى موضوع لم يسبقني أحد إليه، حتى من الكتاب والنقاد الذين درسوا حياة محمد عبده غانم، ووضعوا أطروحات جامعية عنه، في مصر والسودان واليمن. إنما دوره وهو شاعرٌ يمتلئ قومية ولم يكن ليخفي هذا الجانب بل إنه حتى عندما يتحدث عن الوحدة اليمنية تجده يستصحب الإحساس بالوحدة العربية وفي اقتناعي الذاتي أنه قد وصل هو وعدد من أبناء جيله إلى الاقتناع بمعشوقة الملايين كما يسميها في إحدى قصائده وهو الوحدة العربية. وهو يتحدث في قصائده عن الوحدة العربية حتى قبل أن يتحدث عن الوحدة اليمنية، التي يعتبرها جزءًا من كل. وأقصد هنا قصائد تعود إلى الثلاثينيات، مثل هذه القصيدة (معشوقة الملايين). بالرغم من حضوره في مجالات عديدة من الإبداع، وتأسيس المجتمع المدني، مع نخبة من زملائه الذين درسوا في الجامعة الأمريكية في بيروت، وقد كان هو الخريج الجامعي الأول من شبه الجزيرة العربية (1936) في جامعة معاصرة. اهتمامي لكتابته للنص الحميني، في شكله، فهو في منزلة بين المنزلتين، اللغة العربية الفصحى التي كافح من الشاعر من أجلها حتى في ظل وجود الاستعمار، وبين العامية التي تتفلت من كل القيود. أما الحميني فهو ذلك النمط الذي يسميه الشاعر اليمني الراحل إبراهيم الحضراني بعامية المثقفين، ويقصد به أن اللغة تكاد تكون هي اللغة الفصيحة لولا الاستغناء عن بعض قواعد الإعراب. فقمتُ بدراسة جاءت في كتاب بعنوان (حمينيات صدى سيرة). وصدى سيرة كان الاسم المستعار الذي كان يكتب تحته محمد عبده غانم لعدد من السنوات.

ومن الطريف أن عددًا من أدباء اليمن المجايلين خاصة الذين كانوا في شمال البلاد، كانوا يقرأون ويعجبون بهذه الأشعار دون أن يدركوا أن صاحبها هو الشاعر محمد عبده غانم. وهذا أيضا نجده عند الشاعر إبراهيم الُعريِّض، تلك القامة في حياة الأدب العربي بصفة عامة، وأدب منطقة الخليج بصفة خاصة، حيث إنه في مختاراته التي صدرت في الأربعينيات، نجده يضع ثلاث قصائد لمحمد عبده غانم، ولكن تحت اسم صدى سيرة، ظانا أنه كان اسمًا لشخص معين. ويتحدث إبراهيم العريض فيما بعد كيف أنه أعجب بهذا الاسم قبل أن يعرف صاحبه. هذا الدور الذي نهض به محمد عبده غانم في كتابة الأغنية، يذكرني بدور كان رائدًا فيه الشاعر أحمد شوقي، لأنه رغم كتابته للشعر الذي تغنى به عبد الوهاب الذي لا ينكر الدور العظيم لأمير الشعراء في احتضانه، إلا أنه استجاب لطلب عبد الوهاب أيضا في كتابة شيء له بالزجل المصري مثل (في الليل لما خلي) و(النيل نجاشي حليوة أسمر)، وغيرهما. فأحمد شوقي أيضا كتب هذه الحمينية، أو الزجل المصري لحُمينيات الشاعر محمد عبده غانم. وقد حاولت أن أؤرخ للدور الذي قام به في ميلاد تلك الأغنيات. التي كتبت أساسا للغناء، مع مولد الغناء اليمني المعاصر، وهنا مقاييس الحداثة ومدرسيتها تكمن في أن الناس قبل ذلك كانوا يرددون أغاني ونصوص الغناء الصنعاني بدرجة أساسية، وكذلك نصوص في حضرموت، خاصة تلك التي تعرف بغناء الدان. فلم يكن هناك من يلحن شيئًا جديدًا.

