التتار والعالم الغربي تحالف قديم

التتار والعالم الغربي تحالف قديم

قرأت في مجلة العربي العدد 598 - أكتوبر 2008 م دراسة للدكتور قاسم عبده قاسم حول الوجه الآخر للعلاقة بين التتار والعالم العربي, وفي سبيل إثراء هذا الموضوع بما يمكن أن يوضح العلاقة بين العرب والتتار في تلك الحقبة وما بعدها, أود بيان بعض الشواهد التاريخية التي قد تعطي وجوهاً أخرى للموضوع محل البحث تكتمل معها الصورة, التي يستطيع من خلالها قارئ «العربي» الوقوف على تفاصيل تلك العلاقة بصورة أوضح وأكثر واقعية, وقبل الولوج في الموضوع أود تصحيح التاريخ الميلادي للعام 660 هـ, ليكون 1262 م, بدلا من 1662م الوارد خطا في الدراسة.

منذ العام «620 هـ/1223م» كان «جنكيز خان» قد أيقن أن أحلامه التوسعية في البلدان الإسلامية قد أشرفت على الانتهاء, متقاعسا عن هذا الحلم لمرض ألم به, فعاد إلى بلاده ومات فيها بعد أربع سنوات «624 هـ/1227 م» فتولى الحكم من بعده ابنه «اوغتاي», الذي لم يكن اقل عداوة للعرب والمسلمين من أبيه, فراح يعد العدة ويجمع المؤن والرجال لإعادة مجد عائلته وغزواتها وسلبها وتخريبها للبنية التحتية للحضارة العربية, فكانت له غزوات عديدة على البلاد العربية لعل أخطرها تأثيرا على عاصمة الخلافة «بغداد» تلك التي جرت في مدينة «اربيل» في كردستان العراق «628-633 -634 هـ/1231-1235-1236م» وكذلك قرب «سامراء» وسط العراق «636 هـ/ 1238م» وقرب «خانقين» وسط العراق «639 هـ /1241 م».

كما يعتبر بعض الباحثين أن سنة «639 هـ/1241م» وما بعدها انتقال استراتيجي في التكتيك العسكري للقبائل المغولية, إذ استهدفت بلدان «أوربا الشرقية» وأجلت لفترة من الزمن هجماتها على البلدان العربية المتفككة والمتنازعة بفعل دول الممالك ومحاصصاتهم الفئوية, وفيها استولت قوات «اوغتاي»على مدينة «ارزن» الرومية وأباحها لجنوده سلبا وتقتيلا مدة من الزمن, وفي هذه السنة كذلك توفي «اوغتاي», وحصل الصراع الداخلي على السلطة بين أبنائه وبين الفرع الثاني من أبناء «جنكيز» وهم أولاد «تولوي», حيث استولى على السلطة بعد فترة نزاع استمرت أربع سنوات «كيوك خان» ابن «اوغتاي» عام «644 هـ/1246 م», الذي اتخذ قراره باستمرار غزو «أوربا الشرقية» والتوغل فيها مستعينا بنفوذ وسلطة والدته وزوجة «اوغتاي» حيث مضى إلى «الكُرج» : وهم مسيحيون يسكنون جبال القبق «القوقاز» قال عنهم ياقوت في معجم البلدان: الكرج جيل من الناس نصارى يسكنون في جبال القبق فقويت شوكتهم حتى ملكوا مدينة «تفليس» ولهم ولاية تنسب إليهم وملك ولغة برأسها وشوكة وقوة وكثرة عدد, وبلاد الكرج اليوم تعرف باسم «جورجيا».

