مدن العالم العربي

المؤلف: كلود شالين

هل هناك طابع أصيل للمدن العربية؟.. وهل امتدت معالم التراث المعماري العربي في تصميم هذه المدن بحيث تكون مناسبة للتكوين البشري الذي يعيش بها.. أم أنها قد سقطت في وهدة الطابع العصري وأصبحت مشاكلها جزءا من أزمة المدينة الحديثة؟

صدر كتاب" مدن العالم العربي " عام 1990 عن دار نشر ماسون في باريس، ضمن سلسلة "كتب جغرافية". وهو الكتاب الوحيد في هذه السلسلة الذي يتناول المحن الأساسية للعالم العربي بالدراسة والتحليل وفقا لمختلف المفاهيم الحديثة للعمارة والعمران والبيئة، وقد عكف على تأليفه أستاذ بجامعة السوربون يحتل مكانة مرموقة بين أقرانه.

وعلى الرغم من أن هذا الكتاب- الذي يقع في حوالي مائتي صفحة من القطع المتوسط- يتناول المحن العربية الحديثة، إلا أنه لا يعنى باهتمامات الجغرافي فحسب، بل يتطرق إلى مجالات الإدارة المختلفة التخطيط العمراني ليغطي طموحاتها بالعديد من الدراسات المقارنة والجداول والإحصائيات.

وأول ما يوضحه المؤلف في المقدمة هو استبعاده للمسميات المطلقة التي تربط أحد الأنماط العمرانية بإحدى الحضارات أو العقائد وخاصة الإسلامية. ذلك أنه بات من المعروف أن أتباع الإسلام خارج العالم العربي أكثر بكثير ممن يقيمون بداخله، ويذكر على سبيل المثل كلا من إيران والهند وإندونيسيا وإفريقيا الساحل وإفريقيا الشرقية. وكلها مدن وأراض عمرانية لم يتناولها في هذا البحث، وقصره على تسع عشرة دولة.

هوية المدن

وترجع أهمية هذه الدراسة- في نظر المؤلف- إلى الأهمية المتزايدة التي بدأ يكتسبها العالم العربي المعاصر مع تزايد المكانة السياسية والاقتصادية التي يحتلها في خضم الأحداث. وهي المكانة التي تتردد كثيرا في أحاديث المسئولين المحليين والقوميين الباحثين عن هوية وجذور ممتدة لمحاربة الزخم الناجم عن مشاهدة مسرح العمران الذي تتقاذفه تيارات الحداثة والعصرية وكأنها تطيح بكل مفاهيم التراث الأصيل دون أن يأتي بحلول مرضية لأزمة وظيفية كامنة.

وهنا يوضح كلود شالين أنه لم يتناول القضية الخالدة لتعبير، المدينة العربية عبر التاريخ"، بكل ما لها من مؤيدين ومعارضين. ذلك لأنه قام بالتركيز على التساؤل حول خاصية العمران العربي التي تظهر في مجال آخر، وذلك باستثناء مدينة القاهرة. إذ إنه من اللافت للنظر أن معظم إبحاث الجغرافيا المدنية أو المؤتمرات الدولية لا تشير إلى مدن العالم العربي إلا بالنزر القليل بالمقارنة بما يخصص لتعداد المجالات الثقافية الأخرى. فكل شيء يبدو وكأن النهج العمراني لهذه المدن لا يخضع لأي تحليل مقارن، رغم ثرائه الشديد وتنويعاته المختلفة. وهنا يطرح المؤلف العديد من الأسئلة من قبيل: هل يفهم من هذا أن المدن العربية لا يمكن إخضاعها للمناهج التقليدية لاستطلاعات العلوم الإنسانية؟ أم أن هناك نقصا في الباحثين وفي الإحصائيات؟ ألا توجد بعض الصعوبات الثقافية في كيفية تناول هذا العالم العمراني العتيد، الذي ظل منطويا لفترة طويلة ثم بدأ وضعه يتغير؟ هل يمكن أن نطبق عليه نماذج من التحاليل والتحولات المنقولة أو المتبعة مع غير؟ دون أن يكون في ذلك أي استخفاف أو إجحاف في تناول الموضوع؟

لذلك كله قام الباحث بتبويب كتابه ووضع خطته مهتما بموضوعات رأى أنها ذات قيمة علمية تحتاج إلى بيان، وذلك بجانب حقائق الواقع الملموس (المعيش)، في حدود الوثائق التي أتيحت له.