في حمينيات صدى سيرة استقرأت أولا أشكال الإنتاج الغنائي الجديد، الذي يأتي في قالب مختلف، وهو قالب الطقطوقة الغنائي، والذي أصبح يسمى الآن، الأغنية القصيرة الذي يقوم على المذهب والكوبليه، بعد أن كان يسيطر إرث التوشيح على المعمار الشعري في الغناء التقليدي. وقد عشق محمد عبده غانم ذلك التراث حتى أن رسالة الدكتوراه له في جامعة لندن جاءت بعنوان شعر الغناء الصنعاني (1969).

  • دون أن نطوي تلك الصفحة العائلية، يبدو لنا في سيرتكم الذاتية مدى ارتباط الخاص بالعام، لا شك أن هناك رابطا يشبه نسغ الحمض النووي الثقافي يربط بين الجهتين. أعتقد مع وصولنا إلى أطراف سيرة الفن أن يكون منطلق الحديث عن (السومانية)، وهو مصطلح ابتكرتَه للحديث عن القواسم المشتركة بين السودان واليمن - حدثنا عن هذا المصطلح وتجلياته؟ وأعتقد أن لك كتابًا عنوانه جسر الوجدان بين اليمن والسودان صدر في سنة 1994؟

- أجد نفسي منذ فترة طويلة - ومازلت وسأظل - أشتغل على التثاقف العربي - العربي، لأنني وجدت - من خلال إقامتي التي انداحت في عدد من الأقطار العربية - أنه حتى النخبة الثقافية تجهل ما يدركه الآخر، لأنهم لا يعرفون ما يكفي من حيثياته. بالرغم من أن هذا التنوع يأتي في ظل وحدة ثقافية عربية. ورعى الله -ويرعى بإذنه تعالى - هذه المجلة (العربي)، التي كانت تخاطبنا وتقول بصيغة الأمر: «اعرف وطنك أيها العربي». ونحن من ذلك الجيل الذي تتلمذ على هذا النداء ولبى هذه الدعوة. التثاقف اليمني السوداني بدأ الاشتغال عليه في العام 1979، وكنتُ طالبا في تلك الفترة بالسنة الثالثة بكلية الطب في جامعة الخرطوم بالسودان، أستعد للانتقال للسنة الرابعة المفصلية في دراسة الطب. وقد وقع في يدي ديوان بقايا نغم لشاعر الرومانسية الكبير لطفي أمان. من مدينة عدن، وهو ديوان صدر له بينما كان يدرس في السودان، في كلية جوردون، التي أصبحت فيما بعد (جامعة الخرطوم). ورحت أستشرف في ذلك الديوان الصور التي ألهمت الشاعر وهي صور مستوحاة من البيئة السودانية ولم يكن صحيحًا الظن بأن هذا الشعر موجه بين السودان واليمن وحسب، فقد كان يأتي في إطار أشمل.

حضور مصري في السومان

انظر كيف تحضر مصر في المعادلة السومانية التي أصدرت فيها حتى الآن كتابين؛ الأول بين صنعاء والخرطوم في 1989 في بيروت، ثم مجلد جسر الوجدان بين اليمن والسودان سنة 1994، والذي وضح فيه حضور هذا النحت في اللغة بين السوداني واليماني ليصبح لدينا (السوماني). يقول لطفي أمان في سفر وفد من السودان إلى مصر في الأربعينيات، في فترة ما كان يُعرف بالحكم الثنائي، وهو الشاعر العدني اليمني الذي أمضى فترة الأربعينيات بالسودان وغادره قبل قيام ثورة يوليو وقبل استقلال السودان، يقول:

«مِـصرُ بَكَتْ والظلمُ في أضْـلاعِـها أدْمـَى وأوْرَى
وهفتْ إلى السُّودان قلبًا يسْـتفيضُ هوى وطـُـهرًا
كانتْ هي السودان، والسُّودانُ كان لمصر، مصرًا»

- وتجد، أيضا، عند الشاعر مبارك المغربي، الذي كتب قصيدة يرحِّب فيها بأبي الأحرار اليمنيين؛ الشهيد الشاعر محمد محمود الزبيري، في مدينة مدني، بالسودان، يقول فيها مثالا:

يا أيها الزائر الرَّاجي أخوتنا
لقد لقيتَ مع الأخوان .. إخوانا
ما أنت ضيفٌ، وإن شطت مرابعُنا،
عقد العروبة حيانا، وأدنانا،
وإن دعاك الهوى يومًا إلى يمن
فقد نزلت بها (مصرًا) و(سودانا)»

وهنا يحضر ما قلتُه من قبل وهو، إن محمد عبده غانم ومجايليه، تشبعوا بالفكر القومي، ومنها ما حدث على سبيل المثال للشاعر لطفي أمان عندما خرج للدراسة الجامعية في السودان، أو كما حدث للشاعر محمد عبده غانم بأستاذه قسطنطين زريق وبجمعية العروة الوثقى التي كان الشاعر الأب سكرتيرً لها في الجامعة الأمريكية ببيروت.

  • دون أن نترك السودان - ولن نتركها - يشدنا الحديث إلى حياتك في السودان، فلم تكن لديك تلك الدراسة النظرية وحسب، بل كانت لك دراستك التطبيقية من خلال التجربة بعد أن خبرت الحياة والمجتمع والأدب والفن هناك؟

- لقد عشتُ في السودان فترتين، الأولى قوامها عشر سنوات بعد أن جئت من لبنان التي اندلعت بها الحرب، وقد درست بالخرطوم الطب لسبع سنوات. أما المرحلة الثانية فكانت بين عامي 2002 و 2006 عندما عملتُ مستشارًا ثقافيا مساعدًا بالسفارة اليمنية في السودان، وهي القبعة الدبلوماسية الوحيدة التي ارتديتها في مسيرتي. كانت هناك 18 سنة بين الإقامتين غادرت فيها السودان، ولكن السودان لم يغادرني وجدانيا..

  • من زاوية أخرى، يمكن الحديث عن فنون إفريقية «تيمنت» إن صحت العبارة وسلم المصطلح. وأنتم خصصتم فنون الرقص مساحة من بحثكم وكتبكم وحاضرتم عن الرقصات الإفرويمنية. وقد عددت رقصاتٍ في محافظات حضرموت باعتبارها مناطق محاذية للجانب الإفريقي مؤكدة لذلك التلاقح ومترجمة للعملية الثقافية المستمرة منذ الأزل بين اليمن وشرق إفريقيا؛ ليس فقط الصومال أو أريتريا وجيبوتي وإنما السودان وحتى ما وراءها، خارج الحدود المصطنعة الوهمية التي تتلاشى أمام تلاقح الثقافات دون إلغاء حضارة وإحلال أخرى محلها؟

- أنا أيضا أعد هذا العمل اشتغالا على التثاقف العربي - العربي. ففي هذا البحث عن تلك الفنون أتيت بمصطلح إفريقيانية اليمن، والطريف أن من كتب تقديم هذا البحث هو الدكتور أبو بكر القربي، وزير خارجية اليمن الحالي، وفي هذا شيء من التوافق مع ما قلته حول إفريقيانية اليمن الموسيقية. ففي مسار الحياة أجد أنني كنت سباقا لبعض الاصطلاحات بعد جهد طويل من الاشتغال على المادة موضوع البحث. وأعتقد أنني كنت منشغلا بجنوب الوطن العربي، وهذا الوطن المتمدد في القارتين الآسيوية والإفريقية لا نقول جديدًا إذا قلنا أن الكتلة الديموجرافية فيه يعيش ثلثاها في إفريقيا، وأن هناك تماهيا عبر الثقافة العربية في شمال إفريقيا وغربها والثقافة الإسلامية، وأرى أن الثقافة العربية منذ القدم اتسعت للمكوِّن الإفريقي بأكثر من شكل، واللغة العربية، إلى جانب بعض اللغات الرافدة شكلت حضورًا كبيرًا. ولم نكن نعلم إلا في الآونة الأخيرة أن الناس في تشاد والنيجر يتكلمون اللغة العربية بهذه الصورة. كنا نفكر بطريقة جغرافية نمطية، وكأننا سايكس بيكويون أكثر من سايكس بيكو نفسه، علمًا بأن القارة الإفريقية ذاتها تعرضت لمذبحة مشابهة (سايكس بيكوية أخرى)، وأصبحنا متشبثين بهذه القطرية البغيضة.