واتجهوا بعد جورجيا باتجاه بلدان أخرى في أوربا الشرقية فاحتلوا جميع البلدان الواقعة بين سلسلة جبال الأورال وشبه جزيرة القرم, وأحرقوا «موسكو», وأخضعت «أوكرانيا» و«بولونيا» للنفوذ العسكري التتاري وارتكبت فيها المجازر الوحشية, ثم واصلوا زحفهم ليصلوا إلى «ألمانيا» و«هنغاريا» اللتين لم تجدا بدا من الاستسلام, ثم واصلوا التقدم نحو النمسا وسواحل بحر الأدرياتيك, الأمر الذي دعا البابا «غريغوري التاسع» إلى مناشدة العالم المسيحي لصد هجمات المغول الكارثية, وفي عام «647 هـ/ 1249م» تجدد النزاع بين عائلتي «جنكيز», وفي هذه المرة استطاع أبناء «تولوي» السيطرة على السلطة, فانتقل الحكم إلى «منكوقاآن» الذي استطاع أن يغير من الإستراتيجية الحربية للمغول حيث وجه حملتين إحداهما إلى الشرق بقيادة أخيه «قوبيلاآن» ومهمته إخضاع ممالك الخطا (أقوام من الترك سكنوا آسيا) والتبت والهند, والأخرى توجهت نحو الغرب «العالم العربي», ولتبدأ مرحلة جديدة من الصراع بين العالم العربي والمغول وقد اختار «منكوقاآن» أخاه «هولاكو» ليقود الجيوش المغولية العازمة هذه المرة على إنهاء السلطة السياسية للخلافة الإسلامية في بغداد وغيرها من الحواضر العربية «وصولا إلى مصر «الإسماعيليون والمغول ونصير الدين الطوسي» - حسن الأمين, ص125.

لم يكن الأمر سهلا على التتار هذه المرة, فقد بدأت آثار الإنهاك والتعب تظهر على جيوشهم فكان لابد «لهولاكو» من أن يتخذ من أعداء الأمس من مسيحيي أوربا حلفاء له في هذه المعركة التي اعتبرها العالم التتري فاصلة بينه وبين العالم العربي, وعلى الرغم من أن قرار الغزو كان تصميماً مغولياً بحتاً, إلا أن اليد الأوربية المتشبثة بالحروب الصليبية هي التي قوت عزيمة هولاكو على هذا الأمر.

وقد كان يتزعم ويقود الحركة الصليبية ملك فرنسا «لويس التاسع» الذي أطلق عليه لفرط مغالاته لقب «القديس», والذي رأى هولاكو فيه حليفا كفؤا.

ساد الأمل جميع أوربا الطموحة إلى إقصاء المسلمين عن بيت المقدس, بل وإنهاء الوجود الإسلامي في بلاد الشام وانتزاع شأفته, فراح ملوك وأباطرة أوربا المسيحية يتهافتون على «قراقوم» لتعلن انضمامها إلى الحلف الأوربي المغولي, ولكن بمجرد موت هولاكو تجددت النزاعات في العائلة الجنكيزية ويبدو أن التتار بعد هلاك «هولاكو» وابنه أيقنوا أن التحالف مع الأوربيين لم يعد ذا جدوى بعد كل تلك الهزائم, وان هوس الحرب الصليبية سيأتي عليهم في القريب العاجل, فمالوا إلى إصلاح علاقتهم مع المماليك العرب في الشام ومصر وتبدد حلم «هولاكو» في الوصول واحتلال شواطئ المتوسط ولم يحدث ذلك إلا من خلال العلاقات الدبلوماسية مع العرب, وهو ما تمثله موجات التتار التي أشار إليها الدكتور عبده في دراسته والتي بدأت عام 660 هـ/ 1262 م وما بعدها.

ومن هنا فإن السبب في تغير المنهج العسكري للتتار في المنطقة العربية هو عدم إمكانية الوصول إلى نتيجة حاسمة ودائمة معهم تفضي إلى أن يكون التتار جزءا من النسيج الاجتماعي للمنطقة العربية, وما اعتناق ملوكهم الإسلام إلا دليلا على ضعف التتار من مواجهة المد العربي الإسلامي الذي بدأ يتصاعد خاصة بعد هزائمهم على يد «خليل بن قلاوون», بالإضافة إلى أن الصراع على الزعامة الرئيسية لقبائل التتار أدت إلى دخول هؤلاء الملوك في الدين الإسلامي بعد أن وصل الإسلام فكرا ومنهج حياة إلى مناطق حكمهم في منغوليا عن طريق إيران, وخاتمة القول أن العلاقات السلمية أو الإيجابية بين التتار والعرب لم تكن لتكون وفق الصورة التي يرسمها الدكتور عبده إلا من خلال احتواء الفكر الإسلامي العربي لوحشية الأقوام التتارية وهمجيتها, فأضحى الإسلام قانونا حياتيا ودستورا أخلاقيا يستضيء بنوره ملوك التتار وأقوامهم الهمجية.

حسين جويد الكندي
باحث وأكاديمي من العراق