ويتكون الكتاب من بابين. يتناول الباب الأول دراسة القوى التي تؤدي إلى التطور العمراني من خلال ثلاثة فصول هي: الديمغرافيا وتعبيراتها الإحصائية اللازمة لتحقيق هوية المناهج العمرانية؛ التكوين والتراكمات المتتالية للإسهامات الثقافية والسياسية؛ ثم الأسس الاقتصادية والوظيفية المعاصرة المسئولة عن وسائل التطور والتغير الاجتماعي. أما الباب الثاني، وهو أكثر إسهابا من الباب الأول، فيتناول ديناميات المساحة العمرانية وتطابق أدائها مع احتياجات سكان الحضر المختلفين اجتماعيا، ثم السياسة الخاصة بالإسكان والعقارات ومواجهة هذه السياسات مع المواقف الصراعية الصعبة الناجمة عن تشعب أطراف المدن؛ ثم مواجهة هذه السياسات مع مشاكل وسط المدينة. أما الفصل الأخير فيناقش فيه بعض الملامح المميزة لمشاكل إدارة البلديات.

العالم العربي.. الوحدة والتنوع

ومن الواضح أن مجمل العناصر المكونة لمختلف فصول هذا الكتاب يؤدي إلى قضية: وحدة أو تنوع العالم العربي؟ لذلك يتساءل المؤلف عما إذا كانت بعض العوامل الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية مسيطرة بقدر كاف بحيث تسمح بالتعرض لمختلف المدن المدروسة، أم أن عناصر الاختلاف بينها من العنف والحدة بحيث تؤدي إلى تفتيت كيان المساحة الثقافية العربية؟ ويبدو أن الإجابة تفرض نفسها فيما يتعلق بالمنطقة الواقعة فيما بين الشطآن المغربية والموريتانية حتى مشارف التخوم الإيرانية؛ لأن هناك حتميات تتحكم اليوم في ديناميات العمران ناجمة عن الثروات المختلفة والمتفاوتة للبترول. لذلك يقوم المؤلف بتقسيم مجال بحثه إجمالا إلى:

(أ) بلدان غنية وقليلة التعداد نسبيا مثل المملكة العربية السعودية، وليبيا، والتي ستؤدي فيها إمكانية العمران الإرادي المتدفق إلى طفرة ستمثل علامة من العلامات المهمة في تاريخ العمران العالمي، وذلك خلال جيل واحد من الزمان.

(ب) بلدان ذات دخل محدود كثيفة التعداد مثل المغرب، وسوريا، ومصر، والتي يمكن أن تطبق فيها المفاهيم المستخدمة في البلدان النامية لفهم الأعراض المتعددة لأزمة الإسكان المؤكدة بصورة أو بأخرى.

(ج) بلدان في موقف وسط مثل الجزائر، والعراق، والتي لا تكفي عوائدها البترولية المهمة إلا لتغطية الضرورات الناجمة عن الضغط الديمغرافي وطموحات برامج التنمية.

الميراث العمراني

وتعد الطاقة الخلاقة والزمن العمراني من أهم المحاور التي يدور حولها الباب الأول، ذلك لأن العالم العربي يساهم اليوم، وبشكل لا يمكن إغفاله، في التضخم أو الانفجار السكاني الذي يضير مجمل البلدان النامية ويتساءل الباحث عما إذا كان العالم العربي هذا يعرف- في نطاق مساحته الجغرافية الحالية- نوعيات مميزة ناجمة عن تعارض وتراكمات الميراث العمراني الشديد الثراء والمتوارث عبر التاريخ؟ وهل يتبع أساليب مبتكرة تتسق وثراءه وعقوله المفكرة؟

وفي محاولة لتقييم الإحصائيات العمرانية في العالم العربي المعاصر، يرى الباحث أن المساحة الجغرافية للعالم العربي ذات شقين أساسيين. فهي من ناحية تمثل التراث الكبير لحياة البدو والترحال. ومن ناحية أخرى فإنها تمثل المهد الذي تفتحت فيه تاريخيا أول الحضارات العمرانية. وإذا ما استطاع هذان النمطان أن يتجاورا طويلا، فمن الواضح اليوم أن النمط الأول ينكمش بسرعة، بينما يتعرض النمط الثاني، أي حياة الحضر، إلى تعميم مطرد بفضل تغيير اجتماعي اقتصادي وتشجيع ضمني من الحكومات المعنية. والمؤلف في هذا الباب- بعامة- يهتم بتقديم معطيات موضوعية بقدر الإمكان، فيما يتعلق بالموقف المعاصرة في مستويين: تناول كل دولة وفقا لخصائصها ووفقا لمساحتها الثقافية العربية في إجمالها؟ مما اقتضاه مراعاة نقطتين هما:

(أ) محاولة التوصل إلى مسميات موحدة فيما يتعلق بالحدث العمراني، ومحاولة تحديد مفهوم الحضرية والممارسات التي تتم فيها بأكبر قدر من الدقة، وذلك لاتساع نطاق الغزو الريفي إلى المدينة. ولما كان معظم هؤلاء النازحين أميين وغير مستعدين للاندماج بسهولة في التقاليد الحضرية، فإن ذلك يؤدي إلى مواجهات بين جماعات غريبة تماما بعضها عن بعض.