صدم كتابي (الرقصات الإفرويمنية) بعض من يتحدثون عن النقاء العرقي. ولهم أقول إننا والزنج - وهي كلمة تحتاج إلى بحث إضافي - لنا حضور طويل منذ البداية، حتى أن الجاحظ يشير إلى ذلك، بل إن هناك كتبًا مؤلفة في العصر العباسي لها عناوين لافتة مثل (فضل السودان على البيضان)، وتجد هذا التماهي في أن الدور الموسيقي في كثير منه كان يوكل إلى الطبقات الوافدة. والفارق هنا، طبقا للمذهب الأنثروبولجي، أننا نتحدث عن إعادة إنتاج للوافد، فالرقصات التي جاءت من إفريقيا إلى اليمن يمكن أن نستقرئ إفريقيانتها من الناحية الإثنو موسيقية في اللغة السواحيلية التي تأتي مختلطة بالعربية، حيث بقي أدبها شفاهيا، مما جعل هناك إعادة إنتاج لكل هذه المكونات في الكلمات والمقامات، حيث الحضور الواضح للسلم الخماسي الموجود أيضا في جنوب مصر بوضوح في تراث النوبة. لذا نجد أن الخريطة السايكس بيكوية أبعد ما تكون عن المقاربة. لكن هناك لهجات داخل اللغة الموسيقية العربية.

أما (يمننة) هذه الرقصات فيؤكد حضورنا القوي في موسيقى الطرب، في زنجبار وما يجاورها. وفي هذا قصة فقد أرسل من زنجبار السلطان برغش أحد سلاطين عُمان هناك طلابا للدراسة في مصر وكان قد دخلتها أكدمة الموسيقى بعد الحملة الفرنسية وعاد هؤلاء متأثرين بما وجدوه، لذلك حين تسمع فن الطرب في تلك المنطقة السواحيلية فتجد فنانات متأثرات بأم كلثوم، على الرغم من أنهن يغنين بالسواحيلية، وبشيء من الهنك، حتى أن الفنانة منهن ترتدي مثل ما كانت ترتديه أم كلثوم من زي، وتمسك في يدها منديلا، وخلفها عازف إفريقي على القانون، وهو آلة شرقية بحتة بها أرباع التون! وقد استمعت لهذه الرقصات في اليمن، كرقصة الليوة، والطنبورة، وهما موجودتان في الكويت، والخليج العربي، وفي البصرة.

  • بل إنك ذكرت في أحد أبحاثك أن الطنبورة موجودة في بورسعيد بمصر، تحت عنوان ما يسميه المستشرقون أحيانا بثقافة البحر الأحمر الموسيقية؟

- نعم، وقد قلت إن جنوب الوطن العربي له لهجات، ولكن أين هو جغرافيا جنوب الوطن العربي؟ أنا أراه أنه يمتد إلى دول ليست أعضاء في جامعة الدول العربية. وإذا أخذنا اليمن، الذي يقع جغرافيا في آسيا، لكننا نجد أنه وجدانيا إفريقي، وخاصة في السواحل، بتهامة وحضرموت.

  • خاصة أنه لم يكن هناك بحرٌ أحمر قبل ملايين السنين، فقد كانت القارتان وحدة واحدة، وأعتقد أن هذه دعوة للبحث عن أوطان عربية في جنوب الوطن العربي في إفريقيا.

- نعم ويجب أن يضطلع بهذا الدور باحثون متخصصون، كل في مجاله، وقد وجدت من خلال التسجيلات «السمعبصرية» التي أحملها معي، يبادر أحدهم بأن ينسب هذه المشاهد لمناطق في الصومال وسواكن بالسودان، ولكنها، كلها، في ساحل حضرموت. وعوائل الآلات الموسيقية الثلاثة المستخدمة - كما هو تقسيم كوردساذكس الذي ما زلنا نستغل عليه - ستجد حضورًا لآلات معينة كالطنبورة أو السمسمية في بورسعيد، التي لا تكون بالحضور نفسه في حلب أو الجزائر العاصمة، وليست هناك في بغداد، ولكنها موجودة في البصرة، على شكل طنبورة كبيرة، تشي بالأواصر الميثولوجية والجذور السحرية في هذه الطقوس.

  • وتشير أيضا إلى تلك الرحلة البحرية التي عبرت من البصرة جنوباً، وصولا إلى اليمن وسواحل إفريقيا. وهي أيضا رحلة عكسية.

- وما طرحناه الآن هنا، يستدعي أن نتكلم عن عروبة بمعناها الثقافي الرحب الذي يتسع للأنسنة وليس للنقاء العرقي، وهو نقاءٌ لا يوجد حقيقة، ولم يوجد، ولن يوجد.

  • أنت أشرت إلى أنك تحمل مكتبة موسيقية وهنا أسأل عن دور اليونسكو، الحامي للتراث الشفاهي، والتراث غير المادي، في تدوين وتوثيق هذه الفنون؟ هل هناك مؤسسات عربية كالجامعة العربية، أو مراكز إقليمية، أو هيئات وطنية تقوم بهذا الدور، حتى لا يكون حفظ هذا التراث الذي يمكن أن يؤسس لدراسات مستقبلية مجرد دور فردي؟

- لا شك أن سؤالك يأتي ويحمل معه نصف الإجابة. فهناك قصورٌ كبيرٌ في هذا المجال، وفي توظيف السياسي لمصلحة الثقافي. فنحن لا نلتفت إلى الدور الخطير الذي يقوم به الفن عامة، والموسيقى والفنون الأدائية بدرجة خاصة، في إعادة الكتابة. البداية تأتي مع الوصول إلى درجة من الوعي وهو ما أحاول أن أمارسه من خلال دوري في المجتمع كمثقف عضوي. أشتغل على هذا وذاك لأنني أرى أن تلك الجوانب تتكامل. والسؤال: هل هناك وعي كاف بالأهمية الزمانية لهذه الأرشفة؟ ونحن نتحدث عن تراث شفاهي يتغير كل يوم، في طريقه إلى الاندثار. مع الأسف لا يوجد. من ناحية أخرى، سؤالي عن عدم استخدامنا للعلوم المساعدة للتاريخ، وتاريخ الفن والموسيقى يدخل من ضمنها. حتى - كما قلت - باستخدام الدراسات الجينية، أن تعيد بناء وتركيب تاريخ ما مضى من خلال استقراء وتفكيك البنى المكونة هنا.

فعندما يغيب الجمال والتربية الجمالية وهي مشروع تربوي غائب في حياتنا، نجد استشراء القبح وأمراضه، كالتطرف، وضيق الرؤى.

  • دون أن ننهي حديثنا عن ذلك التأثير المتبادل مع الشرق الإفريقي، سننتقل معكم إلى تأثيرات أخرى، وهي بالمثل لقيت منكم عناية كبيرة، وأعني بها التأثيرات اليمنية في الفنون الخليجية.

- دراستي عن الصوت في منطقة الخليج، ولدي كتاب آخر عن جذور الأغنية اليمنية في أعماق الخليج. وبدأت بالبحث عن الحقيقة، وهو هاجس يسكنني. ولا تأخذني العزة بالإثم أن أعود عن بعض الأفكار التي تتكشف لنئوب إلى صوابها. وقد وجدت أن التثاقف الخليجي اليمني في الجانب الموسيقي مادة خصبة. ستجد أن نحو 80 بالمائة من نصوص (الصوت) هي لشعراء يمنيين حُمينيين، وقد جاءت كما جاء تبادل السلع عبر الخط البحري. ولكن في الجانب الغنائي وهذا ما خبرته لنشأتي في بيت علم واطلاع بالموسيقى مقارنة بآخرين عندما نسمع الإيقاع للصوت الكويتي، سواء كان السداسي (6 على 4) العربي، أو الرباعي (4 على 4) الشامي، في مدينة مثل عدن التي لا نشك في يمنيتها نقول: ها هو صوت كويتي. لأن الحقيقة تقول إن البحارة جاءوا بهذا اللون. لقد واجهتُ باحثين من حضرموت يشككون في يمنيتي!