(ب) محاولة تقديم أكبر قدر ممكن من الدراسات حول عملية المد والتداخل بين مختلف أنواع التكتلات السكانية وعلاقاتها المتبادلة والمتداخلة، وتأثيرها على الأنظمة العمرانية التي يمكن أن تتمخضى عنها. وإن كان يأسف لذلك التفاوت الواضح في نسبة المعلومات المتاحة فيما يتعلق بمختلف المدن العربية.

الطابع الأصلي للمدن العربية

أما الباب الثاني فتعتمد محاوره الأساسية على ديناميات المساحات العمرانية. لذلك تناول الباحث الواقع الحضري على النطاق المحلي، معتمدا على السكان من خلال التحولات الفيزيقية والبنيانية للمساحة الخاصة بهم، موضحا كيفية تمدد للون العربية واتساعها الزاحف. ثم يتساءل عما يحدث في النسيج القديم والمستمر للمدينة حيال التدخلات المختلفة؟ وهل يؤدي إلى بوار عمراني أم إلى إعادة بناء المدينة على نفسها؟

ويوضح المؤلف. أن الإجابات عن هذه الأسئلة وغيرها ستؤدي إلى التعرف على الطابع الأصلي للمدن العربية المعاصرة بالنسبة لمدن البلدان الصناعية من جهة، وبالنسبة لمدن البلدان النامية من جهة أخرى. لأن كل المدن العربية- في نظره- وأيا كان حجمها، تعاني منذ عدة عقود من عملية تحول مزدوجة. أي تكثيف وظيفي استيطاني للنسيج البشري القائم، وتمدد رهيب في الأطراف- أو ما يعرف جغرافيا بعملية. تكثيف مركزي ولا مركزية نسبية- مما دفع الباحث إلى أن يفرد الفصل الأخير لدراسة مشكلة من المشاكل الأساسية لتجهيز وإدارة. المدن، ألا وهي: المياه

ومن أهم المشاكل التي تناولها في هذا الباب الأخير، المشاكل الناجمة عن ندرة المياه، أو ما أطلق عليه تعبير "زمن المياه النادرة الثمينة ". وهكذا تطرق لمختلف الصعاب المترتبة على ندرة المياه وفقا للطبيعة الجغرافية لكل منطقة، مثل جر المياه، وضخها، وحفر الآبار، وإقامة الخزانات أو السدود، وتحويل المجرى، أو نزع الملوحة.

ملامح عامة.. وأزمات

وينتهي المؤلف في الخاتمة إلى بعض الملاحظات الأساسية والتي قد تشكل ملامح عامة لموضوعه ومنها:

  • وجود هوية ثقافية واضحة في سائر المدن العربية، وإن كان ذلك يؤدي أحيانا إلى بعض التناقضات. ومعظمها راجع إلى الميراث المدني شبه الفريد والمرتبط باتساع العالم العربي. إلا أن المدن والأحياء القديمة تتراجع أمام التجديدات أو تتهاوى بسبب غياب الصيانة.
  • أن الدينامية الديمغرافية الشديدة لمدن العالم العربي تجعلها أشبه ما تكون بمجمل البلدان النامية- وإن كانت هناك بعض الخلافات- كما أن كل محاولات التخطيط بها ترتطم بديناميات القوى الاقتصادية التي تحبذ القطاع الثالث. وعادة ما يخضع هذا الأخير لمفاهيم مركزية لا علاقة لها بتنظيم المدن.
  • غياب أية سيطرة على المؤثرات التي تتحكم في المدينة، وهي ناجمة عن أزمات العمالة والإسكان، ومرتبطة بتضخم قطاع العمل غير المنظم وبالتمدد الرهيب للأحياء العشوائية. لذلك يرى الباحث أن مثل هذه المشاكل تؤجل- حاليا- أية محاولات جادة للإصلاح في مجالات البيئة والثلوث والتقليل من الأخطار المهددة للمناطق السكنية.
  • أن إدارة المدينة، وكذلك إدارة التخطيط، شديدة التبعية للسلطة المركزية وممثليها، مما يحد من نشاط البلديات أو الجهود المحلية من جهة، ويؤدي من جهة أخرى إلى استبعاد أية مشاركة فعالة للسكان في إدارة الأحياء العشوائية. كما أن هذه المركزية للسلطات المسئولة عن القرار يقابلها غياب شديد في الموظفين المختصين أو الأكفاء، ونقص عام في الإمكانات المالية، سواء من حيث الاستثمارات أو الصيانة.
  • المساحة الاجتماعية للمدن العربية شديدة التفاوت. وإذا ما كانت ثنائية التكوين فيما مضى، فقد أصبحت ثلاثية المستويات حاليا. مما يؤدي إلى عدم عدالة واضحة في الوصول إلى مختلف الخدمات والأجهزة الحضرية.

ويرى الباحث كلود شالين أن هذا التفتيت القائم في الحضر يقابله- في المستوى الأعلى- تفتيت في مجمل العالم العربي، مما لا يسمح بأي تعميم في معالجة القضايا العمرانية ويفرض ضرورة تناول كل نظام حضري قومي وفقا لمكوناته الاجتماعية والسياسية.