لقد عانيت لأنهم لم يزوروا تلك المناطق واكتفوا بتلك الحرب الإعلامية والتقاطع معها بشكل ما، فارتبك المنهج عندهم. ولذلك تبحرت في هذا المبحث، واكتسفت أنه حتى فكرة نشوء نادي الأدب العربي في أواخر عام 1925م في عدن هي فكرة لعبد العزيز الثعالبي عندما رأى حين قدم إلى منطقة الخليج فرأى نادي الأدب العربي الأول - كما يؤرخ له الشاعر الكويتي خليفة الوقيان بناء على مصادري - أنه قال لهم، وكان له صديق كويتي هو الشيخ خالد عبد اللطيف الحمد الذي عاد فيما بعد طفرة البترول ليؤسس أول بنك وطني وهذا أيضا تثاقف اقتصادي. فقد كانت هناك بنوك في عدن نظرًا لانتعاشها الاقتصادي. فربما جاء بالفكرة من اليمن ليؤسس بنكه بالكويت. وبالمقابل قال لهم لماذا لا تنشئون ناديا للأدب العربي في عدن؟ وتكوَّن النادي وكان رئيسه القومندان، الشاعر أحمد فضل العبدلي، وكان القومندان لقبه تصحيفا لكلمة Commander وهي رتبة عسكرية. كان سكرتير ذلك النادي هو جدي لأمي، المثقف المستنير محمد علي لقمان. وعضوية النادي في مدينة عدن كانت لأربعة أشخاص أحدهم هو الشيخ خالد عبد اللطيف الحمد نفسه. ويستغرب مثالا النقاد، ومنهم الأستاذ هشام علي، وكيل وزارة الثقافة، فيقول: هل يعقل ذلك؟ نحن كنا روادًا في الصحافة؟ ويغيب عنهم أنه حتى عصر تسجيل الأسطوانات بالنسبة للصوت قد بدأ مثلا في حوالي العام 1927.

ونعرف أن فنانين مثل الفنان عبد اللطيف الكويتي وعبد الله فضالة وبعض مطربي البحرين مثل محمد بن فارس وضاحي بن وليد ومحمد زويد قد سجلوا أسطواناتهم في بومباي، وفي بغداد، وفي دمشق وفي القاهرة، في العشرينيات، ولم يكن قد سُجِّل غناءٌ يمني. فيذهبون إلى تلك المراكز لتسجيل ألأسطوانات، ثم يأتي بعد ذلك دور الباشتخته (الجرامفون) ليصل إلى اليمن فيسمعها من يسمع ويتشبع بها. أما عملية تسجيل الغناء اليمني فقد بدأت عام 1938م. فهل يستطيع الباحثون والنقاد أن يسدوا هذه الفجوة التاريخية؟ البداية كانت محلية فقد سجل المطربون اليمنيون أسطواناتهم في الداخل، وقد انتظروا شركاتٍ مثل بارلوفون لتأتي وتسجل لهم في عدن غناءً يمنيا متنوعًا، بل وسجلوا حتى أسطوانات يكتبون هم عليها - وهي كانت تصدر مرفقة بكتيب صغير للأغاني إغراء للقاريء - على سبيل المثال «صوت كويتي، للفنان اليمني صالح العنتري»، وكثيرًا ما لا يكتبون اليمني، وكان يجب أن يسمى الغناء بنسبه.

  • الدكتور نزار غانم .. في خضم أحداث كثيرة، اقتصادية واجتماعية، سياسية ورياضية، ثقافية وفنية، تشيع قطرية بغيضة، ويتم الحديث وفقا لعنصرية اتفاقية سايكس بيكو، فقد رفضنا الاستعمار لكننا لم نرفض تطبيقاته القسرية. وكأن الحضور الجغرافي هو الذي يتحكم بمظاهر الحضور الأخرى، وقد كنا رقعة واحدة، تاريخية وجغرافية، كيف نقاوم ذلك التشتت الذي يأتي مرة باسم المركز والأطراف، ومرة أخرى باسم المصالح الوطنية، وقد تأتي تسميات أخرى لاحقة؟

- لقد أدهشتني، فكأنك فتحت المخ وقرأت ما فيه. وتلك هي المرة الأولى التي أحاوَر فيها بمثل هذا الحوار الدسم الراقي. والحقيقة أننا نحتاج إلى إعادة قراءة للتاريخ، بنظرة معايشة للمستقبل الآتي، فإذا كانت تلك من الأخطاء التي حملناها جيلا بعد جيل، واستفحلت بسبب تقسيم الدول العربية في مرحلة من المراحل إلى دول بترولية ودول غير بترولية وهذا في حد ذاته أدى إلى إرباك كبير، وصدق من قال إن الاقتصاد هو من يتكلم في النهاية ويتحكم في منطق التاريخ، وهذا النادي، نادي الدول البترولية، أربك المشهد بسبب تصادمات المصالح، عندما يصبح الإنسان أكثر ملكية من الملك، ويكون الحديث لما بعد سايكس بيكو، عن أننا طبقنا ما قرر بإجادة. وأصبحنا تلاميذ ممتازين له.

أذكر لمحمد عبده غانم قصيدة بعنوان جواز السفر، وكيف أنه يجد بجواز سفره اليمني - يجد التقدير في مطارات العالم (قبل الإرهاب طبعًا)، وقد رافقته أنا في معظم أسفاره من كندا إلى كوريا، وتبدأ المشكلة عندما كنا نحط في مطار عربي. ولا نسمي بلدًا لأنها تكادُ تكون ظاهرة عامة! وفي النهاية يعودون إلى السؤال عن: من أنت؟ وليس ماذا أنت؟ وهذا أهم فيصل في كفاحنا من أجل المجتمع المدني. وأن يكف الإعلام العربي عن التباهي، وهو يتباهى دائمًا ليس فقط بالقطرية، ولكن حتى بالمناطقية، نسبة إلى المنطقة وليس إلى المنطق!

  • نأتي إلى جانب أجلنا الحديث عنه، ولكن لا يمكن إغفاله. فأنت طبيب، وكذلك باحث في مجال الطب، ولأبدأ من ذلك العنوان المثير لمؤلف نشرته عن مصادر دراسة الطب البديل في اليمن؟

- كان ذلك في العام 2000، وأنا بصدد إعادة كتابته، وسوف أتحفظ على كلمة (البديل) لذلك سأعيده كاتبًا مصادر دراسة الطب المكمل في اليمن، والعودة إلى الحق ليست عيبًا. أهم ما في هذا الكتاب هو عنايته بالبحث في المصادر اليمنية عن تلك النصوص الطبية في المصادر والوثائق اليمنية. علاجا لغياب دور رجال التاريخ في اليمن من الاشتغال عليه خوفا من غياب المعرفة الطبية المعاصرة، فيخشون من المعاتبة في هذه الناحية. وبالمثل هناك فراغ بين الأطباء اليمنيين المعاصرين باستثناء الدكتور أحمد الشريف الذي أولى اهتمامه لجوانب ثقافية أخرى، ولم يتنبهوا إلى النقوش السبأية التي تتحدث عن الأمراض. ومن هنا كانت فائدة جلوسي إلى المؤرخ مطهر الإرياني - أطال الله في عمره - فقد خصني بقائمة عن عدد من تلك النقوش التي تسمى الأمراض.

شركاء المستقبل في التنمية

  • الدكتور نزار غانم .. كانت لكم دعوة لإنشاء مشروع العيادة المجانية للمبدعين في اليمن .. حدثنا عن هذه التجربة؟

- النية تسبق العمل، ويتولى القلب أحيانا التفكير عوضا عن الدماغ. فعندما عدت بعد رحلة الغربة عن اليمن إليه، بعد الدراسة التخصصية في بريطانيا، والعمل في أكثر من مكان، كنت أريد أن أكون ما يسمى الآن مؤسسات المجتمع المدني. كنت لا أريد أن أسمي جمعية خيرية من الناحية النمطية. كان مسعاي نوعًا من التأثر بمحمد عبده غانم ومحمد علي لقمان لأن كلاهما أسهما في تأسيس عددٍ من هذه المؤسسات، وإذا كان الغرب يقول إن دور مؤسسات العمل الاجتماعي الأهلي هو مهم ومكمل، للمجتمع المدني وحقوق الإنسان، فنحن قد مارسناه فعلا، وقد تحدثنا عن نادي الأدب العربي، وهناك نادي الإصلاح العربي، وهو جمعية تأسست عام 1939، كانت كلمة (عربي) في معناها أشمل من الإسلامي (تعليقا على تسميته بنادي الإصلاح العربي الإسلامي على عكس ما تبينه لافتة رآها د. نزار غانم في مكتب والده). وقد أسس والدي حلقة شوقي، ثم أول ندوة للموسيقى العدنية، وكان هناك اهتمام بالرياض فتأسس نادي الصيرة للتنس الذي ظل رئيسًا له لحوالي عشرين سنة (الصيرة موقع جميل في مدينة عدن).

كنت أحاول أن أرد لهذا الوطن الذي حكمت على أبنائه بالهجرة، فدعوت بعد الوحدة اليمنية سنة 1990 إلى أن تكون عيادتي مجانية للمشتغلين بالإنتاج الفكري، أو من نسميهم في اليمن بالمبدعين. كنتُ غاية في النشوة حين تمكنت من إنجاز هذا الأمر دون رقابة قانون العمل الأهلي الذي كان متخلفا جدًا، وكان قانونا بوليسيا، وناضلت ومعي آخرون، في مقدمتهم الفقيد عبدالعزيز السقاف إلى أن ولد القانون الحالي الذي يحمل الكثير من الشفافية والحرية، والرقابة والمحاسبة في الوقت نفسه، وإذا كنا ندعو للحياة المدينة، فكيف لا تكون حساباتنا معروفة للناس؟ وما لبث أن اهتم اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين - وخاصة في صنعاء - بهذا النشاط. وأخص بالذكر شخصيتين لولاهما لما كان هذا العمل يحظى بتلك المباركة. فقد نشأت هذه المنظمة لعلها في أول 1971م - اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين - وكان يرأس جلستها الأولى والدي مع الشاعر عبد الله البردوني - وقد نشأت وحدوية من البداية. وهي استثناء. فقد كانت ميزانيتها تسدد مناصفة بين حكومتي الشطرين. رغم ذلك استطاع شخصية كعمر الجاوي، أن يحافظ على استقلالها من الشطرين، ويحولها إلى أول منظمة وحدوية خالصة. فسجل اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين هذه الريادة.

كان هناك بالاتحاد أسماء مثل أحمد العواضي، واسماعيل الوريث، وعباس الديلمي، وكنت عضوا في اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، فقالوا عن مقصد عيادتي إنني أتيت بريادة لم تُسبق، وكانوا جهزا لوحة تحمل اسمي (عيادة نزار غانم للمبدعين). فقلت لهم من البداية، لا أريد اسمي، ولا أريد هذه الشخصانية، فقد أبدأ المشروع ويكمله آخرون. الآن بعد 18 سنة وقد أصبح اسمه (شركاء المستقبل في التنمية) بعد أن كبر العمل وتضمن أنشطة أخرى، ليصبح مؤسسة لها دورها الفاعل في مجتمعها.





الدكتور نزار غانم أثناء حواره مع أشرف أبو اليزيد، بمجلة (العربي)





الشاعر الراحل محمد عبده غانم





د. نزار غانم محاضرا عن الموروث الشعبي (سبتمبر 2007)





من مؤلفات نزار غانم





د. نزار غانم.. طبيب يعشق الموسيقى ويصادق العود